حركات العابرين سرًّا ولاهوت السياق

“العابر السرِّيُّ”، بحسب كتاب “فهم حركات العابرين سرًّا: تلاميذ الربِّ يسوع وسط مجتمعات مغايرة دينيًّا“،[1] لهارلي تالمان وچون چِاي تراڤِس، هو شخص “ذو خلفيَّة دينيَّة غير مسيحيَّة قد قبلَ المسيح ربًّا ومُخَلِّصًا لكنَّه أبقى على هويَّته المجتمعيَّة-الدينيَّة التي ولد فيها”. وبما أنَّ هؤلاء العابرين سرًّا يُعَدُّون تلاميذ للربِّ يسوع، فهم أكثر استعدادًا، كما يفترض المؤلِّفان، لربح عائلاتهم وأصدقائهم للمسيح الربِّ، مما يقود نحو “حركة” للمسيح، بحسب وجهة نظر هذا الكتاب. وفي حين أنَّ مسعى الكنيسة، كما هو واضح في العهد الجديد، لم يحضَّ قط علنًا المؤمنين الجُدد على البقاء مندمجين بعمق في محيطاتهم الأصليَّة، تسعى حركة العابرين سرًّا (Insider Movements) إلى تقوية مثل هذا النهج بل والدفاع عنه.

وبحسب عنوان ذلك العمل، قد يتوقَّع البعض الحصول على فهم شامل ومنطقيٍّ لحركات العابرين سرًّا. لكن للأسف، التسمية مغلوطة والعمل نفسه لم يثبت نفعًا في الخدمة تحديدًا بين المسلمين. ومجرَّد إلقاء نظرة خاطفة على جدول المحتويات يكشف أنَّ المناصرين لهذه الصيحة الحركيَّة هُم من كتبوا معظم فصول الكتاب. إذ تخلو فصوله من أيِّ جزء يشير إلى أو يعالج المخاوف المُرسليَّة والكنسيَّة التي أثارها العديد من القادة المسيحيِّين –أمثال دون كارسون، ودوك كولِمِن، وكيفين ديونج، وفرِد فاروخ، وچون بايبر، وچاي سميث وهِنري وُلف- ضدَّ نهج الـ(Insider Movements). إنَّ عنوان هذا الكتاب “فهم حركات العابرين سِرًّا” هو في الحقيقة ليس له علاقة بفهم حركات العابرين سِرًّا.

أصوات مُتحيِّزة وأخرى صامتة

إنَّ المُحرِّرَين -اللذان عاشا وخدما في عديد من المجتمعات المُسلمة في أسيا والعالم العربيِّ- قد اتَّخذا خيارًا جوهريًّا بضمِّ مقالات كُتَّاب معروفين، أمثال أندرو والس، والمُطران جريجوري حَدَّاد، اللذين ليسا بالضرورة يتناولان أو يناصران حركات العابرين سرًّا. فهذا الخيار يُضفي ملمحًا من الموثوقيَّة على هذا العمل الذي حرَّراه، على الرغم من أنَّ هذه المقالات لا تضيف أيَّ شيء للنقاش الجوهريِّ حيال مواقف مناصري حركات العابرين سرًّا اللاهوتيَّة والمُرسليَّة والكنسيَّة.

والأنكى، أنَّ أصوات العابرين سرًّا صامتة، على نحو يثير الريبة، طوال كتاب يبلغ 679 صفحة. فإذا كان هذا نهج حركات العابرين سرًّا بالغ النجاح، ألا يُتوقَّع أن يسمع المرء مِنَّا مِن الذين انتفعوا حقًا منها؟ بل على النقيض نحن لا نسمع من سوى المناصرين لهذه الحركة. فبالنسبة لمن يتوقون حقًّا إلى نقاش مفتوح عن الامتيازات (أو العيوب) الكتابيَّة واللاهوتيَّة والمُرسليَّة التي تحملها أساليب الـ(Insider Movements)؛ فهذا المنظور الضَيِّق مُحبِط حقًّا. وربَّما تتعاظم المخاوف إذا قاد هذا المؤمنين صادقي النيَّة بقلب مفتوح تجاه المسلمين إلى طريق خطر.

وفي مثل هذا المقال الموجز، لا يستطيع المرء الاشتباك مع كلِّ حجة أو فصل من فصول هذا الكتاب “فهم حركات العابرين سرًّا”. ولكن برغم ذلك، ينبغي على المفكِّرين المسيحيِّين والمرسلين الجدُّ في العمل للاشتباك مع خمسة أخطاء جوهريَّة على الأقلِّ تستند إليها حُجج حركات العابرين سرًّا. فأنا أسمِّي هذه الأخطاء الجوهريَّة الخمسة “الأركان الخمس لحركة العابرين سرًّا”. فهي أخطار لاهوتيَّة، وأخطاء مُرسليَّة.

الأركان الخمس لحركة العابرين سرًّا

1. نبويَّة مؤسِّس الإسلام

يُدافع بعض مناصري الـ(Insider Movements) بأنَّ مُحمَّدًا قد يُعدُّ نبيًّا بحسب المفهوم الكتابيِّ أو أنه قد تلقَّى “رسالة أو مهمَّة نبويَّة ما”؛ نظرًا لأن “ما يقوله أيُّ شخص عن مُحمَّد له نتائج إيجابيَّة على المجتمع المُسلم”. وتباعًا، ووفقًا لمناصري حركات العابرين سرًّا ينبغي السماح بإمكانيَّة نُطق الشهادة (لا إله إلا الله، محمَّد رسول الله) إذ إنَّ تأكيد نبويَّة محمَّد بطريقة أو بأخرى -“لا ينتقص بطبيعته من الأمانة الكتابيَّة” (انظر ف. 23، والحُجج المرفقة التبسيطيَّة بأنَّ إله الإسلام هو ربُّ المسيحيَّة في ف. 54).

2. الهويَّة الدينيَّة

تُشدِّد إحدى الحُجج المعضليَّة التي أشاعها مناصرو حركات العابرين سرًّا بأنَّه من الممكن للمسلمين أن يتجددوا “من دون هجر هويَّتهم المسلمة السابقة داخل مجتمعاتهم”. ففي النهاية، يقول هذا الكتاب، أننا لسنا مضطرِّين إلى “محاولة تغيير ديانة أيِّ إنسان”. في الحقيقة ووفق هذا النهج، إنَّ معنى “الدين” وطبيعته ينبغي إعادة النظر فيهما وإعادة تقييمهما ليشملا “أولئك الذين يمثِّلون زُمرَة عدَّة ديانات” (فصول 8، 21، 22، 37، 38، 39، 55، 58، 59).

3. القرآن كالإنجيل

تعتمد أساليب خدمة حركات العابرين سرًّا على الإكثار في استخدام القرآن للكرازة والتلمذة. فهم يدَّعون أنَّ القرآن لا يزال يشغل مكانًا قيِّمًا لدى العابر السرِّيِّ، فعلينا توقُّع أن تنطوي مجتمعاتهم المسيحيَّة على “أماكن صلاة إسلاميَّة بتقاليدها”. والأنكى أنَّ بعض مناصري هذه الحركات يتحاجُّون بأنَّه “لا حاجة إلى أيِّ محاولة لاستبدال القرآن بالإنجيل”، لأنَّ القرآن يقرُّ بأنَّ “عيسى رسول الله”، وأنَّ “الإنجيل رسالته”، وعليه، كما يقول هذا الكتاب، فإن كلُّ أركان الإسلام هي “نُسخ مُعدّلة للأنماط اليهوديّة والمسيحيّة السابقة” (فصول 16، 24، 25، 43، 45، 58).

4. تغيير لغة الإنجيل

يفترض مناصرو الـ(Insider Movements) أنَّه من الأفضل لو أنَّنا قمنا بتغيير بعض المصطلحات في ترجماتنا الكتابيَّة، مثل عبارة “ابن الله”، أو استخدام اسم عيسى بدل يسوع. إذ إنَّ بعض المصطلحات الصعبة ينبغي “توصيلها بلسان المسلمين لا سيَّما بألفاظهم الدينيَّة” مع تبنيّ “أساليب لغويَّة وصِيَغ مؤثِّرة يقبلها المسلمون”، وتقديم تفسير مسيحي جديد للقرآن (فصول 24 و25).

5. لا توجد كنيسة ولا مسيحيَّة، إنَّما يسوع وحده

بالنسبة لمناصري حركات العابرين سرًّا يتمثَّل الأمر الحاسم في أنَّه ما من كنيسة أو مسجد، وما من مسيحيَّة أو إسلام. فالكنائس، في رأيهم، ما هي إلاَّ “مجموعات من أتباع المسيح” -التي توجد في أيِّ مكان وحتَّى بالإمكان إيجادها “كامنة داخل” الثقافات الهندوسيَّة والسيخيَّة والإسلاميَّة والبوذيَّة، وداخل مجتمعاتهم الدينيَّة. فبالنسبة لمناصري هذه الحركات بإمكان الكنيسة “تنمية هويَّة كنسيَّة مركزها المسيح، وفي ذات الوقت، تؤكِّد الهويَّةَ المجتمعيَّةَ الدينيَّةَ للهندوسيَّة أو السيخ”، بما أنَّ جسد المسيح يحوي كنائس غير منظورة وأخرى منظورة (فصول 19، 30، 38، 39)!

إنَّ هذه المعتقدات الخمسة هي بمثابة الأركان الخمس التي تستند عليها الـ(Insider Movements). أركان في غاية الخطورة لا في حدِّ ذاتها فحسب، إنَّما وتحديدًا في تطبيقاتها اللاهوتيَّة والخلاصيَّة والمُرسليَّة. حتَّى إنَّه يوجد تهديد منطقيٌّ، على الرغم وإن بدا غير مقصود، على لاهوت المسيح الكتابيِّ؛ يتمثَّل هذا الخطر، على سبيل المثال، في النتائج المنطقية المترتبة على الركن الأول والثالث، والدفاع عن احتماليّة أن يكون محمّد نبيّ بعد انتهاء كتابة العهد الجديد. وعلى الرغم من حقيقة أنَّ كلَّ هذه الأركان قد فُنِّدَت ونُظِّرَت ودُحِضَت أكثر من مرَّة، إلا أن هذه الحركات لا تزال في ازدهار في بعض الأوساط المرُسليَّة.

تفادي شِراك خطرة

إنَّ استيعاب “حركات العابرين سرًّا” يُظهِر بوضوح أنَّ مناصري الحركة لا يزالون يدخلون في تجربة النمو السريع للخدمة بعيدًا عن التفسير الكتابيِّ السليم، والاشتباكات اللاهوتيّة والمُرسليّة القويمة. ممَّا سينتج عنه محاولات توفيقيّة تلفيقيَّة جرداء ومؤذية بين الأديان. إنَّ قرار استبعاد أصوات معارضي هذه الحركة والعابرين من هذا الكتاب قرار يثير الريبة ويعكس الرسمة المشوَّهة والمختزلة التي تمنَّى المحرِّران بيعها.

فعلى المؤمنين الحقيقيين العمل باجتهاد والقيام بدراسات وأبحاث قويَّة تُظهِر مخاطر مثل هذه الأفكار والحركات. ومن ثمَّ يُستعان بمثل هذه الدراسات والأبحاث في تدريب المرسلين والكنائس الصغيرة حول العالم، حتَّى يتجنَّبوا مثل هذه الشِراك. فالعمل ضخم لكنَّه ضروريٌّ بكلِّ تأكيد.


[1] عنوان الكتاب باللغة الإنجليزيّة Understanding Insider Movements: Disciples of Jesus within Diverse Religious Communities.

شارك مع أصدقائك

أ. س. إبراهيم

حاصل على درجتيّ الدكتوراة في الفلسفة (PhD) أحدهما من كليّة فولّر للاهوت عام 2014، والأخرى من جامعة حَيفا عام 2018. ويعمل كأستاذ الدراسات الإسلاميّة في الكليّة المعمدانيّة الجنوبيّة للاهوت، ومدير مركز جِنكِنز للفهم المسيحيِّ للإسلام، بولاية كنتاكي الأمريكيّة. وله العديد من المنشورات العلميّة والكتب باللغة الإنجليزيّة، منها كتاب عن الدوافع المؤكّدة للغزو الإسلامي، وحركات العابرين سرًا (Insider Movement).