لماذا علينا دراسة الهَرَاطِقَة

صادفتُ مُؤَخَّرًا كتابًا بعنوان اِعْرِفْ الهَرَاطِقَة، بقلم چَاسْتِنْ إس. هُولْكَمْ. إذا اقتنعتَ بعد هذه المراجعة بأنَّ هذا الكتاب يستحق الاقتناء، فَقَدْ ترغب في الاطِّلاع على السلسلة الأكبر حول تاريخ الكنيسة التي يُشَكِّل هذا الكتاب جزءًا منها. بينما نَشهَد المزيد من المسيحيِّين “يهدمون” ويحاولون تفكيك أساسيات الإيمان،  مبتغين تقديم نسخة أكثر حداثة من المسيحية، لا يمكنني التفكير في وقت أكثر ملاءمةً للقراءة عن الهراطقة-هذه الشخصيَّات التاريخيَّة المُهِمَّة.

على امتداد كتاب اِعْرِفْ الهَرَاطِقَة، لا يكتفي هُولْكَمْ بالتحديد الدقيق للخط الفاصل بين الهرطقة والإيمان القويم في الكنيسة الأولى، ولكنَّه يعرض ذلك في سلسلة من القصص والمناقشات حول شخصيَّات تعتبر -بناءً على قناعتك- إمَّا حيوانات مفترسة خطيرة استغلَّت الأشخاص الضعفاء، أو مُجَرَّد باحثين عن الحق نِيَّتهم حَسَنَة تَعَرَّضوا للتهميش من قِبَل مؤسسة الدِّين أو المسيحية الرسميّة.

ما هو أُرْثُوذُكْسِيٌّ يُحَدِّد ما هو هَرْطُوقِيٌّ

يُعَرِّف هُولْكَمْ المسيحيَّة القويمة (الأُرْثُوذُكْسِيَّة) بطريقةٍ أعتقد أنَّ مُعظَم الناس سيجدونها جَذَّابة: “الأُرْثُوذُكْسِيَّة هي التعليم الذي يتبع بأفضل شكل ممكن الكتاب المقدَّس ويُلَخِّص بأفضل شكل ممكن ما يُعَلِّمه” (11). لَطَالَمَا كانت أُلُوهِيَّة يسوع ومعنى موته وقيامته وطبيعة الله الثالوثيَّة أمورًا جوهريَّة للأُرْثُوذُكْسِيَّة.

هناك بالطبع أمورٌ كثيرة لا نضعها في نفس المستوى، ومنها طريقة المعموديَّة، كيفيَّة إدارة الكنيسة، أساليب الموسيقى في العبادة.

الهرطقة، بِحَسَب هُولْكَمْ، هي انحراف عن التعليم الذي يتبع بأفضل شكل ممكن الكتاب المقدَّس ويُلَخِّص بأفضل شكل ممكن ما يُعَلِّمه كأمور أساسيَّة أو جوهريَّة؛ لذا فإنَّ الانتقال من التفكير الفضولي التجريبي إلى التفكير الهَرْطُوقِي غالبًا ما يكون مسألة متدرجة بشكل متفاوت. ما يترتَّب على اعتبارنا تعليمًا ما هَرْطُوقِيًّا هو أنَّنا لا نعود قادرين على الاعتراف به كتعليمٍ مُتَّسِق ومتماسِك كتابيًّا.

ولكن كيف يمكن للمرء أن يُمَيِّز عندما يكون التعليم هرطقة وعندما يكون مُجَرَّد تفسير مختلف؟

الأُرْثُوذُكْسِيَّة والرغبة في إكرام الله

يُجيب هُولْكَمْ عن هذا السؤال بطريقة رائعة، إذ يقول إنَّ الخالق اختار أن يُعلِن نفسه ويعيش معنا، ومن الصواب أن نحترم هذه الأفعال ونُقَدِّرها. تُعَدُّ وجهات نظرنا حول هذه الأفعال إلى حدٍّ كبير نتيجةً للصراع بين الأُرْثُوذُكْسِيَّة والهرطقة.

يمكن أن تنشأ الهرطقة من أي مكان، بدءًا من قادة الكنيسة والمُفَكِّرين الذي يحاولون فهم الاختلافات بين الدِّين المسيحي والمعتقدات الأخرى في العالم من حولهم؛ إلى المسيحيِّين الشباب والغيورين الذين يحصلون على إجابات سَيِّئة عن أسئلة جَيِّدَة؛ إلى أعضاء الكنيسة الأثرياء أو ذوي العلاقات السياسيَّة الذين يَستَغِلُّون نفوذهم لقيادة كنيستهم في اتِّجاه مُعَيَّن. غير أنَّه، بصفة عامَّة، تميل الهرطقات إلى الحَيَدَان عن الرسالة الأصليَّة للإنجيل، الوضوح حول أُلُوهِيَّة يسوع، كيف يتحدَّث الله إلى البشريَّة، قَصْد الله للعالم.

كُنْ حَذِرًا جِدًّا في استخدام لقب: هَرْطُوقِيّ

مع ذلك، فإنَّ ما يقوم به هُولْكَمْ جيِّدًا هو الكشف أيضًا عن المواضع التي أخطأت فيها الكنيسة المُؤَسَّسِيَّة ووَصَمَتْ سائلين أبرياء أو رُبَّما مُنشَقِّين بأنَّهم هراطقة ثُمَّ عاملتهم بقسوة أو حتَّى بعنف. لا يوجد افتراض بأنَّ الكنيسة المُؤَسَّسِيَّة كانت دائمًا على حَقٍّ في كُلِّ المواقف. في الواقع، كانت هناك حقبة كبيرة من التاريخ في القرون الأولى فهمت فيها الكنيسة المُؤَسَّسِيَّة بعض الجوانب المركزيَّة للإنجيل على نحوٍ خاطئ! لكن يمكنك قراءة المزيد عن ذلك في الكتاب.

يُحسِن هُولْكَمْ عندما ينصح القارئ بأن يضع في حسبانه أنَّه يوجد خط فاصل بين طرح أسئلة صادقة حول مسائل لاهوتيَّة وبين تَّخَلِّي المَرْء عن معتقداته من أجل شيء مختلف تمامًا. هل يبدو هذا مألوفًا؟ إنَّه في كل مكان على شاشاتنا وموجزاتنا اليوم – عازف موسيقى الروك المسيحي الشهير أو مُقَدِّم البودكاست الشهير أو المُؤَلِّف الشهير يهدم الإيمان أو يَهجُر الكنيسة أو أيًّا كان، ورُبَّما ليس المشاهير، رُبَّما المسيحيُّون السابقون في عائلاتنا أو صداقاتنا، أولئك الذين طرحوا أسئلة ولم يحصلوا أبدًا على إجابة أعجبتهم، أو رُبَّما طرحوا أسئلة، ولكنَّهم كانوا دائمًا يبحثون عن طريقة للخروج من الإيمان.

الهرطقات القديمة تستمر في الظهور من جديد

يُغَطِّي هُولْكَمْ في كتابه اِعْرِفْ الهَرَاطِقَة بعضًا من أشهر المُفَكِّرين البُدَلَاء في الكنيسة، من أريوس إلى مارسيون، بالإضافة إلى الآخرين الكثيرين الذين لا يزال بإمكانك التَّعَلُّم منهم، مثل سُوسِينُوس وماني، لكن بصرف النظر عن الاسم أو المُفَكِّر، وبصرف النظر عن مدى قِدَمِهِ في تاريخ الكنيسة، فمن شِبْه المُؤَكَّد أنَّك سوف تُمَيِّز تعاليمه في أماكن مُعَيَّنة اليوم؛ مِمَّا يجعل كُتُبًا مثل كتاب هُولْكَمْ بالغة الأهميَّة للكنيسة المُعَاصِرَة.

ليس تاريخ الكنيسة موضوعًا غير ذي صِلَة وعَفَا عليه الزمن، وكذلك أيضًا دراسة الهراطقة دراسةً دقيقة مُتَأَنِّيَة، فيمكننا تَعَلُّم الكثير من انحرافهم اللاهوتي، بل ومن تَنَازُلهم الكامل، أي إنَّه من خلال دراسة اللاهوت الذي سلك مسلكًا خاطئًا يمكننا تَجَنُّب الوقوع في أغلاط وزَلَّات مماثلة، وفي الوقت نفسه، يمكننا الاستفادة من ملاحظة كيفيَّة عدم التعامُل مع الخلاف والجَدَل اللاهوتي.

شارك مع أصدقائك