الصُّوفيَّة والروحانيّة المسيحيَّة [1]: لمحة تاريخيّة عن الصوفيّة

كثرت في الآونة الأخيرة الأحاديث حول الصوفيّة وتم خلط الأوراق بينها وبين الروحانيّة الكتابيّة الحقة. في هذه السلسلة الجديدة سوف نتناول كل ما نحتاج معرفته عن الفرق بينهما. وسنبدأ في هذا المقال بلمحة تاريخية عن الصوفيّة وأبرز روادها.

لماذا يَصْعُب تَعريف التَّصَوُّف؟

إن مُصطلح التَّصَوُّف معروف بغموضه وتعقيده. فيمكن لبعض التعريفات أن تكون شديدة الخصوصية لدرجة استبعاد أولئك الذين قدموا أنفسهم باعتبارهم مُتَصَوِّفة. كما يُمكن للتعريفات أن تكون مبهمة للغاية من دون استبعاد أي شيء تقريبًا. وقد أدرك العلماء على مر العصور صعوبة تقديم تفسير شامل يُلخّص مئات السنين من الممارسات. وكما قال إيفان ب. هوارد أنه لا يوجد تعريف واحد يُغطي كل الشروط الكافية والأساسية للتَّصَوُّف، ولا يوجد إجماع على مُصطلحات مُعينة لتعريفه. ومع ذلك، هذا لا يعني أننا لا يُمكن أن نُقدم شيئًا مُفيدًا.

هل هناك تعريف مناسب للصوفيّة؟

قَدّم الفيلسوف واينفريد كوردوان (Winfried Corduan) تعريفًا عامًا يشمل مُجمل المعتقدات الصُّوفِيَّة قائلًا عنها أنها:

ارتباطًا مباشرًا بالمُطلَق.

لاحظ كوردوان أن الأفكار التي يُعبر عنها ذلك المُعتقد ضمنيًا هي:

  • يوجد مُطلَق،
  • يختلف ذلك المُطلَق عما تُدركه الحواس،
  • أن التواصل مع ذلك المُطلَق ممكنًا،
  • أن الاتصال بين الساعي والمُطلَق هو مباشر وبدون وسطاء.

ينطبق هذا التعريف على المُتَصَوِّفة المسيحيين كما على متصوفة الديانات الشرقية (مثل الهندوسية) والإسلام التي لديها اتجاهات صُوفِيَّة شديدة.

ما هو التَّصَوُّف المسيحيّ؟

يُقدم دي. دي. مارتن تعريفاً عمليًا جيدًا للعناصر الرئيسية التي تنطوي عليها ممارسات ما يُسمّى بالصوفيّة المسيحيّة:

يسعى التَّصَوُّف المسيحيّ إلى وصف محبة معرفة الله المُختَبَرة، المباشرة، غير المُجَرَّدة، والتي بلا وسطاء، على أنها في الأساس معرفة أو رؤية مُباشرة لدرجة أنه يُطلق عليها الاتحاد مع الله.

كل عنصر من عناصر هذا التعريف بالغ الأهمية، ويُمكن توضيح تلك العناصر من خلال الإشارة إلى ما يرفضه التَّصَوُّف المسيحيّ.

أولًا، إن اللقاء مع المطلَق الإلهي هو أمرًا اختباريًا وليس فقط نظريًا. فإن الهدف هو الشَركِة مع الله، وليس مجرد معرفة معلومات إضافية عنه.

ثانيًا، إن التواصل مباشر، وليس غير مباشر. فإن الهدف ليس مجرد معرفة المزيد عن الله، بل معرفة الله نفسه.

ثالثًا، إن المعرفة التي يسعى نحوها المتصوّف غير مُجَرَّدة: أي أنه يعرف ويرى شيئًا مُحَدَّدًا، ومحسوسًا، وحقيقيًا، وليس شيئًا غامضًا أو رمزيًا.

رابعًا، إن الاتصال أو المعرفة يجب أن تكون بدون وسيط. نعم، قد يكون للكتاب المقدّس وللمسيح دورًا، ولكن الهدف هو أن نتحد بالله نفسه بدون أي وسطاء—بلا مسافة تفصلنا عنه ولا مُشتَّتات.

أخيرًا، إن الهدف من كل هذه المعرفة هو المحبة. عندما كَتَب الرسول بولس عن المعرفة الكاملة، كما عُرِفَ بالكامل، كان ذلك في سياق أولوية المحبة والأبدية الراسخة (كورنثوس الأولى 13: 12).

ما هي بعض الأمثلة التاريخية عن التَّصَوُّف المسيحيّ؟

بسبب غموض المُصطلحات المُتعلقة بالتَّصَوُّف المسيحيّ، يُمكننا النظر إلى بعض الشخصيات التاريخية عبر تاريخ الكنيسة.

قدم أوريجانوس مفهوم “التَّفسير الصُّوفيّ” من خلال السعي للكشف عن مبادئ التَّفسير الروحي. كَتَبَ بولس أن “السر” كُشِفَ له بواسطة “الوحي”، وأراد أوريجانوس أن يستعيد هذه المعانيّ العميقة والخفية، التي تختلف عن المعاني الحرفية والواضحة.

طوّر ماكسيموس المُعترف ما عُرف فيما بعد باسم “اللاهوت الصُّوفيّ”، مع التشديد على العملية والمراحل التي ينضم من خلالها المسيحيّ إلى شركة حياة الله الثالوث.

بناءً على كيفية تعريفهم لبعض المُصطلحات، تم تصنيف شخصيات مِثل أوغسطينوس وتوما الإكويني، وجون ويسلي وجوناثان إدواردز على أنهم يؤمنون بشكل مِن أشكال اللاهوت الصُّوفيّ ويُمارسون شكلًا من أشكال المُمارسات الصُّوفِيَّة. مِن المحتمل أن يؤدي تضمين شخصيات مثل هذه إلى توسيع المُصطلح حتى لا نقدر استبعاد سوى عددًا قليلًا جدًا مِن الشخصيات منه.

لمعرفة التعريفات الأفضل للصُّوفِيَّة، يتعين علينا النظر إلى رواد التَّصَوُّف—أو المُدافعين عن اللاهوت والمُمارسات الصُّوفِيَّة—الذين هم شخصيات من القرن الرابع إلى القرن الثامن عشر مِثل غريغوريوس النيصي، النص المنحول لديونيسيوس الاريوباغي، جون رويسبروك، كتاب “سحابة المجهول”، جوليان من النورويتش، تيريزا الأفيلاوية، يوحنا الصليب، فرانسوا دي سيلز، فرانسوا فينلون، جورج فوكس (مؤسس الكويكرز أو جمعية الأصدقاء)، جون وولمان.

من بعض رواد الفِكر الرئيسيين في القرن العشرين هم: توماس ميرتون، وهنري نويين، وبرينان مانينغ، وريتشارد فوستر — الذي قدم أكثر بكثير من أي مؤلف آخر للإشادة بجاذبية التَّصوُّف للإنجيليين. هنا أمثلة أخرى، مِثل أيه. دبليو. توزر، الذي مارس شكلًا من أشكال ما يُدعى بالتَّصوُّف البروتستانتي، بطريقة أكثر تحفُظًا من نُظرائه الكاثوليك والكويكرز.

ما هي الطرُّق الصُّوفيَّة؟

تم تأسيس هذا المفهوم مِن قِبَل أكثر المتصوفين تطرفًا، وهم كُتّاب القرن السادس عشر الأشهر: تيريزا الأفيلاوية، صاحبة كتاب القصر الباطنيّ، والقديس يوحنا الصليب، صاحب كتاب ليلة الروح المُظلمة.

في كثير من الأحيان ستقرأ أن ” الطرُّق الصُّوفِيَّة” كما شرحوها على أنها عبارة عن طريق يتكون من ثلاث مراحل للوصول إلى الاتحاد مع الله:

  • اليقظة أو الصحوة،
  • التطهُر،
  • والاستنارة.

لكن هذا تعريف ناقص. فهذا هو الجزء الأول فقط مِن الطرُّق الصُّوفيَّة—الطُّرق التي اتبعها الكثيرون، ولكنها في نهاية المطاف عاجزة عن تحقيق اتحاد حقيقي مع الله. للوصول إلى ذلك الاتحاد المزعوم، يجب على المرء أن يمُر بحالة أخرى من ليلة الروح المُظلمة.

ما هي جميع المراحل المختلفة التي يمر بها المتصوّف؟

أول المراحل التي يختبرها الصوفيّ هي الصحوة أو اليقظة. وهي من الناحية النفسية، تُشبه لحظة بداية حياة الإيمان. يأتي الرجل أو المرأة وهم مُقبلين على الحياة ليروا ويشعروا بمدى جاذبية وحقيقة الحقيقة الإلهيّة. وهذا ليس عملًا في حد ذاته وإنما إدراكًا مُتزايدًا، غالبًا ما يغمُر الشخص بفرح وترقب للمزيد.

ثانيًا، يواجه الصوفيّ الصراع الحياتيّ بين ذلك الوعي الروحيّ المُتنامي مُقترنًا بارتباطهُ بالأشياء المادية (الأشياء الأرضية أو كل ما هو ليس فوق [أي سماويّ]؛ انظر كولوسي 3: 2) وأشواقه الخاصة التي تعمل ضد الأشواق الإلهية. ولابد من تطهير تلك الأشواق والارتباطات من خلال الانضباط والإماتة المُستمرة (يجب إماتة أعمال الجسد؛ انظر رومية 8: 13).

ثالثًا، يؤدي ذلك إلى حالة فائقة من الفرح حيث تستنير روح الصوفيّ. ففي هذه المرحلة، يكونون في صحوةٍ، متطهرين من جميع رغباتهم الفاسدة، ويصبحون مستعدون لرؤية الحقيقة الإلهيّة في ضوءٍ جديد. ترتبط تلك الخطوة في العملية الصُّوفيَّة بالرؤى، واختبارات مليئة بالنشوة، وبابتهاج لا يوصف. ولكن هذه هي المرحلة التي يقف عندها مُعظم المُتَصوّفة.

رابعًا، يُدرك أولئك الذين اجتازوا الخطوات السابقة أن حتى بهجة الاستنارة ترتبط بالذات، ويجب عليهم أن يستمروا في خوض مراحل أعمق مِن التطهير والإخلاء. بينما يربط العديد من المفسرين ليلة الروح المُظلمة بفترة غياب ظاهري عن الله أو صراع مع اكتئاب روحيّ، كان قصد يوحنا الصليب في الأساس شرح تجربة عميقة ومُظلمة حيث أن حتى الفرح بالتواجد في محضر الله يجب أن يُقتَل ويُطَهَر باعتباره نابع مِن الذات! بحسب تصوره، يجب على الشخص أن يموت ليس فقط عن ذاته الخاطئة (كما في الخطوة الثانية)، بل عن ذاته بالكامل!

وعندئذٍ فقط، سيختبر الشخص الخطوة الخامسة، حيث سيكون الاختبار الصوفيّ تحولًا حقيقيًا لا يوصف واتحاد مع المُطلَق، حيث تُبتلع الذات بالكامل في الإله مِن خلال عملية الاتحاد النهائية حيث يصبح الاثنان واحدًا.

يُمكن تقسيم الخطوات الخمس لسمو الروح على هذا النحو، حيث تكون الصحوة شرطًا أساسيًا للتطهير والاستنارة، بينما تكون الليلة المُظلمة للروح والاتحاد عنصرين مناظرين إضافيين للإخلاء يتبعهما حضور الله الذي لا يوصف.

1. اليقظة
2. التطهير 4. ليلة الروح المُظلمة
3. الاستنارة 5. الاتحاد

شارك مع أصدقائك