الاتِّحاد بالمسيح

التعريف

يشير تعبير الاتِّحاد بالمسيح إلى اقتران أو ارتباط المؤمن بالمسيح، بالروح القدس، وبواسطة الإيمان، الأمر الذي بفضله يصير المؤمنون شركاء في مزايا خلاصه.

الملخَّص

تستعرض هذه المقالة معنى ودلالة الاتِّحاد بالمسيح في أبعاده المختلفة، ثمَّ يُختَتَم بدراسة مختصرة لموضوعين متَّصلين أحدهما بالآخر، وهما علاقة الاتِّحاد بالمسيح بوحدة تاريخ الخلاص، وعلاقته بتبرير المؤمن.


الاتِّحاد بالمسيح: نظرة عامَّة

في حين لا يرد تعبير “الاتِّحاد بالمسيح” في الكتاب المُقدَّس، لكنَّه يعبِّر عن الحقيقة الأساسيَّة للخلاص المُعلَنة فيه بالفعل، منذ التخطيط له في الأزل، وحتَّى اكتماله الأخرويِّ.

إنَّ البشر مخلوقون على صورة الله، كي يعيشوا في شركة (عهد) مع الله، واضعين ثقتهم في وعوده، وطائعين لوصاياه، ومقدِّمين ومستقبِلين للمحبَّة. إلاَّ أنَّ الخطيَّة قضت على هذه الشركة بأن صيَّرت البشر مذنبين وفاسدين ومغتربين عن الله ومستحقِّين للموت. وأمام ذلك، تولَّى الله، بصفته المُخلِّص، مهمَّة استعادة الحياة والشركة اللتين فُقِدتا، وتكميلهما. هذا القصد الخلاصيُّ، الذي أُوحِي به ضمنًا بالفعل في تكوين 3: 14-15، يتكشَّف في اتِّجاه تتميمه في المقام الأوَّل بواسطة تعاملات الله المستمرَّة مع إسرائيل بصفتهم شعب عهده.

يتجلَّى رباط العهد بين الله وإسرائيل في صور مختلفة، لكن ربَّما ظهر بأشدِّ وضوح في وصف الله لنفسه بأنَّه “نصيبهم” أو “قسمتهم” (مزمور 73: 26؛ 119: 57؛ إرميا 10: 16). وبالمثل، وُصِف شعب إسرائيل –داخل دائرة شركة العهد– بأنَّهم “قسم الربِّ” (تثنية 32: 9؛ إشعياء 53: 12، “لِذَلِكَ أَقْسِمُ [أقسم نصيبًا] لَهُ [لعبد الربِّ المسيانيِّ] بَيْنَ ٱلْأَعِزَّاءِ”، وهو ما يمثِّل إشارة نبويَّة إلى الكنيسة بصفتها “قسم” أو “نصيب” المسيح).

يتجلَّى أسمى تتميم لرباط العهد هذا بين الله الواحد في ثلاثة أقانيم وشعبه في الاتِّحاد بالمسيح. فإنَّ المبدأ العمانوئيليَّ –”الله معنا”– الذي يميِّز ويحكم تاريخ العهد منذ البداية وحتَّى النهاية يبلغ تتميمه المكتمل في الاتِّحاد بالمسيح.

هذا الاتِّحاد يتجلَّى في العهد الجديد بأبرز صوره في عبارة “في المسيح” أو “في الربِّ” (مع بعض الصياغات المختلفة الأخرى)، التي ترد مرارًا، وبشكل يكاد يكون حصريًّا، في رسائل بولس (وفي مواضع أخرى أيضًا مثل يوحنا 14: 20؛ 15: 4-7؛ 1 يوحنا 2: 28). ويتراوح الجدل الأكاديميُّ عن معنى هذه العبارة من الفهم الوَسيليِّ البحت لحرف الجرِّ “في”، إلى الفهم الموضعيِّ أو الأجوائيِّ له، بل وأيضًا إلى فكرة الاتِّحاد الجسديِّ المادِّيِّ الحقيقيِّ بين المسيح والمؤمنين. وفي حقيقة الأمر، كان استخدام بولس لهذا التعبير متنوِّعًا، وأفضل وسيلة لتحديد نطاقه هي المقارنة بين آدم والمسيح، بصفته آدم الثاني أو الأخير (رومية 5: 12-19؛ 1 كورنثوس 15: 20-23، 45، 47). فما فعله كلُّ واحد من هذين الشخصين هو الذي حدَّد مصير الذين هم “فيه”.

فبالنسبة للذين هم “في المسيح”، هذا الاتِّحاد أو الاقتران شامل، يمتدُّ من الأزل إلى الأبد. فهم متَّحدون بالمسيح ليس فقط في اقتنائهم الحاليِّ للخلاص، بل أيضًا في تحقُّقه في الماضي مرَّة واحدة (على سبيل المثال، رومية 6: 3-7؛ 8: 1؛ غلاطية 2: 20؛ أفسس 2: 5-6؛ كولوسي 3: 1-4)، وفي اختيارهم “قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ” (أفسس 1: 4، 9)، وكذلك في تمجيدهم المستقبليِّ (رومية 8: 17؛ 1 كورنثوس 15: 22). وبموجب ذلك، يمكن عمل التصنيف التالي: فإنَّ كوننا “في المسيح” يشير إمَّا إلى التعيين المسبق، وإمَّا إلى الخلاص التاريخيِّ الماضي –أي ذلك الاتِّحاد المتضمَّن في إتمام الخلاص مرَّة واحدة (historia salutis)؛ وإمَّا إلى الخلاص الحاليِّ الذي يتطلَّع إلى مجيء المسيح ثانيةً –أي ذلك الاتِّحاد المتمثِّل في الاقتناء الفعليِّ للخلاص أو تطبيق الخلاص (ordo salutis). إحدى الوسائل الأخرى للتمييز بين هذه الجوانب المختلفة من الاتِّحاد هي تقسيمه إلى “الاتِّحاد الأزليِّ، والاتِّحاد التجسُّديِّ، والاتِّحاد الوجوديِّ” (سينكلير فيرجسون).

عند عمل مثل هذه التصنيفات، توجد أهميَّة أن نضع في اعتبارنا أنَّها تشير إلى جوانب أو مراحل مختلفة من الاتِّحاد نفسه، وليس إلى أكثر من اتِّحاد مختلف. فينبغي ألاَّ نظنَّ، كما يحدث في بعض الأحيان، أنَّه يوجد اتِّحادان مختلفان في تطبيق الخلاص (the ordo salutis)، الواحد قضائيٌّ وتمثيليٌّ، والآخر سريٌّ وروحانيٌّ، أي تجديديٌّ، إذ يُنظَر إلى الاتِّحاد الأوَّل على أنَّه يسبق الثاني زمنيًّا. فإن فعل ذلك هو بمثابة تضحية بالوحدة المتكاملة لمنظور الكتاب المقدَّس بشأن اتِّحاد المؤمن بالمسيح، وهو الاتِّحاد الذي لا يمكن أن “ينقسم” (كالفن). ففي تطبيق الخلاص، لا يوجد سوى اتِّحاد واحد، له جانبان، الواحد قضائيٌّ والآخر تجديديٌّ، يمكن التمييز بينهما لكن لا يمكن أن ينفصلا. في الوقت ذاته، من المهمِّ بالقدر نفسه أن نحافظ على تميُّز كلا الجانبين، دون المساواة أو الخلط بينهما –سواء بإنكار أيِّ جانب منهما، أو طمس الفرق بينهما.

أمَّا الاتِّحاد الحاليِّ، وهو الاتِّحاد المتعلِّق بالانتفاع الفعليِّ من الخلاص، فيسلِّم باستمراريَّة الطبيعة التمثيليَّة والبدليَّة للاتِّحاد في جانب التعيين المسبق، وفي جانب الخلاص التاريخيِّ الماضي أيضًا. فالنظر إلى المسيح فقط على أنَّه ممثِّل للمتَّحدين به، ولا سيَّما أنَّه لا يزيد عن كونه مجرَّد مثال يمثِّلهم، وليس على أنَّه البديل عنهم أيضًا، الحامل للخطيَّة والغضب، إنَّما يشوِّه ويحرِّف التعليم الكتابيَّ عن عمل المسيح بشكل خطير، كما يشوِّه الصلة بينه وبين شعبه.

إذًا، يمكن أن نعتبر أنَّ الاتِّحاد الحاليَّ يتميَّز بأربعة جوانب مترابطة: الجانب السريُّ، والجانب الروحيُّ، والجانب الحيويُّ، والجانب السرمديُّ الدائم. كلٌّ من الجانب السريِّ –وهي تسمية معتادة وقديمة– والجانب الروحيِّ يتعرَّض لسوء فهم. فليس المقصود بهما اختبارًا باطنيًّا لنشوة مخالفة للإدراك العقليِّ أو غير مبالية به. بل بالأحرى، الاتِّحاد بالمسيح هو سرٌّ بالمعنى المقصود به في العهد الجديد، أي باعتباره شيئًا كان مكتومًا عند الله في مقاصده الأزليَّة، لكنَّه الآن وأخيرًا قد كُشِف وأُعلِن في المسيح، ولا سيَّما في موته وقيامته (رومية 16: 25-26؛ كولوسي 1: 26-27؛ 2: 2).

من المؤكَّد أنَّ الأبعاد الكاملة لهذا السرِّ الذي أُعلِن تفوق إدراك المؤمن. يشمل ذلك، كما في أيِّ شيء متعلِّق بالخلاص، السمة التي تميِّز أيَّ إدراك وفهم لاهوتيٍّ سليم، ألا وهو معرفة محبَّة المسيح “ٱلْفَائِقَةَ ٱلْمَعْرِفَةِ”، أي معرفة ما هو في أعماقه يفوق أيَّة معرفة بشريَّة (أفسس 3: 18-19؛ راجع 1 كورنثوس 2: 9)

يُسلِّط أفسس 5: 32 الضوء على حميميَّة هذا الاتِّحاد (“هَذَا ٱلسِّرُّ عَظِيمٌ [عميق]) عن طريق تشبيهه بالعلاقة بين الزوج والزوجة. وفي مواضع أخرى، تعبِّر تشبيهات علائقيَّة أخرى عن أوجه مختلفة من هذا الاتِّحاد. على سبيل المثال، العلاقة بين حجر الزاوية والأحجار الأخرى في بناء ما (أفسس 2: 19-22؛ 1 بطرس 2: 4-6)، والعلاقة بين الكرمة وأغصانها (يوحنا 15: 1-7)، وبين الرأس وأعضاء الجسم البشريِّ الأخرى (1 كورنثوس 12: 12-27)، والصلة الوراثيَّة بين آدم ونسله (رومية 5: 12-19). وكان التشبيه الأبرز هو الاتِّحاد الفريد في الجوهر بين الآب، والابن، والروح القدس (يوحنا 17: 20-23).

صحيح أنَّ التشابه لا يعني التطابق، لكن هذا التشبيه للاتِّحاد بالعلاقة داخل الثالوث يبيِّن بصفة خاصَّة أنَّ أسمى أنواع الاتِّحاد التي يمكن لأيِّ مخلوق حامل لصورة الله أن يختبرها على الإطلاق هو اتِّحاد المؤمن بالمسيح الممجَّد والمرتفع في الوقت الحاليِّ إلى السماء. “إنَّ أعظم سرٍّ في العلاقات التي تتمتَّع بها المخلوقات هو اتِّحاد شعب الله بالمسيح. وعظمة ذلك مشهود لها بما لا يقل عن تشبيهه بالوحدة داخل الثالوث” (جون موراي John Murray).

وإنَّ الاتِّحاد السريَّ هو أيضًا اتِّحاد روحيٌّ، ليس بالمعنى غير المادِّيِّ أو غير الواقعيِّ، بل بسبب عمل وسكنى الروح القدس. واللفظ “روحيّ” يلقي بالضوء على السرِّيَّة والغموض، ويحمي من الخلط بينه وبين أنواع أخرى من الاتِّحاد. وهذا الاتِّحاد الروحيُّ ليس اتِّحادًا وجوديًّا (كذلك الموجود بين أقانيم الثالوث)، أو أقنوميًّا (وهو الاتِّحاد بين طبيعتي المسيح)، أو نفسيًّا-جسديًّا (أي بين الجسد والروح في شخصيَّة الإنسان)، أو جسمانيًّا (كالاتِّحاد بين الزوج والزوجة). وهو ليس مجرَّد اتِّحاد أدبيٍّ أو أخلاقيٍّ (أي وحدة في المشاعر، والإدراك، والغرض).

ينبع الاتِّحاد الروحيُّ من العلاقة الوثيقة بين المسيح والروح القدس. فبفضل القيامة، تغيَّر المسيح المتجسِّد (“آدم الأخير”) بالروح القدس، وصار في حالة اقتناء تامٍّ للروح القدس، حتَّى أنَّه صار “رُوحًا مُحْيِيًا” (1 كورنثوس 15: 45). ونتيجةً لذلك، نقول إنَّ “ٱلرَّبُّ [المسيح] هو ٱلرُّوحُ” (2 كورنثوس 3: 17). والمقصود بذلك –دون أيِّ تقويض من التمايز الوجوديِّ الأزليِّ بين الأقنوم الثاني والثالث في الثالوث– هو تطابق وظيفيٌّ بين المسيح الممجَّد والروح القدس، أي وحدتهما معًا في منح حياة القيامة والحريَّة الأخرويَّة.

إذًا، في حياة الكنيسة، وبداخل المؤمنين، المسيح والروح القدس غير قابلين للانفصال (راجع يوحنا 14: 18). وهذا الاتِّحاد السريُّ، والروحيُّ أيضًا، هو اتِّحاد متبادل. فلا يتوقَّف الأمر عند كون المؤمنين في المسيح، لكنَّه هو أيضًا “فيهم” (يوحنا 14: 20؛ 17: 23، 26؛ كولوسي 1: 27 [“ٱلْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ ٱلْمَجْدِ”]). وفي رومية 8: 9-10، التعبيرات “فِي ٱلرُّوحِ”، و”رُوحُ ٱللهِ سَاكِنًا فِيكُمْ”، و”للمسيح” (المكافئ لتعبير “في المسيح”)، و”المسيح فيكم” ما هي إلاَّ أربعة أوجه لاتِّحادٍ واحد. فأن يكون “روحه فِي ٱلْإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ” مساوٍ لأن “يَحِلَّ ٱلْمَسِيحُ … فِي قُلُوبِكُمْ” (أفسس 3: 16-17).

هذا الاتِّحاد السريُّ، والروحيُّ، هو أيضًا اتِّحاد حيويٌّ في ذاته. فهو اتِّحاد حياتيٌّ (راجع تعبير “نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ” الذي جاء في رومية 8: 2). فإنَّ سكنى المسيح بالروح القدس إنَّما هي حياة المؤمن ذاتها: “أَحْيَا لَا أَنَا، بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ” (غلاطية 2: 20)؛ “حَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ ٱلْمَسِيحِ فِي ٱللهِ”، “ٱلْمَسِيحُ حَيَاتُنَا” (كولوسي 3: 3، 4).

أخيرًا، الاتِّحاد بالمسيح هو اتِّحاد سرمديٌّ ودائم. فهو متأصِّل في قضاء الاختيار الإلهيِّ غير المشروط وغير القابل للتغيير “فِيهِ [في المسيح] قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ” (أفسس 1: 4). فإنَّ خلاص المؤمنين المعيَّن من الأزل “في المسيح” هو خلاص لا بُدَّ على نحو غير قابل للخطأ أن يبلغ اكتماله الأخرويَّ في قيامتهم وتمجيدهم المستقبليِّ “في المسيح” (رومية 8: 17؛ 1 كورنثوس 15: 22-23). هذا الرجاء، الذي ينطوي بالأخصِّ على الدوام المستمرِّ والذي لا ينقطع لاتِّحادهم بالمسيح (رومية 8: 38-39)، يتجلَّى على نحوٍ مذهل للغاية في دليل وستمنستر الموجز لتعليم الإيمان عن طريق السؤال والجواب (الجواب 37): “إنَّ نفوس المؤمنين عند موتهم تُكمَّل في القداسة، وتنتقل في الحال إلى المجد؛ وأجسادهم، التي لا تزال متَّحدة بالمسيح، تقبع وتستريح في قبورها حتَّى تأتي القيامة”.

قضايا وثيقة الصلة

يمكن تناوُل مسألتين إضافيَّتين من أجل استكمال هذه النظرة العامَّة عن الاتِّحاد بالمسيح.

1. الاتِّحاد بالمسيح ووحدة تاريخ الخلاص

الاتِّحاد بالمسيح موجود فقط في العهد الجديد. علاوةً على ذلك، هذا الاتِّحاد ليس فقط بأيِّ مسيح، أو بالمسيح بوجه عامٍّ، بل بالأحرى هو اتِّحاد بالمسيح المُمجَّد والمرتفع إلى السماء، أي بالمسيح الذي هو الآن في الحالة التي صار عليها بسبب تجسُّده، وحياة الطاعة التي عاشها لاحقًا، وموته، وقيامته، وصعوده، وجلوسه الحاليِّ في السماء. وإذ هو مُمجَّد، يصير مصدرًا لكلِّ مزايا الخلاص الذي أتمَّه، تلك المزايا التي تُطبَّق على المؤمنين.

يثير هذا قضيَّة الخلاص تحت العهد العتيق. فكيف كان الخطاة يخلصون قبل مجيء المسيح إلى التاريخ في “مِلْءُ ٱلزَّمَانِ” (غلاطية 4: 4)، وقبل موته وقيامته، أي عندما لم يكن الاتِّحاد به وهو ممجَّد واقعًا ملموسًا بعد؟ تَكمُن الإجابة في إدراك أنَّ الاتِّحاد بالمسيح –الذي هو امتياز خاصٌّ للمؤمنين تحت العهد الجديد– هو شركة في عهدٍ مع الله، في شكلها النهائيِّ والأخرويِّ. وكما ذكرنا أعلاه، إنَّ الاتِّحاد بالمسيح هو التحقُّق المكتمل للواقع العمانوئيليِّ –الله معنا– الذي حكم تاريخ العهد منذ بدايته. فقبل مجيء المسيح، وتدشين العهد الجديد، كانت رابطة شركة العهد بين الله وشعبه موجودة بالفعل في شكلها المؤقَّت وغير المكتمل، الذي بدأ عند السقوط بتعهُّد الله بأن يكون لهم إلهًا ومخلِّصًا (تكوين 3: 15؛ راجع خروج 6: 7؛ إرميا 11: 4، والكثير من النصوص الأخرى).

إذًا، تحت العهد العتيق، كان الخلاص يتحقَّق عن طريق الثقة بتتميم وعد الله بالمجيء المستقبليِّ للمسيَّا، يسوع، الذي “يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ” (متى 1: 21). وكان التتميم المستقبليُّ لذلك الوعد، المتمثِّل في تتميم المسيح للخلاص مرَّة واحدة (historia salutis)، يقينيًّا لدرجة أنَّ مزاياه الأساسيَّة –سواء القضائيَّة أو التجديديَّة– طُبِّقت وفُعِّلت (ordo salutis) مسبَّقًا على مؤمني العهد العتيق، بأثرٍ مستقبليٍّ، قبل تحقُّق عمل المسيح المكتمل في التاريخ، وفي توقُّعٍ له.

وهكذا، نكتشف أنَّ الأمثلة الرئيسيَّة للتبرير بالإيمان التي قُدِّمت في العهد الجديد كانت عن مؤمنين عاشوا تحت العهد العتيق –ولا يشكِّل فرقًا إذا كانوا قد عاشوا قبل تسليم الناموس في سيناء أو بعده– مثل إبراهيم (رومية 4؛ غلاطية 3)، وداود (رومية 4). كذلك، لم يكن إيمان هؤلاء الذي يبرِّر شيئًا حصلوا عليه من أنفسهم أو بقوَّتهم الشخصية، لكنَّهم تبرَّروا فقط لأنَّهم ولدوا ثانيةً من الروح القدس. فكلٌّ من مؤمني العهد العتيق والعهد الجديد هم “أَوْلَادُ ٱلْمَوْعِدِ”، لأنَّ كليهما وُلدَ “حَسَبَ ٱلرُّوحِ” (غلاطية 4: 28-29).

إذًا، توجد استمراريَّة جوهريَّة في تطبيق الخلاص (the ordo salutis) بين العهدين العتيق والجديد. فتحت كلا العهدين، يُجرَى الحصول على مزايا عمل المسيح داخل رابطة شركة العهد مع الإله الواحد في ثلاثة أقانيم (راجع إقرار إيمان وستمنستر 7: 5-6؛ 11: 6 للاطِّلاع على صياغة جيِّدة لهذه الفكرة). لكنَّ الاختلاف الأهمَّ وغير المسبوق هو أنَّ مؤمني العهد الجديد نالوا امتياز التمتُّع برابطة الشركة هذه في شكلها الأكثر اكتمالاً وحميميَّة، في صورة اتِّحاد بالمسيح الممجَّد والمرتفع في الوقت الحاليِّ.

2. الاتِّحاد بالمسيح والتبرير

منذ عصر الإصلاح على وجه الخصوص، كانت إحدى القضايا التي مثَّلت أهميَّة مستمرَّة، سواء من حيث تفسير الكتاب المقدَّس، ولا سيَّما كتابات بولس، أو صياغة عقيدة الكنيسة، تتعلَّق بالعلاقة بين الاتِّحاد بالمسيح والتبرير، أي بين الجانبين التشاركيِّ والقضائيِّ من تطبيق الخلاص.

من ناحية، ليس الاتِّحاد بالمسيح والتبرير مجرَّد تشبيهين بديلين للعمل نفسه، كما لو أنَّه يمكن تجاهل أحدهما أو الآخر، أو التخلُّص منه دون التضحية بأيِّ شيء جوهريٍّ أو أساسيٍّ للخلاص. كذلك، ينبغي ألاَّ يُعتَبَر الاتِّحاد مجرَّد فعل واحد ضمن سلسلة من الأفعال أو الأوجه في تطبيق الخلاص (the ordo salutis)، مع اعتبار أنَّ الاتِّحاد يلي التبرير منطقيًّا، بصفته نتيجةً له. في المقابل، وكما أوضح كالفن، في ولاءٍ منه للعهد الجديد، الاتِّحاد بالمسيح بالإيمان بواسطة “طاقة الروح الخفيَّة” (أسس الدين المسيحيِّ 3. 1. 1) ينشئ رابطة شاملة يُحسَب المؤمن في داخلها –دون انفصال أو امتزاج لأيٍّ من مزايا “النعمة الثنائيَّة” الأساسيَّة الفائضة من الاتِّحاد– بارًّا ومجدَّدًا في البرِّ.

وبشأن العلاقة المثيرة للكثير من الجدل بين الاتِّحاد والتبرير، يبدو من الصعب إجراء أيِّ تعديل على تلك الكلمات التي جاءت على فم كالفن، تلك الكلمات القاطعة والبليغة (أسس الدين المسيحيِّ 3. 11. 10):

“… أعترف بأنَّنا نُحرَم هذه الفائدة التي لا مثيلَ لها [البرُّ] إلى حين أن يصير المسيح لنا. وبالتالي، فإنَّ ذلك الاتِّحاد بين الرأس والأعضاء، وتلك السكنى –أي سكنى المسيح في قلوبنا- وباختصار، ذلك الاتِّحاد الروحيّ، نعتبره من أعلى درجات الأهميَّة، بحيث أنَّ المسيح الذي يصير لنا يجعلنا شركاء معه في الهبات التي أُعطِيت له. لذلك، نحن لسنا نتأمَّل المسيح خارج ذواتنا، وكأنَّنا ننظر إليه من بُعدٍ لكي يُحسَب لنا برُّه، بل إنَّنا نلبس المسيح، ونُطعَّم في جسده. وباختصار، هو يتنازل ويقبل بأن يجعلنا واحدًا معه. ولهذا السبب، نفتخر بأنَّ لنا شركة برٍّ معه”.

شارك مع أصدقائك

أستاذ متقاعد في علم اللاهوت الكتابي والنظامي في كليّة وستمنستر للاهوت في فيلادلفيا.