ما الذي حدث بين العهد القديم والجديد؟

ينقسم تاريخ الكتاب المقدس إلى فترتين عظيمتين: فترة العهد القديم (ويسجل أحداثها ٣٩ سفرًا من كتابات العهد القديم بدايةً من سفر التكوين وحتى سفر ملاخي وذلك حسب نسخة الكتاب المقدس المنتشرة في منطقتنا العربية والمعروفة بترجمة سميث وڤان دايك)، وفترة العهد الجديد (ويُسجِّل أحداثها ٢٧ سفرًا هي كتابات العهد الجديد بدايةً من إنجيل متّى وحتى سفر الرؤيا).

ومن الشائع تسميّة هذه الفترة التي امتدت لقرابة 400 سنة،[1] ما بين تدوين آخر أسفار الكتاب المُقدَّس اليهودي، وأول سفر دونه رسل المسيح ومعاونيهم، “فترة ما بين العهدين”. إلا أنها تسمية غير دقيقة لحد كبير. إذ أنها تُعطي انطباعًا وكأنها فترة توقَف فيها العهد القديم إلى أن قُطع العهد الجديد! كذلك، فقد بدأ العهد القديم في سفر الخروج. وكان سفر التكوين تمهيدًا لأحداث قَطْع العهد القديم بين الله وشعبه على جبل سيناء في الأصحاحات من التاسع عشر للرابع والعشرين من سفر الخروج، ثاني الأسفار المسماة بأسفار العهد القديم.

من جهة أخرى، فإن الوعد بعهد جديد دُوّن بالفعل في الأسفار النبوية التي تنتمي للعهد القديم (ارميا ٣١، وحزقيال ٣٦). ولم يُقطع إلا في الأصحاحات الأخيرة من الأناجيل الأربعة في العشاء الأخير فيما يسمى خميس العهد، والتي نقرأ عنها في الأصحاح السادس والعشرين من إنجيل متى:

“‏وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ ٱلْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى ٱلتَّلاَمِيذَ وَقَالَ: خُذُوا كُلُوا. هَذَا هُوَ جَسَدِي. ‏وَأَخَذَ ٱلْكَأْسَ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُمْ قَائِلاً: ٱشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، لأَنَّ هَذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغـْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا. ‏ وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي مِنَ ٱلْآنَ لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ ٱلْكَرْمَةِ هَذَا إِلَى ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ حِينَمَا أَشْرَبُهُ مَعَكُمْ جَدِيداً فِي مَلَكُوتِ أَبِي. ‏ ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ ٱلزَّيْتُونِ.” (متى٢٦:٢٦-٣٠)

والأهم من هذا وذاك، هو أن العهد القديم ظل مفعوله ساريَا حتى قطع الرب يسوع مع تلاميذه عهدًا جديدًا في الليلة قبيل صلبه والمسماه بـ “خميس العهد“، وبالتالي فالتسمية -بالفعل – يشوبها كثير من القصور، والأدق أن نطلق عليها الفترة ما بين تدوين آخر أسفار العهد القديم، وأول سفر دونه رسل المسيح.

خلال هذه الأربعمائة سنة، لَعَبَت أربع إمبراطوريات دورًا محوريًا منذ سقوط أورشليم على يد نبوخذ نصر ملك بابل في عام ٥٨٦ق.م. فيما يلي سرد للأحداث الهامة خلال سيطرة كل إمبراطورية.

١- الإمبراطورية البابلية (620 – 539 ق.م)

وصل نبوخذ نصر إلى سُدَة الحُكم في بابل، وهزم الإمبراطورية الآشورية، وسَبَى المجموعة الأولى من اليهود إلى بابل عام 605 ق.م. وكان من بينهم دانيال وأصدقائه (دانيال 1: 1-7). وكردة فعل على تمرد أورشليم، حاصر نبوخذ نصر أورشليم لمُدة عامين ودمر هيكل الرب الذي بناه سليمان عام 586 ق.م. ومن هنا يبدأ السبي الذي دام 70 عامًا في بابل.

يُعتَقَد أن مجامع العبادة اليهوديّة قد نشأت في تلك الفترة خلال السبي البابلي. ثم وما أن بدأ نجم الإمبراطوريّة البابليّة في الأُفول، بدأ سطوع إمبراطورية مادي وفارس (539 ق.م؛ دانيال. 5: 25-31).

٢- إمبراطورية مادي وفارس (539 – 313 ق.م)

فرضت إمبراطورية مادي وفارس سيطرتها على شعب الله القديم لأكثر من ٢٠٠ سنة،‏ منذ سقوط بابل سنة ٥٣٩ ق.‌م على يد الملك كورش الفارسي.‏ من أعظم ما قدّمه كورش لليهود، هو السَمَاح لهم بالعودة إلى إسرائيل. وقد عادت بعض المجموعات اليهوديّة إلى أرض الموعِد على ثلاث مراحل: الأولى مع زَرُبَّابِل، والثانية مع نحميا، والأخيرة مع عَزرا.

أعيد بناء الهيكل في عام 516 ق.م.

بدأت خدمة النبي ملاخي إلى العائدين من السبي عام 430 ق.م.

وفي عام 359 ق.م. قام فيليب المقدوني بغزو اليونان، ثم خَلَفَه ابنه الإسكندر الأكبر وصارت له الغلبة والسيطرة.

بدأ الإسكندر الأكبر في غزو بلاد فارس، وبناء مدن يونانية منذ عام ٣٣٢م، وفي إبَّان تلك الفترة انتشرت اللغة والثقافة اليونانية، إذ لم يكن الإسكندر الأكبر مجرد قائد عسكري، بل تأثر كثيرًا بمُعلّمه أرسطو الفيلسوف اليوناني المعروف، وسعى لنشر الثقافة والفكر الهيلينيّ (اليوناني).

٣- الإمبراطورية اليونانية

توفي الإسكندر عن عمر يناهز 32 عامًا في بابل وانقسمت مملكته إلى أربعة ممالك (323 ق.م) ـ تعاقب فيها البطالمة والسلوقيين على حكم اليهودية، ولكن الفترة الأطول كانت تحت حُكم السلوقيين.

في الإسكندرية، شجّع بطليموس فيلادلفوس على ترجمة الكتاب المقدس العبريّ إلى اللغة اليونانيّة، فيما عُرِف بالترجمات السبعينيّة للكتاب المقدس العبري LXX.

في تلك الفترة بدأ رؤساء الكهنة في لعب دور سياسيّ لقيادة شعب الله القديم.

من الأحداث الهامة في تلك الحقبة، وأثناء حُكم السلوقيّ أنطيوخس الرابع (أبيفانس)، هو دخوله للهيكل وتدنيسه إياه ببناء هيكل للإله زيوس في عام ١٧٦ق.م، فيما عرف بـ “رجسة الخراب”.

٤- صعود نفوذ الإمبراطورية الرومانية

منذ انتصار بومبي على أورشليم عام 63 ق.م.، بدأ نفوز روما يكون له اليّد العُليا في اليهوديةـ وكان سببًا مباشرًا في نهاية حُكم المكابيين الذي امتد من سنة 167 – وحتى 40 ق.م، والذي كان قد بدأ في اليهودية كحركة تمرّد ضد ما فعله أنطيوخس أبيفانس، واستمر حكمهم حتى عام ٤٠ق.م. عندما تولى هيرودس الكبير (الذي حاول قتل يسوع كما نقرأ في بداية إنجيل متى) حُكم اليهوديّة.

مكّنَ تودد هيرودس الكبير لروما من بسط نفوذه على اليهودية بمباركة روما. وقام بإعادة بناء وتوسيع الهيكل الثاني من عام ٩ ق.م والذي استمر بعد موته كعمل يسعى من خلاله ملوك أسرة هيرودس إضفاء شرعيّة ونفوذ على مُلكُهُم غير الشرعيّ حتى تدمير الهيكل عام 70 م.

في عصر الإمبراطورية الرومانية ولد يسوع المسيح في ٤ ق.م.، ويرجع ذلك الفارق الزمني إلى خطأ ارتكبه المؤرخ الروماني ديونيسوس أثناء حساب السنوات في تقويم الأحداث الذي طُلب منه.

خلاصة

إن أهميّة دراسة هذه الفترة (يهودية الهيكل الثاني) تُساعد قارئ العهد الجديد على إدراك كيف عَمَل الله في تلك الحقبة مستخدمًا أدوات بشريّة لتحقيق خُططه الأبديّة. مثل نبوخذ نصر الذي كان أداة الله في تأديب شعب يهوذا لكسره العهد وعبادة الأصنام، وكذلك كورش الفارسيّ حتى تتم إعادة بناء الهيكل في أورشليم، وبالتالي عودة اليهود إلى العبادة الهيكلية مرة أخرى في أرض إسرائيل. إن الله يستخدم من يشاء بطرق لا يُمكِن تصوّرها لتحقيق خُططه الكاملة.

في تلك الفترة بعد العودة من السبي رفَض اليهود عبادة الأصنام إلى غير رجعة. وبجانب الهيكل لعبت المجامع دورًا محوريًا في الحياة الدينية اليومية كأماكن للصلاة والتعليم وصارت مركزًا للحياة الدينية والاجتماعية. وبالإضافة لدور الكهنوت المُتمرّكز في هيكل أورشليم، لعب الكَتَبَة والفريسيّن دورًا موازيًا مكّنهم من بَسط النِفوذ الدينيّ في المجامع المنتشرة في كل اليهودية. وأخيرًا صارت اليهودية بوتقة تنصهر فيها التيارات والطوائف المتعددة: الفريسيون والصدوقيون والأسينيون. تم إعداد المسرح تمهيدًا لبطل الرواية الأهم في تاريخ البشرية: يسوع المسيح.


[1] يفضل بعض علماء الكتاب المقدس من اليهود والمسيحيين الحديث في المقابل عن فترة “يهودية الهيكل الثاني“، لأن الهيكل الأول (هيكل سليمان) دمره نبوخذ نصر في عام 586 ق.م وأعيد بناؤه عام 515 ق.م ـ وقت العودة من السبي في بابل. وبدأت آخر عملية ترميم له قبل الميلاد في زمن هيرودس الكبير، واستمر توسيع هذا المعبد إلى أن دمره تيطس الروماني في نهاية الحروب اليهودية التي امتدت من عام 66-70م. والخلاصة: نقول أن يهودية الهيكل الثاني هي الفترة من 586ق.م – 70م.


تم نشر هذا المقال على موقع The Gospel Coalition: Spanish Edition

شارك مع أصدقائك

نمرود لوبيز

محرر في TGC ويعيش في الإكوادور، وهو أستاذ في كليّة اللاهوت المعمدانيّة.