9 تساؤلات حول قضية الاختيار

ما أروعه لقب يملأ صفحات الوحي المقدس، أطلقه الرب على المؤمنين باسمه أنهم: “مختاري الله   القديسين” (كولوسي 12:3). فيبارك الرسول بولس الرب في أفسس قائلًا: “كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم، لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئته” (أف4:1-5)”؛ ويهتف في رومية 33:8 قائلًا: “من سيشتكي على مختاري الله”؛ ويؤكّد لمؤمنيّ تسالونيكي أنه والعاملون معه متأكدون من اختيار الله لهم بقوله: “عالمين   أيها   الإخوة   المحبوبون   من   الله   اختياركم” (1 تسالونيكي 4:1). ويعود ليؤكّد لهم في رسالته الثانية 13:2 قائلًا: “أن الله اختاركم من البدء للخلاص، بتقديس الروح وتصديق الحق”. ويكتب الرسول يوحنا في فاتحة وخاتمة رسالته الثانية يقول: “الشيخ، إلى كيرية المختارة.. يسلم عليك أولاد أختك المختارة” (يوحنا الثانية 1، 13).

ولكن، اختلف المؤمنون في الكيفيّة التي يتم بها هذا الاختيار. فهناك من رأى أن اختيار الله لنا يتم بحسب علمه السابق، أي أنه اختارنا لأنه عرف مسبقاً أننا سوف نختاره، وهو ما يدعى بالفكر الأرمينيّ (نسبة إلى جيكوب أرمينيوس). وهناك من رأى أن الله اختارنا بمطلق سلطانه ونعمته ومبادرته الإلهية، وليس كرد فعل منه على اختيارنا نحن له، وهو ما يُدعى بالفكر الكالفينيّ (نسبة إلى جون كالفن، رغم أن مارتن لوثر ومن قبله أوغسطينوس هما أكثر من تحدث عن الاختيار، وليس كالفن).

“كيف اختارنا الله؟” هو سؤال يحمل في طياته العديد من التساؤلات الأخرى حول سُلطان الله ومسؤولية الإنسان، وحول مفهوم العدالة والظلم والرحمة. لذا، سنحاول في هذا المقال استعراض أهم الأفكار والحجج التي يقدمها كل من الرأي الأرمينيّ والكالفينيّ، ونمتحنها في ضوء كلمة الله. سوف نقوم بذلك من خلال طرح 9 تساؤلات جادة:

  • أولًا: إلى أي مدى فسد الإنسان بسبب السقوط؟
  • ثانيًا: هل اختيار الله مشروط أم غير مشروط؟
  • ثالثًا: هل يمكن مقاومة أو رفض عمل الله الخلاصيّ؟
  • رابعًا: هل عند الله ظلم؟
  • خامساً: ما الذي يضمن مثابرة المؤمن حتى النهاية؟
  • سادسًا: هل فعاليّة كفارة المسيح تشمل كل البشر؟
  • سابعًا: بعيدًا عن بولس، أين نجد التعليم عن الاختيار في كلام المسيح؟
  • ثامنًا: ماذا عن حرية الإرادة؟
  • تاسعًا: ما أهميّة هذا التعليم لحياة المؤمن؟

أولًا: إلى أي مدى فسد الإنسان بسبب السقوط؟

يؤمن الفكر الأرميني بفساد الطبيعة الإنسانية بسبب السقوط، وأن الإرادة الإنسانية بحاجة إلى النعمة كعنصر مساعدة. ولكن هذا الفساد لم يسلب الإنسان حرية إرداته وقدرته على أن يأتي إلى الله ليقبل الخلاص أو يرفضه. ففي عظته عن التعيين المُسبق، يُصرّح جون وسلي، أحد رواد الفكر الأرمينيّ قائلًا: “فإذا لم يكن الإنسان حراً، فلن يكون مسؤولاً عن أفكاره أو أقواله أو أفعاله. إذا لم يكن حرا، فلن يكون أهلًا للثواب أو العقاب؛ سيكون غير قادر على فعل الصلاح أو الرذيلة، أو أن يكون جيدًا أو سيئًا من الناحية الأخلاقية.”[1]

ويستند هذا الرأي على الكثير من الآيات التي يروا أنها تُشدد بوضوح على مسئولية الإنسان لرفض الله أو اختياره، مثل تثنية 19:30؛ يشوع 15:24؛ يوحنا 37:7؛ أعمال الرسل 38:2؛ 30:17. وفي ضوء هذه الآيات يُقدّم الفكر الأرميني اطروحته أنه طالما تحوي هذه الآيات وصية من الله للبشر أن يتوبوا؛ وأنه أبداً لا يعطي للإنسان وصايا مستحيلة؛ إذن فيمكن للإنسان بإرادته أن يؤمن وأن يتوب، فله حرية أن يختار الله أو يرفضه.

على الصعيد الآخر، نرى أن الفكر الكالفينيّ لا يُنكر حرية الإنسان؛ فهو كائن عاقل حر يختار ما يشاء. لكن يُشدد هذا الرأي على حقيقة أخرى هامة وهي أن صحيح أن الإنسان حُرّ ليختار ما يشاء، لكنه عاجز أن يختار الله، بسبب فساد قلبه! فالوحي المقدّس لا يقدّم لنا الإنسان بعد السقوط على أنه مريض يمكن علاجه أو أن يقبل أو يرفض العلاج الإلهيّ، إنما يصفه وقد ترك الفساد بصمته في كل كيانه.

فإنسان ما بعد السقوط، بحسب كلمة الله، هو ميت يحتاج إلى عمل النعمة لتقيمه (أفسس 5:2؛ كولوسي 13:2)؛ وأعمى يحتاج إلى معجزة استنارة (كورنثوس الثانية 4:4؛ أعمال الرسل 18:26)؛ عدو لله في الفكر، ولا يقبل ما لروح الله ولا يقدر أن يقول المسيح رب ما لم يجتذبه الآب من خلال عمل الروح القدس (كولوسي 21:1؛ كورنثوس الأولى 3:12؛ يوحنا 44:6)؛ يحب الظلمة، ويبغض الرب، وبمعرفة طرقه لا يُسر (يوحنا 19:3؛ رومية 30:1)؛ ومستعبد للشهوات وتحت عبودية قاسية من إبليس وسُلطان الظلمة (تيطس 3:3؛ رومية 24:1؛ أفسس 3:2؛ يوحنا 41:8؛ كولوسي 13:1).

بحسب الرأي الكالفينيّ، الإنسان حر ليفعل الخير لكنه لا يستطيع؛ حر لكي يمتنع عن الشر لكنه لا يقدر؛ إذ تجنح طبيعته الفاسدة تلقائياً إلى الخطية والشر.[2] أو هو مثل مدمن الكحول، له الحرية أن يختار أن يشرب أو لا يشرب؛ لكنه لا يقدر سوى على شيء واحد فقط هو أن يشرب![3] أوكالطائر الذي كُسر جناحه، حر ليطير، لكنه غير قادر.[4] فإنسان ما بعد السقوط لا يقدر سوى أن يُخطيء، ولا يقدر أن يختار الصلاح. لماذا؟ لأن إختياراته دائماً ما تكون متأثرة طبيعته الفاسدة وقلبه الشرير. فهو بحاجة أن يتغيّر هذا القلب أولًا، وأن يتحرر من سُلطان الظلمة، ليعرف أن يحب الله ويختاره.

إما من جهة الاستدلال الأرمينيّ بالآيات التي من خلالها يوصي الله الإنسان بأن يتوب ويختار الصلاح كدليل على استطاعة الإنسان على التوبة وأن يقبل إلى الله؛ فبحسب الرأي الكالفينيّ، هو استدلال يفتقر إلى الدليل والبرهان. فعلى مدار صفحات الوحيّ المقدّس، كثيرًا ما أعطى الله الإنسان وصايا كان الغرض منها أن يُثبت للإنسان مدى عجزه وأنه بحاجة إلى أن يتدخّل الله بنعمته في حياته. على سبيل المثال، أوصى المسيح الشاب الغني قائلاً: “إن أردت أن تكون كاملا فاذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء فيكون لك كنز في السماء وتعال اتبعني. فلما سمع الشاب الكلمة مضى حزينا لأنه كان ذا أموال كثيرة” (متى 21:19) وعندما سأله تلاميذه: “إذا من يستطيع أن يخلص؟” فقد رأوا في كلمات المسيح مدى عجز الإنسان على ترك الأمور التي يتعلق بها القلب. لذا، حوّل المسيح أعينهم من على قدرة الإنسان “من يستطيع” إلى عمل الله وقدرته: “هذا عند الناس غير مستطاع ولكن عند الله كل شيء مستطاع.” (متى 25:19–26) الأمر نفسه يمكن أن يُقال على كلمات الله لشعبه في العهد القديم: “قد جعلت   قدامك   الحياة   والموت.   البركة   واللعنة.   فاختر   الحياة   لكي   تحيا   أنت   ونسلك” (تثنية 15:30–19). فكسائر الناموس أيضًا، كان هدف مثل هذه الوصايا أن تبرهن فشل الإنسان وعجزه وحاجته إلى خلاص الله. فالوصايا بكل أشكالها لم تعط كوسيلة للخلاص، ولكن لتقودنا للمسيح (انظر رومية 20:3؛ غلاطية 23:3–24). لذا، فبالرغم من أن الكتاب المقدس مليء بالآيات التي يأمر الله فيها الإنسان أن يتوب ويؤمن، ولكن لا توجد ولا آية واحدة تعلن بوضوح أنه بإستطاعته أن يتوب أو يؤمن بإرادته. ليس لأن ليس لديه الإرادة، وإنما لأنه لا يمكنه أن يختار ما هو ضد طبيعته الفاسدة وقلبه الشرير (انظر إرميا 23:13؛ كورنثوس الأولى 14:2؛ 3:12؛ يوحنا 44:6).

ثانيًا: هل اختيار الله مشروط أم غير مشروط؟

لا يُنكر الفكر الأرمينيّ المتزّن حقيقة أن الله سبق فعين بعض الأشخاص للخلاص، ولكنهم يُفسرون ذلك على أن أساسه هو علم الله السابق. فقد اختار الله أولئك الذين بسابق علمه عرف أنهم سيقبلونه ويؤمنون بخلاصه. ويستندون لدعم هذا الرأي على رومية 29:8-33 والتي تقول: “لان الذين سبق فعرفهم سبق فعيّنهم.” فاختيار الله في الأزل، بحسب هذا الرأي، مشروط باختيار الإنسان لله في الزمن. أو كقول بطرس في رسالته الأولى 1:1: “المختارين بمقتضى علم الله الآب السابق”. فيقول جيكوب أرمينيوس: “لقد عين الله بعض الأشخاص للخلاص والبعض للهلاك. هذا التعيين إنما يرجع إلى سبق معرفة الله، إذ أنه يعرف منذ الأزل أولئك الأشخاص الذين بالنعمة سيؤمنون ويُثابرون. فالله بمقتضى علمه السابق يعرف من سيثبت ومن سيرفض الإيمان.”[5] والأمر نفسه يردده جون وسلي في قوله:

الله القدير كلي الحكمة، يرى ويعرف من الأزل إلى الأبد كل ما هو كائن، وما كان وما سيكون … فلا يوجد مع الله ماضي أو مستقبل، فهذه كلها متساوية وحاضرة أمامه في الحاضر … فلا توجد عند الله معرفة مسبقة أو آتية. هذا مجرد قصور لغوي في كلماتنا…. الله يعرف أن الإنسان سيخطئ لأنه يعرف كل شيء، ولكننا لا نخطيء لأنه يعرف ذلك.. وليس هو المسبب لذلك.[6] فبحسب هذا الرأي، إذا قلنا بأن الله سبق وعين البعض للخلاص وآخرون للهلاك بمطلق سلطانه، وعدم قولهم بأنه اختيار من منطلق علمه السابق، إنما يُظهر الله كما لو كان وحشاً طاغيًا.

فبحسب الرأي الأرمينيّ، إن قول بولس عن سبق التعيين لا يعني أن الله قد حدد من سيؤمن ومن سيرفض، وإنما يعني أن الله حدد وعين ميراث المؤمن الأبدي للتبني، والمجد، والحياة الأبديّة، ولنكون مشابهين صورة أبنه (انظر أفسس 5:1؛ رومية 29:8).

أما الرأي الكالفينيّ فيؤمن بأن الله من الأزل اختار البعض للخلاص والحياة الأبدية، ليس على أساس علمه السابق بمن سيؤمن ومن سيرفض، وإنما على أساس محبته ومشيئته ومسرته وحدها. كقول الرسول بولس: “الذي فيه أيضاً نلنا نصيباً، معينين سابقاً حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته” (أفسس 11:1). أما المقصود “بالمعرفة” في قول الرسول بولس في رومية 29:8-33 “لأن   الذين   سبق فعرفهم   سبق فعينهم” فلا تعني مجرد العلم بالشيء!

فمعرفة الله ليست معرفة ما سيجري من أحداث (أن شخصًا ما سيؤمن)، لكنها معرفة أشخاص–أي معرفة شخصية. أي أن الله عرف مختاريه شخصيًا واختارهم أزليًا.[7] كقول المسيح في يوحنا 14:10: “اما انا فاني الراعي الصالح واعرف خاصتي وخاصتي تعرفني” (يوحنا 14:10). وكقول الرسول بولس في كورنثوس الأولى 3:8: “ولكن إن كان أحد يحب الله فهذا معروف عنده”؛ وقوله في رسالة غلاطية 9:4: “وأما الآن إذ عرفتم الله، بل بالحري عُرِفتم من الله”.

فهل المعرفة هنا تعني مجرد العلم والإلمام بالأحداث والأمور؟ وهل ننسب لله عدم المعرفة بقوله في اليوم الأخير لبعض الهالكين: “إني لم أعرفكم قط! اذهبوا عني يا فاعلي الإثم” (متى 23:7)؟ حاشا! “فالمعرفة” في لغة الكتاب المقدس تعني أيضًا “المحبة”. فالله سبق فعرف أي أنه سبق فأحب! فالكتاب كثيراً ما يصف علاقة المحبة والإلتصاق بين الرجل وامرأته بقوله: “فعرف آدم امرأته” (تكوين 1:4).[8] وبإندهاش يقول المرنم في مزمور 3:144: “يا رب أي شيء هو الإنسان حتى تعرفه أو ابن الإنسان حتى تفتكر به”. فما داعي اندهاش المرنم إن كان المقصود أن الله كليّ المعرفة والعلم؟ ولكن يرجع السبب إلى إدراك المرنم بأنه لا شيء ورغم ذلك الرب عرفه وأحبه. كما يقول المزمور 1:6 “الرب يعلم طريق الأبرار أما طريق الأشرار فتهلك”–أي أن طرق الأبرار محبوبه عند الله.

كما أن “المعرفة”، في لغة الكتاب المقدس، تتضمن مفهوم الإختيار![9] فيقول الرب لشعبه في سفر هوشع: “أنا عرفتك في البرية في أرض العطش” (هوشع 5:13). وبالمثل يقول في سفر عاموس: “إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض” (عاموس 2:3) –أي أن الله في القديم اختار إسرائيل من جميع قبائل الأرض. وهو ما قاله الرسول بولس عن شعب الله القديم في رومية 2:11، حين قال: “لم يرفض الله شعبه الذي سبق فعرفه“. وفي إرميا 5:1 يُعلن الرب لإرميا عن اختياره له بقوله: “قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبيا للشعوب” (إرميا 5:1). وبالمثل أيضًا، حين ظهر الرب لإبراهيم في تكوين 17:19–19 أعلن عن السبب الذي لأجله اختار إبراهيم في قوله: “لاني عرفته لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برا وعدلا لكي ياتي الرب لابراهيم بما تكلم به”.

فسبق المعرفة يعني أن الله سبق واختار وأحب. فاختيار الله للبعض ليس رد فعل لإختيارهم هم له، لكنها مبادرة إلهية مجانية نابعة من محبته ونعمته، ومطلق حريته.[10] فالله لم يختارنا لأنه عرف مسبقاً أننا سنؤمن ونصبح قديسين، لكنه إختارنا في المسيح لنكون قديسين (أفسس 4:1). فالقداسة ليست هي السبب في إختيار الله لنا بل النعمة. كما أن الإيمان ليس هو سبب إختياره لنا، بل محبته. فالله اختار بمطلق مسرته الصالحة أن يقدّم نعمة خاصة للمختارين بصرف النظر عن عدم صلاحهم، تاركاً غير المختارين لفسادهم (انظر رومية 25:1-28). فأولئك الذين يرفضون الخلاص، لا يرفضونه لأن الله دفعهم إلى ذلك، ولكن لأنه لم يدفعم ليخلصوا.

ثالثًا: هل يمكن مقاومة أو رفض عمل الله الخلاصيّ؟

برغم إقرار الرأي الأرمينيّ بأن نعمة الله هي البادئة، المستمرة والمتممة لكل صلاح، ولكن هذه النعمة يمكن مقاومتها. فنعمة الله لا تعمل في الشخص بشكل مطلق وقاطع، لكنها بالأحرى تعمل بطريقة “التأثير والإستجابة” التي يمكن بحرية تامة أن تقبل أو ترفض من قبل الشخص. هذا ما يقوله الرأي الأرميني، ولكن ماذا يقول الرأي الكالفيني، أو بالأحرى ماذا يقول الكتاب؟

في البداية، يجب أن نميز بين دعوتين يقدمهما الله للبشر: “دعوة عامة” فيها يدعو الله الجميع إلى التوبة، وهذه الدعوة يمكن لها أن تقاوم. وهناك “دعوة فعّالة” مقدمة للمختارين، لا يمكن لعمل الروح القدس المصاحب لها أن يُقاوَم! على سبيل المثال، في مثل الإنسان الذي عمل عشاء عظيم في لوقا 14، تحدث الرب يسوع بوضوح عن كلا هاتين الدعوتين العامة والفعّالة أو المُلزِمة.[11] فصاحب العشاء قدم دعوة عامة إذ قد “دعا كثيرين” (لوقا 17:14). ولكن الجميع بلا استثناء رفضوا هذه الدعوة: “فابتدأ الجميع برأي واحد يستعفون” (لوقا 18:14). لذا، كلّف صاحب العشاء عبده قائلاً: “اخرج إلى الطرق والسياجات وألزمهم بالدخول حتى يمتلئ بيتي” (لوقا 23:14). وفي ذلك لا نرى دعوة عادية، لكنها دعوة مُلزمة للمختارين الذين لا يستحقون النعمة؛[12] ملزمة بلا أي مقاومة من جانب الإنسان. فكما يقول إدوين بامر: “الله لا يقاوَم، بل ينجح في تتميم مقاصده”.[13] أو بحسب كلمات المسيح: “لأن كثيرين يدعون [الدعوة العامة] وقليلين ينتخبون [الدعوة الملزمة] ” (متى 16:20).

ثانيًا، لا يتحدّث الكتاب المقدس فقط عن توبة البعض، لكن يعود ويؤكّد أن الله هو مُعطي التوبة، كقوله في تيموثاوس الثانية 25:2–26: “عسى أن يعطيهم الله توبة لمعرفة الحق، فيستفيقوا من فخ إبليس إذ قد اقتنصهم لإرادته”. وليس الإنسان هو الذي يفتح قلبه ليؤمن، بل أن الله هو من يفتح القلوب ويُنيرها فيقول لوقا في أعمال 14:16: “فكانت تسمع امرأة اسمها ليدية بياعة أرجوان من مدينة ثياتيرا متعبدة لله، ففتح الرب قلبها لتصغي إلى ما كان يقوله بولس”. ويقول بولس في كورنثوس الثانية 6:4: “لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا، لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح.”

كما أن الصور التي يستخدمها الوحيّ المقدس عن الكيفية التي بها يخلص الإنسان، تظهر بوضوح عمل الروح القدس في قلب الشخص دون أي مقاومة من جانبة. فالكتاب يتحدث عن (1) الميلاد الجديد: وليس في هذه الصورة أي تركيز على إرادة الإنسان ومشيئته؛ فليس بمقدور أحد أن يرفض أن يولد، أو يعترض على ميلاده؛ فهذا أمر يخرج عن سيطرة المولود (انظر يوحنا 13:1؛ 8:3؛ يعقوي 18:1).[14] (2) ويستخدم كذلك صورة استبدال القلب الحجريّ بقلب لحم (حزقيال 19:11). (3) والقيامة من الأموات. فإنسان السقوط، هو ميت بالذنوب والخطايا، وهو بحاجة إلى أن يتدخّل الله بنعمة غير مقاومة ليُحيه من موته ويقيمه. لذا قال يسوع في يوحنا 21:5: “لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي، كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء.” (يو21:5)

رابعًا: هل عند الله ظلم؟

في كل مرة تُثار فيها قضيّة الاختيار والتعيين المُسبق، يتبادر السؤال حول العدل والظلم، وهذا منطقيّ للغاية. ففي أحد أهم الأصحاحات التي تناولت قضيّة الاختيار غير المشروط وهو رومية 9، طرح الرسول بولس ذات السؤال على مستمعيه: “فماذا نقول. ألعل عند الله ظلماً؟” (آية14)

وقبل أن نسترسل في حديثنا للإجابة على هذا السؤال، علينا أن نتذكّر بأن ما يناقشه الرسول بولس في (رومية 9) هو محاولة الإجابة على لماذا رفض اليهود المسيح وهم الذين لهم التبني والعهود والاشتراع والمواعيد؟ هل خان الله عهده معهم؟ هل رفض اليهود للخلاص كان رفضاً عشوائياً؟ هل سقطت كلمة الله أمام رفض اليهود له؟ (انظر رومية 4:9–6) وجاءت إجابة الرسول بولس في هذا الأصحاح، لتوضح في مجملها من هو اليهودي الحقيقي (رومية 6:9)؛[15] وأن عدم إيمان اليهود–كما يقول بولس الفغاليّ– إنما هو جزء من مخطط الله الخلاصي.[16] وقد استخدم الرسول بولس ثلاث أمثلة ليبرهن على هذا، حاول الإجابة على سؤالين في ذهن قرّاءه. الأمثلة الثلاثة هي اختيار الله لاسحاق (آية 7–9)، وليعقوب وليس عيسو (آية 10–13)، وموسى وفرعون (آية 15–18). والسؤالان اللذان حاول الإجابة عليهما هما: “ألعل عند الله ظلماً؟ … [والثاني] فستقول لي لماذا يلوم بعد؟ لان من يقاوم مشيئته؟” (آية 14، 19)

بالطبع، لدى الرأي الأرميني تفسيره لهذا الأصحاح والذي من خلاله يحاول إنكار أن يكون الأصحاح يتحدث عن اختيار الله غير المشروط والأزليّ للبعض للخلاص. ولكن هذا التفسير الذي ستجد ملخّص عنه في الهامش السفليّ[17]، لا يقدّم أي تفسير مقنع حول لماذا طرح الرسول بولس السؤال “ألعل عند الله ظلمًا”، إن كان الإصلاح لا يتحدث عن اختيار الله وتعيين الأزليّ لمختاريه!

أما بالنسبة للرأي الكالفينيّ، فلكون الرسول بولس يناقش في هذا الأصحاح أن الله أحب يعقوب وأبغض عيسو قبل مولد الأخوين، في قوله: “وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيرا او شرا” (رومية 11:9–13)، فكان من المنطقي أن يطرح بعد هذا مباشرة التساؤل: “ألعل عند الله ظلماً؟” (رو14:9).[18] بكلمات أخرى، لو كان الرسول بولس يتحدث عن الاختيار بحسب المفهوم الأرمينيّ بعلم الله السابق، لأصبح لا مكان للتساؤل عن الظُلم والعدالة. ولكن إثارة الرسول بولس لهذا التساؤل أو الاعتراض، يؤكد أن بولس هنا كان يُناقش سُلطان الله المُطلَق في الاختيار في سياق دفاعه عن أن كلمة الله لم تسقط برفض اليهود للخلاص الذي قدم لهم؛ بل أن اختيار الله إنما يعود إلى نعمته وليس إلى سعيّ الإنسان.

لذا، يمكننا الإجابة على المعترض القائل: “ألعل عند الله ظلماً؟” بالنقاط التالية:

  1. محبة ورحمة الخالق

إن الحديث عن اختيار اسحق ويعقوب يأتي في سياق الحديث عن محبة الله ورحمته. فليس السؤال المفصليّ في هذا الاختيار هو “لماذا أبغض الله عيسو؟”، ولكن الأهم هو “لماذا أحب الله يعقوب؟”[19] لماذا أحبه برغم كل نقائصه وخطاياه؟ والإجابة هي النعمة! أما عيسو فقد أبغضه الله لشروره وقساوة قلبه. وقد كتب متى المسكين معلقًا على ذلك بقوله:

فهو أحب يعقوب لأسباب عنده، وأبغض عيسو لأسباب عنده! لو كشفت لنا لقلنا آمين! ولكن الله لا يريد أن يكشفها لنا، حتى نقبل أحكامه بلا فحص، ولا نضعها تحت قياسات عقلنا القاصر، بل نقبلها بالشكر والرضى.[20]

لذا، جاء جواب الرسول بولس على سؤال المعترض بقوله: “حاشا. لأنه يقول لموسى إني أرحم من أرحم واتراءف على من اتراءف. فإذًا ليس لمن يشاء ولا لمن يسعى بل للّه الذي يرحم” (آية 15-18).

  1. حرية الخالق

كما أننا نُدافع عن حق الإنسان في الاختيار، كذلك لله الحق في الاختيار: “هو يرحم من يشاء ويقسي من يشاء” (رومية 18:9).[21] فالله الذي له الحق أن يدين، له الحق أيضاً أن يرحم. أو كما يقول متى المسكين: “الله يختار ويرفض ونحن نختار ونرفض، فهل في هذا ظلم؟ ولكن إن كان اختيار الله يكون للصالح والطالح، فهذا هو الظلم!”[22]

  1. عدالة الخالق

لأن الله ليس مدين بالرحمة لأي إنسان، لكن له كل الحق كالفخاريّ أن يفعل ما يشاء بخلائقه العصاة.[23] فهو لكونه كلي السلطان والحكمة، اختار أن يُخلّص البعض من منطلق نعمته، بينما ترك آخرون لشرهم وفسادهم ليهلكوا من منطلق عدالته! فإذا تحدثنا عن العدل، فالعدل يستدعي أن يحكم الله بالموت والهلاك على كل الجنس البشريّ، ولكن أن يمد يده ليُخلّص محبيه، فهذه هي النعمة! فهو يعطي نعمة لمن يشاء لأنه رحيم، ولا يعطيها للجميع لأنه قاضي عادل. وليس في اختياره أن يتعامل مع البعض بالنعمة، بينما يتعامل مع البعض الآخر بالعدل أي تناقض مع عدالته. على سبيل المثال، روى الرب يسوع في متى 20 مثل صاحب الكرم الذي خرج ليستأجر فعلة لكرمه، وفي نهاية اليوم نجد أنه تعامل مع البعض بالعدل، بينما تعامل بالنعمة مع أصحاب الساعة الحادية عشر؛ ولم يكن في ذلك أي ظُلم. فالمسيح أكّد في نهاية المثل على السائل المعترض بقوله: “يا صاحب ما ظلمتك.” (متى 8:20-13) أو لكلمات متى المسيكن:

ثم كيف يكون الله ظالماً في شيء والإنسان مهما علا وتبرر فهو لا يستحق من الله شيئاً بل هو نفسه لا شيء؟ فإن أعطاه الله يعطيه من بره وخيريته ونعمته، مجاناً يعطي! وإن لم يعط، فمن له عند الله دين؟ أو من سبق فأعطى الله شيئاً ليطالبه به؟! فإن اخذنا فلا حق لنا فيما ناخذ، وإن لم نأخذ فنحن لا نستحق شيئاً منه لنأخذ. فكيف وبأي حق أو منطق نقول إن الله ظالم.[24]

خلاصة القول، إن اختيار الله غير المشروط ليس فيه ظلم، ولا يعفي الهالك من الدينونة أو المسائلة. لأن الله لم يزد الهالكين قصاصًا بعدم اختياره لهم، لكنه فقط تركهم ينالون جزاء ما يستحقون.[25] فلا ذنب لغير المختارين لكونهم لم يختاروا، لكن ذنبهم شأن كل البشر أنهم أخطأوا وعصوا الله ويستحقون العقاب.[26]

خامساً: ما الذي يضمن مثابرة المؤمن حتى النهاية؟

بحسب الرأي الأرميني، طالما أن الإيمان هو شرط الخلاص، لذا فضمان الشخص لأبديته مشروط بأن يظل المؤمن في المسيح. كما أن للإنسان حرية اختيار قبول الرب أو رفضه في بداية إيمانه، كذلك له حرية الاختيار أيضاً أن يبقى في حياة التجديد أو يرفضها ويفقد خلاصه. وياله من أمر مخيف ومفزع إن قلنا إن خلاصنا يعتمد علينا، فربما نفقده غدًا.[27] بل وما الذي يمنع أنه لو كان الأمر متروكًا لإرادتنا الحرة، أنه حتى في الأبدية نختار أن نترك محضر الله كما فعل الشيطان من قبل ويسقط؟

أما الفكر الكالفينيّ فيؤكّد على حقيقة أن الإنسان الذي خلُص حقاً، سيمنحه الروح القدس القوة والقدرة للمثابرة حتى النهاية. فهو محفوظ، ولا يستطيع أحد أن يخطفه من يد المسيح (يوحنا 27:10-29). فالذي يحفظ الإنسان في الإيمان إلى النهاية، ليست إرادته الحرة، فما أعجزها، ولكنه الرب “القادر ان يحفظكم غير عاثرين ويوقفكم امام مجده بلا عيب في الابتهاج” (يهوذا 24). فالضمان الوحيد لمثابرة المؤمن الحقيقيّ إلى النهاية لا يرجع لشيء يعمله أو في ذاته، لكنه عمل الله في حفظ المؤمن، كقول بولس في فيلبي 6:1: “إن الذي ابتدأ فيكم عملا صالحا [هو] يكمل إلى يوم يسوع المسيح.” فالله الذي خلصنا بالأمس، هو الضامن أن يقودنا في رحلة التقديس على هذه الأرض لنصير مشابهين صورة ابنه، نتغيّر إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد: “لان الله هو العامل فيكم ان تريدوا وان تعملوا من اجل المسرّة.” (فيلبي 13:2). لأن “إله كل نعمة … هو يكمّلكم ويثبّتكم ويقويكم ويمكنكم.” (بطرس الأولى 10:5)

سادسًا: هل فعاليّة كفارة المسيح تشمل كل البشر؟

يتفق كل من الرأي الأرمينيّ والكالفينيّ على ان كفارة المسيح من حيث قيمتها وقوتها هي لا محدودة، كما يقول الرسول يوحنا في رسالته الأولى 2:2: “وهو كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً.” ولكن، يؤكّد الرأي الكالفينيّ على أن المسيح مات لأجل كنيسته ولأجل خرافه. فهو الراعي الذي لم يضع نفسه عن الجميع بشكل مطلق، ولكنه وضع نفسه عن خرافه: “أنا أضع نفسي عن الخراف” (يوحنا 15:10). فهو يعرف خرافه وخرافه تعرفه، ويعطيها حياة أبدية (يوحنا 27:10-29)، أما من هم ليسوا من خرافه، فيقول لهم: “لستم تؤمنون لأنكم لستم من خرافي” (يوحنا 26:10). كما أن الكتاب يخبرنا أنه أحب كنيسته ومات لأجلها: “أيها الرجال، أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها” (أفسس 25:5)؛ وجاي ليُخلّص “شعبه من خطاياهم” (متى 21:1). فقصد الله الأزلي، ليس أن يخلص الكل بشكل مطلق، بل أن يخلص أولئك المختارين الذين أعطاهم له الآب، وألا يفقد منهم أحد على الإطلاق.[28] أو كما يقول الرب يسوع في يوحنا 37:6: “كل ما يعطيني الآب فاليّ يقبل، ومن يقبل اليّ لا اخرجه خارجاً. لأني قد نزلت من السماء ليس لاعمل مشيئتي بل مشيئة الذي ارسلني. وهذه مشيئة الآب الذي ارسلني ان كل ما اعطاني لا أتلف منه شيئا بل اقيمه في اليوم الأخير.”

سابعًا: بعيدًا عن بولس، أين نجد التعليم عن الاختيار في كلام المسيح؟

برغم خطورة هذا السؤال، إذ أنه يفصل بين ما قاله يسوع في الأناجيل وما علّمه الرسول بولس في رسائله؛ وكأن بولس لم يكتب بوحيّ من روح المسيح نفسه. ورغم ذلك لقد أكّد المسيح في مواضع عديدة كل نقطة من النقاط التي طرحناها في هذا المقال. فقد شدّد يسوع على حقيقة فساد قلب إنسان ما بعد السقوط (متى 17:7–18؛ مرقس 21:7–23؛ يوحنا 6:3، 19؛ يوحنا 34:8)؛ والاختيار غير المشروط (متى 14:22؛ مرقس 20:13؛ يوحنا 12:1–13؛ 39:6؛ 44:6؛ 15:10–16؛ 26:10–30؛ 2:17)؛ وعمل النعمة الذي لا يقاوم (يوحنا 12:1–13؛ 3:3–8؛ 5:21؛ 37:6، 39؛ 44:6؛ 65:6؛ 16:10؛ 43:11–44)؛ وعن مثابرة المؤمن حتى النهاية دون أن يسقط (يوحنا 24:5؛ 37:6–47؛ 27:10–29؛ 20:17–21)؛ وأخيرًا، عن موته وكفارته لأجل أحباءه (متى 21:1؛ 28:26؛ يوحنا 16:3–18؛ 21:5، 24؛ 25:6–40؛ 11:10؛ 14:10–16؛ 26:10–27؛ 37:12–40؛ 21:14–24؛ 2:17؛ 9:17–10).

ثامنًا: ماذا عن حرية الإرادة؟

كما سبق وقلنا، التعليم عن الاختيار غير المشروط لا ينكر حرية الإنسان في الاختيار. فجوهر الخلاف ليس ما إذا كان الإنسان حر ليختار ما يشاء أم لا. لكن لب القضية هو هل لدى إنسان ما بعد السقوط الرغبة ليختار ما هو ضد طبيعته وقلبه الفاسد؟ إن ما يحتاجه إنسان ما بعد السقوط هو معجزة إقامة من الموت، وفتح لعينيه، وتبديل قلبه بقلب جديد، وتحرير له من قيود إبليس حتى يتسنى له أن يختار الله.

تاسعًا: ما أهميّة هذا التعليم لحياة المؤمن؟

إن التعليم حول اختيار الله لنا بالنعمة يملأنا بالرجاء والاتضاع والرغبة في المثابرة والشهادة عن كم صنع بنا الرب ورحمنا. فهو تعليم يملأ قلب كل كارز يشعر أنه غير كفئ، وكل خاطئ يصارع مع شهوته المحببة بالرجاء في أن أمر خلاصنا وتغييرنا لا يعتمد على فصاحة كارز ولا إيمان مستمع. بل على عمل روح الله في الإنسان الفاجر الذي اختارته نعمة الله. على سبيل المثال، حينما واجه الرسول بولس مقاومة شديدة في بداية خدمته في مدينة كورنثوس، ظهر الرب له في رؤيا وقال له: “لا تخف بل تكلم ولا تسكت، لأني أنا معك ولا يقع بك أحد ليؤذيك، لأن لي شعبا كثيرا في هذه المدينة” (أعمال الرسل 9:18-10). وحينما عرف بولس أن للرب شعب كثير في هذه المدينة، مكث فيها وقتاً طويلاً يعظ ويبشر حتى يتسنى للمختارين أن يخلصوا. وقد قال بولس أيضاً: “لأجل ذلك أنا أصبر على كل شيء لأجل المختارين، لكي يحصلوا هم أيضا على الخلاص الذي في المسيح يسوع مع مجد أبدي” (تيموثاوس الثانية 10:2).

كما أنه يملأنا بالإتضاع، ولا يعطي مجالاً للإفتخار بأننا بقوتنا أو تقوانا خلصنا، بل بمقتضى رحمته. فالشخص الذي خلص لا فضل له، فلقد كان معيناً للحياة الأبدية من قبل تأسيس العالم (أعمال الرسل 48:13). والذي هلك لا عذر له، فلقد قدمت له الدعوة لكنه رفضها واحتقرها، فحكم على نفسه بعدم استحقاقه للحياة الأبدية.[29] كما أنه من صميم التعاليم الكالفينية أنه: “يجب علينا ألا نشطب المحرومين من قائمة المختارين أو نيأس منهم … يجب علينا بالأكثر أن نسلمهم ليد الله ونستودعهم لصلاحه، آملين فيما هو أفضل للمستقبل بدلًا من رؤيتنا الحاضرة.”[30]

الخاتمة

بسبب نُدرة المصادر العربيّة القيّمة التي تُقدّم للقارئ وجهتيّ النظر الكالفينيّة والأرمينيّة جنبًا إلى جنب، جاءتني فكرة أن يكون هذا المقال بمثابة حوار أو شِبه مُناظرة بين هذين الرأيين. فالقارئ العربيّ يستحق أن يُقدّم له كافة الآراء بقدر من الحياديّة، دون تشويه أو تحقير الرأي الآخر. صحيح أننا كمسيحيين نحيا في ظل ثقافة إسلامية تسعى دائمًا نحو تقديم صورة مغلوطة عن الآراء المخالفة حتى يتسنى لها أن تُقدّم لأتباعها شعور بالأمان وأنهم على السُراط المستقيم. ولكن يجب ألا يُسَمَّ هَذا بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ (أفسس 5: 3). بل تكمن قوة النقاشات الجادة في أنك تُقدّم رأي المُخالف معك كما أراد هو صياغته وأن تُظهر كل نقاط قوته قبل أن تفنده.

أمر آخر سعيت له في هذا المقال هو قدر من التوازن بين تقديم الآراء بحيادية، ولكن بلا ميوعة. فكان عليّ في النهاية أن اتخذ موقف لاهوتيًا وكتابيًا واضح الملامح وأن أدافع عنه. ولكن، ليس الهدف من ذلك إنهاء النقاشات حول عقيدة الاختيار، بل بالأحرى أن يكون هذا المقال فرصة لانطلاق نقاشات عميقة وجادة مؤسسة على فهم صحيح لما يقوله الرأي المخالف، ولا ينطلق من أفكار مغلوطة. أدعوك أن تذهب وتتناقش بمحبة وانفتاح مع اخوتك المختلفين معك، عالمًا أنهم اخوتك في المسيح وليسوا خصوم لك. أذهب بقلب منفتح وممتحن لكل ما يُقال حولك في ضوء كلمة الله.


1] John Wesly, “Sermon 58: On Predestination,” Wesley Center Online, last modified November 2023, http://wesley.nnu.edu/john-wesley/the-sermons-of-john-wesley-1872-edition/sermon-58-on-predestination/

[2] يوسف رياض، الاختيار (القاهرة: مكتبة الإخوة، 2001)، 31و35.

[3] ادوين بامر، معجزة النعمة (القاهرة: ترجمة وتحرير وجيه يوسف، 2009)، 76.

[4] يوسف رياض، الاختيار (القاهرة: مكتبة الإخوة، 2001)، 31.

[5] Jacobus Arminius, The Works of James Arminius (United Kingdom: Derby, Miller and Orton, 1853), 248.

[6] John Wesly, “Sermon 58: On Predestination,” Wesley Center Online, last modified November 2023, http://wesley.nnu.edu/john-wesley/the-sermons-of-john-wesley-1872-edition/sermon-58-on-predestination/

[7] ناشد حنا، آية آية رسالة رومية (القاهرة: مكتبة الإخوة، 2004)، 158.

[8] ادوين بامر، معجزة النعمة (القاهرة: ترجمة وتحرير وجيه يوسف، 2009)، 122.

[9] ف. ف. بروس، التفسير الحديث للكتاب المقدس الرسالة إلى رومية (القاهرة: دار الثقافة، 1994)، 176.

[10] متى المسكين، شرح رسالة القديس بولس إلى أهل رومية (وادي النطرون: دير القديس أنبا مقار، الطبعة الثانية 2007)، 430؛ اندراوس واطسون وابرهيم سعيد، شرح اصول الايمان (القاهرة: دار الثقافة، 1988)، 138.

[11] وليم ماكدونالد، تفسير الكتاب المقدس للمؤمن الجزء الثاني (القاهرة: دار الإخوة للنشر، 2005)، 716.

[12] يوسف رياض، الاختيار (القاهرة: مكتبة الإخوة، 2001)، 37و47.

[13] ادوين بامر، معجزة النعمة (القاهرة: ترجمة وتحرير وجيه يوسف، 2009)، 112.

[14] ادوين بامر، معجزة النعمة (القاهرة: ترجمة وتحرير وجيه يوسف، 2009)، 47، 124.

[15] Ralph Martin, Reconciliation A study of Paul’s theology (Michigan: Zondervan publishing house, 1989), 130.

[16] بولس الفغالي، الإنجيل قدرة الله (بيروت: المكتبة البولسية، 1995)، 66.

[17] بحسب الرأي الأرميني لا تتساءل رومية 9 ولا تجيب عن لماذا يؤمن البعض بينما يرفض الآخرون الإيمان؛ إنما –كما يقول جون وسلي: “يرينا الطرق التي يعمل الله من خلالها، وكيف أن أفرع الخلاص المختلفة تتبع بعضهما البعض في تناسق عجيب. ويحاول الخوري بولس الفغالي تخفيف من حِدة كلمات بولس عن الاختيار في هذا الأصحاح ليقول أن ما يقصده الرسول إنما هو لدخول إلى الإيمان المسيحي، وليس دخول أو عدم دخول مجموعة إلى المجد السماوي. فإن ما يحاول الرسول بولس إثباته هنا، بحسب الرأي الأرمينيّ، ليس إختيار الله لمن يخلص ومن يهلك، ولكن أنه ليس البكر هو ابن الموعد. فيستخدم مثلي “اسحق وليس اسماعيل، ويعقوب وليس عيسو” للتدليل على ذلك. وفي ظل إختيار الله ليعقوب وليس عيسو يذكر لنا الرسول آيتان؛ الأولى من سفر التكوين “في بطنك امتان ومن احشائك يفترق شعبان: شعب يقوى على شعب وكبير يستعبد لصغير” (تكوين 23:25)، والثانية من آخر أسفار العهد القديم: “أحببت يعقوب وأبغضت عيسو” (ملاخي 2:1). والبغضة هنا لا تعني مشاعر شخصية، فعيسو لم يفعل سوءاً ليستحق رفض الله، ولا يعقوب فعل شيئاً صالحاً ليستحق قبول الله. وصحيح أن الله قد أشار من البداية إلى أنه أحب يعقوب، لكنه لم يشر إلى بغضته لعيسو إلا في آخر أسفار العهد القديم، بعد أن أظهر عيسو ونسله عداوة لله ولأفكاره. كما أن قرينة هذه الآيات المستخدمة عن يعقوب وعيسو، لا تتحدث عن يعقوب وعيسو كأفراد، ولكنها تخص نسلهما؛ فعيسو كشخص لم يقدم أي خدمة ليعقوب، لكن في العصور اللاحقة استعبد نسل يعقوب (الإسرائيليين) نسل عيسو (الآدوميين) كما في (2صم14:8). كما أن ملاخي لم يتحدث عن محبة الله ليعقوب وبغضته لعيسو، وهما لا يزالا في بطن أمهما، بل بعدما عاش نسلهما وظهرت أعمالهما. انظر انظر بولس الفغالي، الإنجيل قدرة الله (بيروت: المكتبة البولسية، 1995)، 72؛

Ralph Martin, Reconciliation A study of Paul’s theology (Michigan: Zondervan publishing house, 1989), 129; John Wesly, “Sermon 58: On Predestination,” Wesley Center Online, last modified November 2023, http://wesley.nnu.edu/john-wesley/the-sermons-of-john-wesley-1872-edition/sermon-58-on-predestination/

[18] ف. ف. بروس، التفسير الحديث للكتاب المقدس الرسالة إلى رومية (القاهرة: دار الثقافة، 1994)، 187.

[19] يوسف رياض، الاختيار (القاهرة: مكتبة الإخوة، 2001)، 76.

[20] متى المسكين، شرح رسالة القديس بولس إلى أهل رومية (وادي النطرون: دير القديس أنبا مقار، الطبعة الثانية 2007)، 430.

[21] وتقسية القلب لا تعني أن الله وضع في قلبه بغضة نحوه، لكنها تعني أن الله تركه ولم يتعامل بروحه مع قلبه القاسي. وليس فرعون فقط، فكاتب المزمور يحدثنا عن أناس من شعب الله القديم تركهم الرب لقساوة قلوبهم، فيقول: “فلم يسمع شعبي لصوتي وإسرائيل لم يرض بي. فسلمتهم إلى قساوة قلوبهم ليسلكوا في مؤامرات أنفسهم” (مزمور 11:81-12).

[22] متى المسكين، شرح رسالة القديس بولس إلى أهل رومية (وادي النطرون: دير القديس أنبا مقار، الطبعة الثانية 2007)، 430.

[23] اندراوس واطسون وابرهيم سعيد، شرح اصول الايمان (القاهرة: دار الثقافة، 1988)، 139.

[24] متى المسكين، شرح رسالة القديس بولس إلى أهل رومية (وادي النطرون: دير القديس أنبا مقار، الطبعة الثانية 2007)، 438.

[25] اندراوس واطسون وابرهيم سعيد، شرح اصول الايمان (القاهرة: دار الثقافة، 1988)، 139.

[26] يوسف رياض، الاختيار (القاهرة: مكتبة الإخوة، 2001)، 57.

[27] ادوين بامر، معجزة النعمة (القاهرة: ترجمة وتحرير وجيه يوسف، 2009)، 81.

[28] ادوين بامر، معجزة النعمة (القاهرة: ترجمة وتحرير وجيه يوسف، 2009)، 92.

[29] يوسف رياض، الاختيار (القاهرة: مكتبة الإخوة، 2001)، 102.

[30] جون لوريمر، تاريخ الكنيسة الجزء الرابع (القاهرة: دار الثقافة، 1990)، 257.

شارك مع أصدقائك

مينا م. يوسف

يدرس حاليًا درجة الدكتوراة (Ph.D) في الإرساليات والأديان المقارنة في الكليّة المعمدانيّة الجنوبيّة، بولاية كنتاكي الأمريكيّة. كما حصل على درجة الماجستير (M.A) في الدراسات الإسلاميّة من جامعة كولومبيا الدوليّة، بولاية ساوث كارولاينا الأمريكيّة. ويعمل كمدير مشروعات الشرق الأوسط في خدمات الألفيّة الثالثة، وكمساعد أستاذ للدراسات العربيّة والإسلامية بالكليّة المعمدانية الجنوبية. كما شارك في تأليف كتاب Medieval Encounters باللغة الإنجليزيّة.