الكالفينيَّة المفرطة: طبيعتها وسببها

إن عنوان الكتاب الذي سأتحدث عنه في هذا المقال ليس مشوقًا كثيرًا، لكن الكتاب نفسه جيد للغاية؛ والعنوان هو “ظهور الكالفينيَّة المفرطة في إنجلترا 1689-1765”. مؤلف هذا الكتاب هو بيتر توون، وقد نُشر في طبعته الأولى في عام 1967. وهو يتضمَّن تمهيدًا كتبه جي. آي. باكر  المعروف. هذا الكتاب عبارة عن مجلد صغير الحجم، أكاديمي، ومتخصص، وبه عدد كبير من الحواشي السفليَّة، لكنه يقدِّم دروسًا بسيطة وثمينة. يقول باكر: “هذه القصة هي قصة تحذيريَّة تقدِّم دروسًا لا يحدُّها زمن لأولئك الذين يسعون إلى إحداث نهضة في المسيحيَّة المصلَحة في يومنا هذا” (ص. 8).

وأرى في هذه القصة ثلاثة دروس، مرتَّبة بترتيب تصاعدي من حيث الأهميَّة.

  1.   أظهر المؤلِّف، كما أظهر كين ستيوارت أيضًا مؤخرًا، أن الإيمان المصلَح ليس فكرًا موحَّدًا ومتماثلًا تمامًا. لسنا نقصد بذلك أنه لا توجد استمراريَّة أساسيَّة ممتدة من كالفن، إلى ثيؤدور بيزا، إلى البيوريتانيِّين، إلى مدرسة برينستون اللاهوتيَّة القديمة، إلى يومنا هذا. لكن في الكثير من مراحل التاريخ المصلَح، لم يكن الفكر المصلَح موحَّدًا أو واضحًا.
  2.   قدم المؤلِّف تعريفًا سليمًا للكالفينيَّة المفرطة، وهو ليس أن تكون مصلَحًا بحق. فبحسب اللغة الدارجة، الكالفينيَّة المفرطة معناها: “كالفينيٌّ فائق المستوى”، لكن هذا ليس استخدامًا منصفًا للمصطلح. فبحسب التاريخ، كانت الكالفينيَّة المفرطة تشير إلى مجموعة من الاستنتاجات والممارسات اللاهوتيَّة التي لا تمُت بصلة لأيٍّ من الكالفينيِّين البارزين في يومنا هذا.

إليك الملخَّص الذي قدَّمه المؤلف:

[الكالفينيَّة المفرطة] كانت نظامًا لاهوتيًّا، أو نظامًا للعقائد عن الله، والإنسان، والنعمة، صِيغ للرفع من شأن الله وتمجيده، على حساب التقليل من شأن المسؤوليَّة الأخلاقيَّة والروحيَّة للخطاة أمام الله. فهي تصب تركيزًا مفرطًا على أعمال الله المتأصِّلة في جوهره وطبيعته – مثل التبرير الأزلي، والتبني الأزلي، وعهد النعمة الأزلي. ومن الناحية العمليَّة، كان هذا معناه احتجاب “المسيح وإياه مصلوبًا”، التي هي رسالة الرسل الجوهريَّة.

كذلك، لم يميِّز هذا الفكر بين مشيئة الله السريَّة ومشيئته المعلنة، وحاول استنتاج واجبات البشر من التعليم المقدَّم عن أحكام الله السريَّة والأزليَّة.

كذلك، انصب تركيز مفرط في هذا الفكر على عقيدة النعمة التي لا تقاوم، مع الميل إلى التصريح بأن الشخص المختار ليس فقط سلبيًّا في حدث الميلاد الثاني، بل أيضًا في رجوعه إلى الله والإيمان به. وأدى هذا الاهتمام المفرط بأعمال الله الجوهريَّة والأزليَّة، وبالنعمة التي لا تقاوم، إلى ظهور الفكرة القائلة بأن النعمة يجب أن تقدَّم فقط للذين كانت لهم.

أخيرًا، رأى هذا الفكر أن يقين الإيمان السليم يتمثل في شعور داخلي لدى المرء وقناعة منه بأنه مختار منذ الأزل من الله. ومن ثَمَّ، دفعت الكالفينيَّة المفرطة أتباعها إلى الإيمان بأن الكرازة غير ضروريَّة، مع صبِّ تركيز كبير على فحص الذات الاستبطاني، وذلك حتى يكتشف المرء ما إذا كان مختارًا من الله أم لا (صفحة 144-145).

إذن، المبادئ الرئيسيَّة لهذا الفكر تشمل ما يلي: اهتمام لا يُذكَر برسالة الصليب، وعدم تقديم عرض مجاني للإنجيل للجميع، وعدم دعوة البشر إلى أن يولدوا ثانية، وعقيدة عن يقين الخلاص تتسم بالكثير من فحص الذات الاستبطاني، وأخيرًا، انهيار الفرق بين مشيئة الله السريَّة ومشيئته المعلنة. هذه هي الكالفينيَّة المفرطة، وليس أن يكون أحدهم مصلحًا بحقٍّ وجديَّة.

  1.   الأهم من ذلك أن المؤلِّف أوضح كيف يمكن للكالفينيَّة الصحيَّة أن تتحول إلى كالفينيَّة مفرطة غير صحيَّة. فقد سرد أربعة أسباب دعت إلى ظهور الكالفينيَّة المفرطة في الحركة الانشقاقيَّة بإنجلترا.

أولًا، بعد عام 1660، أصبحت الكالفينيَّة القويمة تحت الحصار. “فإن القيادة الدينيَّة للأمة وُضِعت وتثبَّتت في أيدي رجال كانوا إما أرمينيِّين وإما كالفينيِّين معتدلين في فكرهم اللاهوتي” (ص. 146). وفي ضوء هذه المقاومة، تبنى الكثير من الكالفينيِّين عقليَّة الأقليَّة المضطهَدة، واعتبروا أنفسهم البقيَّة الصغيرة التي لا تزال متمسِّكة بالإيمان الرسولي. وإذ صار إيمانهم دفاعيًّا أكثر فأكثر، صار صلبًا وأقل جاذبيَّة.

ثانيًا، البيئة الفكريَّة لتلك الفترة ركزت بشكل كبير على دور العقل والمنطق في الإيمان الديني. وبالتالي، طبَّق الكالفينيُّون المفرطون المنطق البحت على العقائد الكتابيَّة، مما أدَّى إلى استنتاجات غير كتابيَّة. فإذا كانت عقيدة الاختيار صحيحة، وإذا كانت النعمة لا تقاوَم بحق، فما الداعي للتقديم المجاني لرسالة الإنجيل؟ كان هذا منطقًا عقلانيًّا، وليس منطقًا كتابيًّا.

[تحديث: ربما ليست كلمة “عقلاني” هي الخيار الأفضل، لأنها قد تترك انطباعًا بأن المنطق الكتابي غير عقلاني. لكن المنطق الكتابي مقيَّد بقواعد الفكر العقلاني، فقط بقدر التزامه بكلِّ البيانات الكتابيَّة عن الموضوع. فالآب هو الله، والابن هو الله، والروح القدس هو الله، لكننا سنكون مخطئين إذا استنتجنا من ذلك أنه يوجد ثلاثة آلهة، لأن الكتاب المُقدَّس يذكر بوضوح أيضًا أنه لا يوجد سوى إله واحد. يعجبني ما قاله أحد المعلِّقين على كلمات المؤلِّف: “الكالفينيَّة المفرطة طبقت المنطق البحت على العقائد الكتابيَّة دون أن تضع في اعتبارها كلَّ العقائد الكتابيَّة وثيقة الصلة، الأمر الذي أدى إلى استنتاجات غير كتابيَّة”].

ثالثًا، الكثير من الكالفينيِّين المفرطين البارزين كانوا “قادرين على إحداث تغييرات فكريَّة مفرطة” (ص. 147). فلم يكن لديهم صبر للاختلافات الطفيفة، بل كانوا ميالين إلى أطراف النقيض. فقد أغلقوا عقولهم على طريقة تفكير واحدة، وشعروا بأن التصرف الآمن الوحيد هو الوصول بهذا التفكير إلى أقصى حدٍّ له.

رابعًا، لم يكن الكالفينيون المفرطون أذكياء. ربما يبدو كلامي قاسيًا، لكن استمع جيدًا إلى ما قاله مؤلف الكتاب:

كان الكالفينيون المفرطون رجالًا مخلصين، ذوي معدل ذكاء متوسط، لكنهم كانوا يفتقرون إلى الروح النبويَّة وكذلك إلى روح التمييز. فقد أرادوا بشدة أن يمجدوا الله، لكنهم أخطأوا باعتقادهم بأن الله يتمجد عن طريق الرفع من قدر النعمة المجانيَّة من فوق المنبر وفي كتاباتهم، أكثر من تمجيده عن طريق الكرازة واقتياد البشر إلى الإيمان. وقد صاروا مهووسين بالدفاع عما يحسبونه التعليم الصحيح لدرجة أن النغمة الكرازيَّة للكتاب المُقدَّس، التي تنظر إلى الكرازة على أنها في الأساس عرض يقدَّم من الله للخطاة، قد أُبكِمت” (ص. 148).

كثيرًا ما نتبنى نظرة دارجة وشعبيَّة عن البدعة اللاهوتيَّة مفادها أن غالبيَّة الأخطاء أو الضلالات تصدر عن أشخاص أذكياء للغاية بهدف تحقيق منفعتهم الشخصيَّة؛ لكن ليس هذا هو الحال دائمًا، فالكثير من البدع الخطيرة تزحف إلى الكنيسة لأن القسوس والقادة لم يكونوا حذرين، أو مميِّزين، أو أذكياء بما يكفي لرؤية الاتجاهات الخاطئة الخبيثة في بؤرة التركيز والمنطق الفكري.

هذه الأخطاء الأربعة المذكورة أعلاه دائمًا ما تكون مصدر إغراء حقيقي لشعب الله، وللكالفينيِّين أيضًا. فعلينا أن نكون مفكرين حذرين، وأن نتمسك بالنصوص الكتابيَّة وليس بالاستنتاج المنطقي. كذلك، علينا أن نحترس في بعض الأحيان من شخصياتنا، لئلا نتبنَّى عقليَّة الضحيَّة، وبأن العالم بأكمله ضدنا. والأهم من كل ذلك، يجب أن نتأكد من عدم شعورنا بالحرج من الكرازة للآخرين ودعوتهم إلى التوبة والإيمان. حقًّا، هذه القصة هي قصة تحذيريَّة.

شارك مع أصدقائك

كيفين ديونج

كيفين ديونج حاصل على درجة الدكتوراة في فلسفة اللاهوت من جامعة ليستر. وهو راعي كنيسة كرايست كوفننت بولاية نورث كارولينا، كما شغل في الماضي منصب رئيس مجلس إدارة ائتلاف الإنجيل، ويعمل كأستاذ اللاهوت النظامي في كليّة اللاهوت المُصلح، بمدينة شارلوت.