موت المسيح

التعريف

إن مركز عمل ربنا يسوع المسيح الفدائيّ هو موته من أجل خطايانا. فلاهوت الكفارة هو التفسير اللاهوتيّ-الكتابيّ الذي يشرح لماذا كان يجب على يسوع، كابن لله، أن يموت وما الذي حققه لخلاصنا بموته.

المُلخّص

يبحث هذا المَقالُ في شرح حَتمية موتُ المسيح وما الذي حققهُ لنا موته كمُخلصنا وربنا. وبعدما نُحدد السياق اللاهوتيّ-الكتابيّ الأكبر للصليب في أسفار العهد الجديد، سنشرح ونحدد المُصطلحات الكتابيّة المختلفة لوصف الصليب، قَبل أن نختتم المقال بأفضل طريقة لفهم سبب وطبيعة الصليب.


إن مُحَاولَة إدراك ما أَتمّهُ ربنا يسوع المسيح في عمله الفدائيّ المجيد بأكمله ليسَ أمراً سهلاً، وذلك بسبب أبعاده المُتَعَددة. وقد سَعي جون كالڤن لإدراك الطبيعة الشاملة لعمل المسيح من خلال مبدأ الـ “munus triplex“–أي وظائف المسيح الثلاث الرئيسية بصفته رأس العهد الجديد والوسيط-فهو النبيّ، والكاهن، والملك. فما سعى كالڤن لتجنبه هو الاختزالية، الخطية “الرئيسيّة” في علم اللاهوت. ولكن، على الرغم من خطورة إعطاء أولوية لإحدى أبعاد عمل المسيح، يؤكد الكتاب المقدس على مركزيّة وظيفة المسيح الكهنوتيّة وموته الفدائيّ من أجل خطايانا (مَتَّى 1: 21؛ كورِنثوس الأولَى 15: 3-4). إذ ليس كافيًا أن يكون المسيح معنا في تجسده فقط؛ كان يجب عليه أيضًا أن يعمل من أجلنا في حياته وموته وقيامته. وبسبب إعطاء هذه المركزيّة لموت المسيح في الأسفار المُقدّسة (مَرقُسَ 8: 31-32؛ أعمالُ الرُّسُلِ 2: 23؛ قارن مع الرؤيا 13: 8)، يتحتم علينا شرحه بشكلٍ صحيح.

لكن، على مدار تاريخ الكنيسة، كانَ هناكَ تنوعٌ في الأفكار اللاهوتية عن الكفَّارة. وفي الحقيقة، على عكس اقرارات المجامع المسكونية لنيقية وخلقيدونية التي رسخّت العقيدة القويمة بخصوص الثالوث والكريستولوجي (أي العقيدة عن المسيح)، فليس هناك اقرار مسكونيّ بخصوص عقيدة الكفارة. وبُناء على هذه الحقيقة، استخلص البعض أنه لا يوجد رأي واحد عن الصليب يفسر بشكلٍ وافٍ ماهيّة جوهر موت المسيح. ومع ذلك، من الضروري مُلاحظة أنه على الرغم من عدم وجود اقرار مسكونيّ مُحدد يخص الصليب، فقد اتفق جميع المسيحيين على أن موت المسيح يضمن غفران خطايانا مما يَهِبنا المصالحة مع الله. ولكن، باعتراف الجميع، فإن الوضوح العقيدي لهذه العقيدة قد جاء بمرور الوقت، تمامًا مثل العقائد الأخرى. وعبر العديد من المناقشات والجدالات حول الكفارة، تَحققَ الوضوح وازدادت الدقة.

كل هذا يُذكرنا باحتياج الكنيسة الدائم للعودة إلى كلمة الله لتفسير الصليب كتابيًا ولاهوتيًا، وهذا ما سنفعله في هذا المقال في ثلاث خطوات: (1) سنصف بإيجاز أربع حقائق أساسية تُحدد مكان الصليب في سياقة الكتابيّ-اللاهوتيّ الصحيح؛ (2) سنذكر الطرق المتنوعة والمتكاملة التي يصف بها الكتاب المقدس الصليب؛ وأخيرًا (3) سنحاول الإجابة على سؤال: ما هو أفضل تفسير لاهوتيّ لشرح معنى موت المسيح من أجلنا.

السياق الكتابيّ-اللاهُوتيّ لفهم صليب المسيح

إن موت ربنا يسوع المسيح لا يُقَدم بمعزل عن الحقائق الكتابيّة الأخرى، لكنه مُقَدم ضمن الإطار العام للكتاب المقدس ومرتبط بالأخص بأربع حقائق كتابيّة عن: الله، البشر، قضية الغفران، وهوية المسيح. دَعُونا نُلقي نَظرة على كل منها على حدة.

من هو الله

أولاً، لكي نفهم الصليب يجب أن ندرك من هو الله كونه الإله المثلث الأقانيم الخالق رب العهد. فالاختلافات حول معنى الصليب هي في الأساس اختلافات حول العقيدة عن الله. فإذا كانت نظرتنا عن الله خاطئة، فلن نفهم أبدًا الغرض من الصليب. يُقَدَم لنا الله من بداية الكتاب المقدس على إنه الإله السرمديّ، الحيّ بذاته، المحبة المُقدسة، البار، كُلِيّ الصلاح –الإله الثالوث الكامل في ذاته، والمكتفي بذاته والذي لا يحتاج منا إلى شيء (التَّكوينُ 1-2؛ المَزاميرُ 50: 12-14؛ إشَعياءَ 6: 1-3؛ أعمالُ الرُّسُلِ 17: 24-25؛ الرؤيا 4: 8-11). أحد المعاني الضمنية لهذا الوصف هو أن الله، بالطبيعة، هو المعيار الأخلاقيّ. ولذلك فإن ناموس الله ليس أمرًا منفصلًا عنه، ولا يمكنه التغاضي عنه. بالعكس، فالله الثالوث هو الناموس؛ وما يُحدد ما هو صواب أو خطأ هو طبيعة الله وإرادته.

يُعتبر ذلك المنظور عن الله أساسًا لفهم سبب الكفارة، لكنه غالبًا ما يُهمَل عند الحديث عن الصليب. واليوم، يُجادل الكثيرون، مُتبعين “المنظور المُستَحدث عن بولس”، بقولهم أن عدل الله وبره هما فقط “أمانة الله لعهده”، أي أن الله يبقى أمينًا لوعوده. لا شكك أن ذلك المفهوم صحيحًا، ولكن ما يفشل هذا المنظور في رؤيته هو أن “البر –العدل–القداسة” مرتبطان في الأساس بطبيعة الله. لهذا السبب، عندما يتعلق الأمر بالخطية، لا يقدر الله، الذي هو الناموس ذاته، أن يتغاضى عن خطيتنا. تتطلب عدالة الله المُقدسة ألا يُعاقِب فقط كل الخطايا، ولكن أيضًا، إذا اختار بنعمته أن يُبرر الفاجر (روميَةَ 4: 5)، فعليه أن يفعل ذلك من خلال استرضاء مطالب ناموسه الأخلاقية البارة والمقدسة. وهكذا، فيما يخص خطيتنا واختيار الله بنعمته أن يُخلِصنا، ظهر هذا السؤال عبر التاريخ الفدائي: كيف سيُظهر الله عدله المقدس ومحبته العهديّة دون أن يتنافى هذا مع طبيعته؟ نجد الإجابة في عطية الآب لنا، أي في ابنه، وفي حياة الخضوع التي عاشها وموته النيابيّ عنا، الذين يجعلونا نقف مُبررين أمام الله في المسيح (روميَةَ 3: 21-26).

من هم البشر؟

ثانيًا، لفهم الصليب، يتحتم علينا أن نفهم من هم البشر كأبناء الله المخلوقين على صورته ليكونوا في علاقة عهديّة معه. وبالتحديد، يجب أن نعرف من هو آدم، ليس فقط كشخص تاريخيّ، ولكن أيضًا بصفته نائب للعهد عن الجنس البشريّ (روميَةَ 5: 12-21؛ كورِنثوس الأولَى 15: 21-22). ولماذا نُعطي أهمية لذلك؟ لأن الله، عند الخلق، وضع شروط العهد وطالب آدم (وجميعنا) بثقةٍ، ومحبةٍ، وطاعةٍ كاملة (التَّكوينُ 2: 15-17). لكن الوجه الآخر صحيح أيضًا: إذا كان هناك عصيان للعهد، فبالنظر إلى من هو الله، سَيُدِيننا على خطايانا والتي تستدعي العقوبة: الموت الجسدي والروحي (روميَةَ 6: 23).

قضية الغفران

ثالثًا، لفهم الصليب، يجب أن نُدرك جدية مُعْضِلَة خطيتنا أمام الله. بكل أسف، لم يُحب آدم الله لدرجة الولاء الكامل له في العهد. فقد عصى الله، وبهذا جَلَب الخطية والموت إلى العالم. وبدءًا من الإصحاح الثالث لسفر التكوين فصاعدًا، أصبح جميع الناس، “في آدم” مُذنبين، وفاسدين، ومحكوم عليهم بالموت (التَّكوينُ 3؛ روميَةَ 5: 12-21؛ أفَسُسَ 2: 1-3). إن كان الله سيفدي، وهو وعد بالفعل بنعمته أن يفدينا (التَّكوينُ 3: 15)، فكيف سيفعل ذلك؟ بالنظر لطبيعة الله بكل كماله الأخلاقيّ، كيف سيُعلن الله أن الخطاة مُبررين بصرف النظر عن استرضاء مطالبه الأخلاقية بالكامل؟ فلابد أن يُدين الله الخطية ويُنفذ العدالة الكاملة لأنه كُلِّيّ القداسة، والعدل، والصلاح. لن يتغاضى عن ذنوبنا، ولن يتساهل مع مطالب عدله، وبالحق نحمده من أجل ذلك! ولكن لكي يُبررنا، لابد أن يُكَفر عن خطايانا بالكامل. فكيف، إذًا، يُمكن لله أن يُدين خطايانا، ويرضي مطالب بره، ويُبرر الخُطاة؟

أَضف إلى هذه النقطة، أنه بغرض إبطال خطية آدم، ونَقضها ودفع ثمنها، نحتاج إلى شخص ما من الجنس البشريّ مُتَحِد معنا في إنسانيتنا (التَّكوينُ 3: 15)، يُقَدم بدلًا عنا طاعة العهد المطلوبة منا، ويدفع ثمن خطايانا. كما نحتاج لشخصٍ يصبح هو مُمثلنا وبديلنا في العهد، وبحياته وموته في الطاعة يَضمن تبريرنا أمام الله. شكرًا لله، فكلمة الله تُعلِن بمجد أنه يُوجد إنسانٌ واحدٌ –وواحدٌ فقط- يُمكنه أن يفعل ذلك من أجلنا، وهو ربنا يسوع المسيح (انظر العِبرانيّينَ 2: 5-18).

من هو المسيح؟

رابعًا، لفهم الصليب، يجب علينا أيضًا أن نفهم من هو يسوع. ففي الكتاب المقدس، يسوع ليس مجرد إنسان، فهو الله الكلمة المتجسد، الأقنوم الثاني في الثالوث. إنه ليس طرفًا ثالثًا مُنفصلًا عن الله. لا يُمكننا أن نُفكر في عمله الكفاريّ بمعزل عن الثالوث الذي تمم خلاصنا بالكامل. وأيضًا، اتخذ طواعية دور فادينا، بصفته الابن الأبديّ، المحبوب من الأزل من الآب والروح القدس. وفي تجسده، اتحد بإنسانيتنا ليُمَثلنا أمام الله (العِبرانيّينَ 5: 1). وعبر حياة الطاعة الإنسانيّة التي عاشها كآدم الأخير ووسيط العهد الجديد، أطاع يسوع من أجلنا. وفي موته الخاضع، كابن الله، استرضى مطالبه الصالحة ضدنا كذبيحة عن خطايانا (روميَةَ 5: 18-19؛ فيلِبّي 2: 6-11؛ العِبرانيّينَ 5: 1-10).

هذه الحقائق الأساسية جوهرية لوضع الصليب في سياقه اللاهوتيّ-الكتابيّ السليم، وفي الواقع، يجب أن نضع اللغة المستخدمة عن الصليب ضمن هذا الإطار العام.

الأبعاد المختلفة للوصف الكتابيّ للصليب

للصليب اوصافًا متعددة في الكتاب المقدس، ولكنها ليست متناقضة. في الواقع، المدهش في عرض الكتاب المقدس لأبعاد الصليب المتنوعة هو مدى ترابط كلماته، وتشبيهاته، ومفاهيمه. يعطينا الكتاب المقدس ثماني طرق للتفكير في الصليب: الطاعة، الذبيحة، الكفارة، المُصالحة، العدل، الانتصار، والمثال الأخلاقيّ. ولكن ليس أيّ من تلك الأبعاد هو عشوائيّ أو بمعزلٍ عن الحقائق الأربعة التي ذكرناها سابقًا. فتلك الموضوعات تشرح معًا معنى وأهمية موت المسيح المُخَلِص لنا بطريقة دقيقة للغاية.

الطاعة

تُعَبّر هذه الكلمة/ المفهوم عن منظور المسيح الشخصيّ للصليب؛ فهو قد جاء ليُتَمم مشيئة أبيه (ككلمة: روميَةَ 5: 19؛ فيلبيّ 2: 8؛ العِبرانيّينَ 5: 8-9؛ كمفهوم: مَرقُسَ 10: 45؛ يوحَنا 5: 30؛ 10: 18؛ غَلاطيَّةَ 4: 1-4؛ العِبرانيّينَ 2: 10-18؛ 10: 5-10). في الرسالة إلى رومية الإصحاح الخامس، تأتي كلمة الطاعة في السياق العهديّ لرأسيّ البشر–آدم والمسيح. هذا الأصحاح يُرَكز على طاعة المسيح كمُمَثل لنا وموته النيابيّ عنا. وفي الإصحاحين الثاني والخامس من الرسالة إلى العبرانيين، نجد الكلمة في سياق موت المسيح كذبيحة بصفته رئيس كهنتنا الأعظم، مما يؤكد على موته البدليّ عنا.

الذبيحة

يُوصَف أيضاً موت المسيح بأنه “ذَبيحةٌ ” من أجل خطايانا، ويُفهَم في سياق نظام الذبائح في العهد القديم، وبالتالي ننظر إلى الصليب على أنه عمل نيابيّ وبدليّ عنّا (أعمالُ الرُّسُلِ 10: 28؛ كورِنثوس الأولَى 5: 7؛ 11: 25؛ أفَسُسَ 5: 2؛ روميَةَ 8: 3؛ بُطرُسَ الأولَى 1: 9؛ 3: 18؛ غَلاطيَّةَ 1: 4؛ الرؤيا 5: 8-9؛ 7: 14). لماذا؟ لأن من المنظور الكتابيّ، لا يستطيع المرء أن يُفكر في موت المسيح كذبيحة دون التفكير في التمثيل الكهنوتيّ والبدليّة العقابيّة. واليوم، يستند البعض على تنوع الذبائح في العهد القديم للتقليل من الطبيعة البدليّة لموت المسيح. ومع ذلك، إذا حققنا في كيفية عمل هذه الذبائح في العهد القديم وسفر اللاويين، سنرى أنه من الصعب تجنُب حقيقة أن الخطية، والذنب، ودينونة الله، والحاجة إلى دفع ثمن الخطية هم جوهر نظام الذبائح (بُطرُسَ الأولَى 2: 24-25).

الكَفَّارة

“الكفارة” هي كلمة أخرى تصف صليب المسيح (روميَةَ 3: 24-26؛ العِبرانيّينَ 2: 17؛ يوحَنا الأولَى 2: 2؛ 4: 10)، وتربطه بصورة الذبيحة، والكاهن، وغضب الله على الخطيّة. والجدير بالذكر أن الكلمة تُقَدم الله، في غضبه المُقدس ضد الخطية (يوحَنا 3: 36؛ روميَةَ 1: 18-32)، باعتباره الموضوع الأساسيّ من الصليب. فعلى الرغم من آثار الخطية الكثيرة، فلإن خطيتنا قبل كل شيء هي ضد الله، وليتم فداؤنا، يجب على الله أن يتصرف ويُبادر بنعمته ومحبته ليسترضي مطالبه البارة والمقدسة ضد الخطية، وهذا بالضبط ما فعله في ابنه.

الفداء

تُستخدم كلمة “الفداء” و”الفدية” أيضًا لتوضيح معنى موت المسيح عنا (مَرقُسَ 10: 45؛ روميَةَ 3: 24-25؛ كورِنثوس الأولَى 6: 19-20؛ غَلاطيَّةَ 3: 13؛ 4: 4-5؛ أفَسُسَ 1: 7؛ كولوسّي 1: 13-14؛ تيموثاوُسَ الأولَى 2: 6؛ تيطُسَ 2: 14؛ بُطرُسَ الأولَى 1: 18-19؛ العِبرانيّينَ 9: 12، 15). كمصطلح/ مفهوم، ينقل “الفداء” فكرة التحرير أو “إعادة الشراء” من حالة العبودية بدفع ثمن. يحاول البعض تفسير “الفداء” على أنه مجرد عمل خلاص، ولكن بشكل متكرر في الكتاب المقدس، يتم “فداء” الأشخاص والممتلكات جميعًا بدفع ثمن (على سبيل المثال، الخُروجُ 13: 13؛ 34: 20؛ العَدَد 18: 14-17؛ إرميا 32: 6-8؛ أفَسُسَ 1: 7؛ أعمالُ الرُّسُلِ 10: 28؛ الرؤيا 5: 9). وهذا ينطبق أيضًا على صليب المسيح؛ فقد دفع المسيح نفسه الثمن الباهظ لفدائنا بسفك دمه لغفران خطايانا (على سبيل المثال، أعمالُ الرُّسُلِ 20: 28؛ أفسس 1: 7؛ بُطرُسَ الأولَى 1: 18-19).

الْمُصَالَحَة

يضمن موت المسيح أيضًا “مُصَالحتنا”: أولًا مع الله (روميَةَ 5: 1-2؛ أفَسُسَ 2: 17-18؛ 3: 12؛ العِبرانيّينَ 10: 19-22)، ثم مع بعضنا البعض، إذ تحققت مطالب العهد القديم وخُلِقَ الإنسان الجديد (أفَسُسَ 2: 11-22)، وكذلك كونيًا، بهزيمة الخطية والموت والشيطان وبداية الخليقة الجديدة (كولوسّي 1: 15-2-؛ 2: 15؛ قارن مع 8: 18-27؛ أفَسُسَ 1: 10، 22). في سياق أحداث الكتاب المقدس، توحي كلمة “المصالحة” أننا كنا غُرباء عن الله وتحت دينونته بسبب خطايانا، ولكن الآن في المسيح، فقد زالت العداوة، وصار لنا أن نتمتع بكل بركات الخليقة الجديدة.

العدل والتبرير

يُقَدَّم لنا أيضًا صليب المسيح كالفعل القضائيّ الذي يؤدي إلى تبريرنا (روميَةَ 3: 21-26؛ 5: 9؛ قارن كورِنثوس الثّانيةُ 5: 21؛ غَلاطيَّةَ 3: 13). وفي قلب تلك الصورة، نرى مشهد المحكمة القضائية. أمام ديان الكون القدوس البار، الذي أعلن أن كل البشر، بسبب خطيتهم، مُدانين ومُذنبين (روميَةَ 3: 23؛ 6: 23؛ قارن مع 8: 1). ومع ذلك، بفضل نعمة الله ومبادرته، صار ابن الله واحدًا معنا بتجسده ليكون هو مُمثلنا القانونيّ والعهديّ (روميَةَ 5: 12-21)، وليموت عوضًا عنا (روميَةَ 3: 24-26؛ غَلاطيَّةَ 3: 13). وبسبب ما أتممه، وباتحادنا معه بالإيمان، يُعلِن الله أننا أبرار، ليس ذلك وصفًا لحالتنا الأخلاقيّة الحالية، ولكنه إعلان عن حالتنا ومكانتنا أمام الله، بسبب العمل النيابيّ والبدليّ لوسيطنا، ربنا يسوع المسيح.

النُصرَة والإخضاع

يَهزِمُ صليب المسيح أيضًا كل أعداءنا: الخطية، والموت، والشيطان نفسه. ومن التَّكوينُ 15 :3 فصاعدًا، يظهر موضوع المُحارب الإلهي كالطريقة الرئيسية لفهم ما أتمّه صليب المسيح. في العهد الجديد، يتطوّر إعلان ذلك الحق من قِبَل يسوع (يوحَنا 12: 31-33)، وبولس (كولوسّي 2: 13-15)، وكاتب العِبرانيّينَ (العِبرانيّينَ 2: 14-15). يُجادل البعض اليوم، أن منظور المسيح المنتصر (أو Christus Victor) هو الطريق الأمثل لتفسير ما أتمه موت المسيح من أجلنا. ولكن، من المهم أن نتذكر أن الخطية والموت والشيطان لهم سلطان علينا فقط بسبب خطايانا. إن مشكلتنا الأساسية ليست الشيطان، ولكن خطيتنا أمام الله (التَّكوينُ 2: 17؛ روميَةَ 6: 23). ففي النهاية، الشيطان هو مجرد مخلوق. والسلطة الوحيدة التي يمتلكها هي سلطة مُغتصبة، وقد أتى المسيح لينقُض أعمال إبليس عبر تعامله لأساس المشكلة: الخطية. ولذلك نرى أن هزيمة القوى الشريرة قد تمت أولًا في هزيمة الخطية واسترضاء ثمنها أمام الله (كولوسّي 2: 13-15).

المثال الأخلاقيّ

يُقَدم الكتاب المقدس أيضًا المسيح وصليبه على أنه المثال الأخلاقي الأسمى للمؤمنين في المحبة والطاعة والألم (مثل، يوحَنا 13: 12-17؛ أفَسُسَ 5: 1-2، 25-27؛ فيلِبّي 2: 5-11؛ بُطرُسَ الأولَى 2: 18-25؛ يوحَنا الأولَى 4: 7-12). ولكن، لا يُعتبر هذا هو المعنى الأساسيّ لموت المسيح. فالكلمة المقدسة تُعلمنا أن فداءنا يحتاج إلى أكثر من مجرد مثال للطاعة. ما نحتاجه بحق هو أن يعيش المسيح ويموت من أجلنا. فمشكلتنا، في الأساس، هي خطيتنا أمام الله الثالوث القدوس وهذه المشكلة تتطلب تجسد ابن الله ليُمثلنا في حياته ويموت من أجلنا كرأس العهد والوسيط. فقط بعمل المسيح من أجلنا كذبيحة كفارية، يتم تسديد مطالب بر الله بالكامل، وننال نحن، بالإيمان وحده في المسيح وحده، جميع بركات العهد الجديد: الفداء، والمصالحة، والتبرير، والنصرة على أعدائنا.

ما هو أفضل تفسير للصليب؟

يٌقدّم الكتاب المقدس عرضًا غنيًا متعدد الأوجه للصليب. تمامًا مثل جوهرة فائقة الجمال يُمكن النظر إليها من زوايا مختلفة. ولكن، في ضوء الإطار الكتابيّ-اللاهوتيّ للكتاب المقدس، وباعتبار كل المصطلحات المستخدمة عن الصليب كتابيّة، فإن التفسير المركزيّ للصليب هو أن المسيح جاء وسيطًا لنا ورأسًا للعهد الجديد ليُقدم نفسه أمام الله بديلًا عنا وعن خطايانا. العقيدة الأمثل في شرح هذا الحق هي عقيدة البدليّة العقابيّة مقارنةً بعقائد لاهوت الكفارة الأخرى (على سبيل المثال، نظرية الاسترداد، والمسيح المنتصر، والمثال الأخلاقي، إلخ). لماذا؟ لأن البدليّة العقابيّة، كتفسير لاهوتيّ للصليب، هي الأفضل في شرح كل المعطيات الكتابيّة عن الصليب، وبالأخص ضرورية موت ابن الله ليفدينا.

ما هي البدلية العقابية؟

يُشير العقاب إلى الحالة المروعة للجنس البشري في آدم حيث نقف تحت دينونة الله وعقوبة الموت. تُجسد هذه الكلمة الواحدة السمة المحورية لقصة الكتاب المقدس: آدم، بصفته نائب العهد ومُمثل الجنس البشري، قد عَصى الله وأصبحت خطيته خطيتنا بالطبيعة، والانتساب، وباختيارنا أيضًا. كل البشرية هي “في آدم” وبالتالي تحت قوة وعقاب الخطية –أي الموت الروحي والجسدي (روميَةَ 3: 23؛ 6: 23؛ انظر أفَسُسَ 2: 1-4). نتيجة لذلك، نحن غرباء عن الله الثالوث الذي خلقنا لنعرفه ونحبه؛ وصرنا تحت حكم دينونته؛ ولأنه إله شخصيّ قدوس وبار فإننا نقف تحت وطأة دينونته الإلهية.

تُشير البدليّة إلى هويّة المسيح الذي يعمل بصليبه معنا ومن أجلنا. يُجَسد هذا المصطلح أيضًا قصة الكتاب المقدس للتحدث عن إله النعمة الثالوث الذي اختار أن يفدي شعبه بدلًا من تركنا في خطايانا وتحت الدينونة الإلهيّة. يفدينا الله من خلال مبادرة الثالوث بتقديم بديلًا عنّا. وبصفته رأس العهد الجديد، كان المسيح ممثلًا لنا في حياته وموته كآدم الأخير والأعظم الذي أطاع الآب بمحض ارادته وبسرور وبقوة الروح القدس. وفي الموت، وقف المسيح مكاننا، آخذًا مطالب برنا على عاتقه، ودافعًا لديننا بقبوله العقوبة التي نستحقها. نتيجة عمل المسيح من أجلنا هي أنه بالاتحاد بإيمان بالمسيح، يُعلن الله الآب أننا مُبَرَرين، مغفورةً لنا كل خطايانا، ومحررًا لنا من قوة الخطية وسلطان إبليس الذي كان له في يوم اصدار حكم الموت والدينونة ضدنا (كورِنثوس الثّانيةُ 5: 21؛ انظر بُطرُسَ الأولَى 3: 18؛ غَلاطيَّةَ 3: 13؛ العِبرانيّينَ 9: 28؛ روميَةَ 8: 32).

من بين كل نظريات لاهوت الكفارة، فإن البدلية العقابية هي الوحيدة التي تُجَسد غنى الإعلانات الكتابيّة وطبيعة الصليب التي مركزها الله. غالبًا ما تُركز البدائل الأخرى من النظريات على جانب كتابيّ واحد من الصليب. ومع ذلك، فإن تفسيرهم الكلي إما لا يأخذ في الحسبان كل التعاليم الكتابية أو أنه يقلل من المشكلة الأساسية التي يُعلّمنا الكتاب المقدس أن الصليب عالجها، وهي بالتحديد خطيتنا أمام الله (المَزاميرُ 51: 4). وقبل أن نتحدث عن النتائج الأفقية للصليب، يتعين علينا أن نتحدث عن النتائج الرأسية أولًا، أي أن الله المثلث الأقانيم، في ابنه، أرضى بنفسه مطالبه، حتى نتمكن، في المسيح، أن نتبرر أمامه (روميَةَ 5: 1-2). تفتقد نظريات الكفارة الأخرى تلك النقطة المحورية. فبالنسبة لهم، إن غرض الصليب هو إما خطايانا (شكل من أشكال نظرية الاسترداد)، أو الشيطان والقوى الشريرة (شكل من أشكال نظرية المسيح المنتصر). ولكن ما يفشلون في رؤيته هو أن الشخص الأساسي الذي أخطأنا تجاهه هو ربنا وخالقنا القدوس المجيد مُثلث الأقانيم، وعلى هذا النحو، فإن الغرض النهائي للصليب هو الله نفسه.

وبالحق، من وجهة نظر كتابيّة ولاهوتية، فإن البدلية العقابية هي الطريقة الأمثل لشرح ما هو جوهر موت المسيح لأنها طريقة أخرى لإعلان إنجيل نعمة الله السيادية. إنها اختصار للحديث عن الله الثالوث في كامل قداسته وبره وعدله. كما تنقُل أيضًا العقيدة حقيقة حالة البشر العاجزة أمام الله، وأن يسوع وحده هو القادر على إنقاذنا وتبريرنا وفداءنا. إنه فقط في المسيح لنا مُخلّص يقدر أن يُمثلنا، ويدفع ثمن عقابنا، وبذلك يُخلصنا بالتمام. إن البدليّة العقابيّة تضع الله بحق في مركز خلاصنا، وتُذكرنا أن إله النعمة خطط لخلاصنا من قبل الأزمنة الأزلية وتمم ذلك في التاريخ البشريّ. من البداية إلى النهاية، تصرف الله وحده بقوة ونعمة ليُقدم، ويُحقق، ويُتمم خلاصنا بمُبادرة الآب، في ومن خلال الابن، وبواسطة الروح القدس.


تم نشر هذا المقال على موقع The Gospel Coalition: U.S Edition

شارك مع أصدقائك

ستيڤن ويلوم

أستاذ اللاهوت المسيحيّ بالكليّة المعمدانية الجنوبيّة للاهوت، ومؤلف العديد من الكتب في مجال اللاهوت النظاميّ.