الصُّوفيَّة والروحانيّة المسيحيَّة [3]: ما هي أوجه التشابه بينهما؟

في المقالات السابقة، تحدثنا في عُجالة عن نشأة التيار الصوفيّ داخل المسيحيّة في مقابل الروحانيّة الكتابيّة أو الحياة الروحيّة التي يقدمها لنا الكتاب المُقدّس. ولكن قبل تناول أهم أوجه الاختلاف بين التصوّف المسيحيّ والروحانيّة الكتابيّة، لننظر إلى أوجه التشابه بينهما. فما أيسر الإشارة إلى نقاط ضعف الصوفيّة الآن، ولكن قد يُساعدنا النظر إلى التشابه بينهما، على الأقل، على فَهم لماذا ينجرف البعض بعيدًا عن الروحانية الكتابيّة نحو التصوّف. فقد نجد الإجابة في التشابه بينهما والذي قد يظن معه البسطاء أنه الشيء ذاته.


ما هي بعض أوجه التشابه بين التصوّف المسيحيّ والروحانيَّة الكتابيّة؟

أولًا، يشترك المتصوّفة المسيحيون مع سائر المؤمنين بعقيدة الثالوث. فبخلاف سعي بعض التيارات الأخرى التي تدّعي المسيحيّة (مثل المورمون وشهود يهوه) إلى تَتَبنى إما الآريوسية أو تعدد الآلهة، علينا أن نُقَدر التزام التيارات الصوفيّة المسيحيّة بعقيدة الثالوث. فهم يؤمنون بالآب صاحب المبادرة والسُلطان، والابن مُتمم الخلاص، والروح القُدُس مُطبق الفداء.

ثانيًا، يدرك المسيحيّ الصوفيّ أن الله مُتسامٍ جدًا وقريب في آن واحد. بالرغم مِن انتقادنا لعدم اتزان بعض معتقداتهم اللاهوتيّة، إلا أنهم يؤمنون بأن الله المتسامي له مُطلق السلطان على كل شيء، وأنه كذلك دائم الحضور وسط شعب عهده.

ثالثًا، يدرك المسيحيّ الصوفيّ أن رؤية الله هي الخير الأعظم. فجميعنا نشتاق إلى يومٍ سنرى فيه الله كما هو (يوحنا الأولى 3: 2)، وجهًا لوجه بدلًا مِن أن نراه كما في مرآة، وسنعرفه معرفة كاملة، تمامًا كما عُرِفنا (كورنثوس الأولى 13: 12).  لا يكتفي المسيحيّ الصوفيّ بانتظار حدوث ذلك في المستقبل، لكنهُ يرغب بشدة في اختبار كل ملء الله (أفسس 3: 19) والعمق الأبدي لبهجة الوجود في محضره الآن (مزمور 16: 11). كما يشتاف المسيحيّ الصوفيّ بحق أن يكون في اتحاد مع الله وأن يصير مع إخوته “شُرَكاءَ الطَّبيعَةِ الإلهيَّةِ” (بطرس الثانية 1: 4). ولا يُمكن لأحد أن يلومه على سعيُه باجتهاد لنوال الخير الأعظم في كل الأرض.

رابعًا، يدرك المسيحيّ الصوفيّ ضرورة المقابلات الشخصية والخاصة مع الله باعتبارها عنصُرًا أساسيًا مِن عناصر الحياة المسيحية. وعلى الرغم مِن نقد الذي سنقدمه لاحقًا لمعتقداتهم، يجب أن نمتدح جديتهم تجاه وصية يسوع: “وأمّا أنتَ فمَتَى صَلَّيتَ فادخُلْ إلَى مِخدَعِكَ وأغلِقْ بابَكَ، وصَلِّ إلَى أبيكَ الّذي في الخَفاءِ”، ويؤمنون بوعده: “فأبوكَ الّذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً” (متى 6: 6).

خامسًا، يشترك معنا المسيحيّ الصوفيّ في إدراك أهمية التشديد على القلب. فقد نمتلك المعرفة والتصديق، دون الثقة. قد نمتلك معتقدات عظيمة ونؤمن بأشياء عظيمة عن الله، ولكن سنظل في حالة نقص روحيّ ما لم نتقدم إليه بثقة كاملة، ساعيين إلى أن نُحبه مِن كل كياننا، وعقلنا، وروحنا، وقوتنا، وقلبنا.

سادسًا، يؤمن المسيحيّ الصوفيّ أنه يوجد عناصر سرائرية في اللقاء مع الله قد تتحدى التفسير العقليّ. وهو يبتهج بما لا يمكن استيعابه بالكامل، ويقف في اندهاش أمام “غِنَى المَسيحِ الّذي لا يُستَقصَى” (أفسس 3: 8) ومحبة الله “الفائقَةَ المَعرِفَةِ” (أفسس 3: 19) وطُرقه التي لا يُمكن استقصائها (رومية 11: 33). كما يفرح بحقيقة أنه لا يقدر أحد أن يعرف فكر الرب بالكامل (رومية 11: 34).

وأخيرًا، يؤمن المسيحيّ الصوفيّ أن مقابلته مع الله لا يُمكن أن تنبع مِن ذاته. فالأمر لا يقع تلقائيًا، بل أن هناك جهد عليه القيام به. فالمسيحيّ الصوفيّ، حتى وإن كان تطبيقه ناقصًا، يؤمن أنه يجب أن تحدث له استنارة أو يقظة حتى يتسنى له إدراك الحقيقة الإلهيّة. كما أنه يسعى نحو بهجة الاستنارة، ويفعل كل هذا ليعرف الله ويكون معه – حتى ولو ضحى بالكثير من وقته، وموهبته، وأثمن ما لديه.

في ضوء ذلك، يوجد العديد مِن الجوانب الجديرة بالثناء في التصوّف المسيحيّ، خاصة فيما يتعلق بالاشتياق والجوع نحو الله. ولكن لسوء الحظ، يوجد الكثير مِن القصور في الممارسات والمعتقدات اللاهوتية مما يُظهر أن المسيحية الصوفية لا ترتقي إلى الصورة الكتابية للروحانية. وهذا ما سوف نناقشه في مقالنا القادم.

شارك مع أصدقائك