المسيحيّة البسيطة

في حوار له مع إبراهيم عيسى يوم رأس السنة 2021، رصد الفنان إياد نصّار ظاهرة تخيّم على مجتمعنا العربي قائلًا: “بقى في مشكلة أنه بقى في تباهي بالتفاهة… تلاقي ناس بتتكلم بمنتهى البساطة تقول لك: يا عم ما تكلمنيش أنا تافه! في استعراض في فكرة التفاهة وكأنها نقطة إيجابية.”[1]

إن مثل هذه الظاهرة نجدها متفشية أيضًا داخل الأوساط الكنسية. أو يمكننا القول أن هذه الظاهرة قام المجتمع بزرعها داخلنا، ثم سقاها الكثير من المُعلّمين والخدام في كنائسنا ووضعوا لها الآيات والأسس المنطقية حتى صدقناها وبدأنا ننادى بها على أنها حقيقة. تلك الظاهرة يمكننا أن نطلق عليها “المسيحية البسيطة”. هذه النسخة من المسيحية المخففة ليست بجديدة، فقد سبق وانتقدها أيضًا سي. إس. لويس في كتابه “المسيحيّة المجرّدة”.[2] ومن قبله طرحها جون بنيان في روايته الأشهر سياحة المسيحيّ عبر شخصية أطلق عليها اسم “البسيط”، كأحد المعطلات التي واجهت “المسيحيّ” في بداية رحلته الروحيّة.[3]

فكم من مسيحيين اليوم متراخون عن التعمق والتفكير في كلمة الله بدعوى أنهم يفضلون البساطة وإيمان الأطفال. بل وقد يقتطعون كلمات الرسول بولس من سياقه ليحذروك من التفكير والتدبر في الكثير من المواضيع والأفكار اللاهوتيّة العميقة بقولهم: “وَلكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ الْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا، هكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ” (كورنثوس الثانية 3:11). إنهم يقتبسون مثل هذه الآيات بذات المنطق القرآني القائل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ” (سورة المائدة 101).

آيات تُفهم خطأ عن البساطة

ولكن الدعوة إلى هذه النسخة من المسيحية البسيطة ليست بهذه البساطة! فحتى كلمة “البساطة” التي نجدها مرارًا وتكرارًا في ترجمة فاندايك المنتشرة بين أيدينا لا تعني في أغلب المواضع ذلك المفهوم الذي يحاول البعض إقحامه على النصوص والآيات.

فتارة يكون المعنى الأدق لكلمة بساطة التي استخدمها فاندايك هي الوداعة كما في قول المسيح: “فَكُونُوا… بُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ” (متى 16:10)؛ أو الأمانة والإخلاص في العمل (أفسس 5:6؛ كولوسي 22:3)؛ وفي العبادة والحياة (أعمال الرسل 46:2)؛ أو بمعنى عدم الخبرة أو البراءة في معرفة الشر كقول الكتاب: “وَأُرِيدُ أَنْ تَكُونُوا حُكَمَاءَ لِلْخَيْرِ وَبُسَطَاءَ لِلشَّرِّ… أَيُّهَا الإِخْوَةُ، لاَ تَكُونُوا أَوْلاَدًا فِي أَذْهَانِكُمْ، بَلْ كُونُوا أَوْلاَدًا فِي الشَّرِّ” (رومية 19:16؛ كورنثوس الأولى 20:14؛ فيلبي 15:2)؛ أو بمعنى الإخلاص والطهارة كما في قول بولس: “وَلكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ الْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا، هكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ” (كورنثوس الثانية 3:11).[4]

كما أنه لو كان القصد من الدعوة إلى البساطة هو بساطة الحياة–أن يكون لنا تلك “العين البسيطة” التي تحدث عنها المسيح (متى 22:6؛ لوقا 34:11)، فهذا أمر رائع! تلك العين البسيطة أو الأدق السليمة (غير المُصابة بازدواج الرؤية) القادرة على التركيز على هدف واحد فقط (ملكوت الله ومجده)، وغير المُشتتة ببريق وهموم هذا العالم. بكل تأكيد ما من أحد يُعارض هذا النمط من البساطة في مواجهة تعقيدات العصر، وتعظم المعيشة، وبهرجة العيش التي سلبتنا سلامنا وفرحنا في الرب.

أما إذا كان القصد من الدعوة إلى البساطة هو ذلك التملص من الاجتهاد في دراسة وفَهم كلمة الله، أو الكسل، أو الفتور، أو إعلاء شأن أمور أخرى في الحياة حتى ولو كانت أنشطة أو خدمات روحيّة على حساب الشبع والتغذي على الطعام القوي الذي للبالغين فهذا شأن آخر.

إيمان الأطفال وطفولة الإيمان

إن ذات الكتاب الذي يُشجعنا على أن يكون لنا إيمان الأطفال في بساطته (متى 3:18؛ 25:11؛ لوقا 21:10)، وجوع الأطفال للبن العقلي العديم الغش (بطرس الأولى 2:2)، يُحذرنا من أن نظل أطفالًا غير ناضحين في إيماننا، محمولين بكل ريح تعليم (أفسس 14:4)، مكتفين بطعام الأطفال، غير محتملين أو راغبين في الطعام القوي الذي للبالغين (عبرانيين 12:5–13؛ كورنثوس الأولى 1:3). هذه الدعوة للبساطة التي يُنادى بها من على منابرنا لا علاقة لها ببساطة الإيمان، إنما هي دعوة لتسطيح الإيمان وعدم التفكير والتدبر وامتحان النبوات والتعليم المُقدّم لنا. كم كنت أحب ابني حين كان طفلًا، ولكن إن ظل طفلًا فهذه كارثة!

خطورة الدعوة إلى المسيحية البسيطة

يصف سي. إس لويس[5] هذه الدعوة إلى المسيحية البسيطة بأنها نهج ساذج غرضه تدمير المسيحية![6] وبالنسبة لي، كلما تابعت ما يُقال على مواقع التواصل الاجتماعيّ من أشخاص محسوبين على التيار الإنجيليّ في عالمنا العربي، تزداد قناعتي بأن رفض الإيمان المسيحيّ الأصيل غالبًا ما يتسلل متخفيًا في ثياب الدعوة إلى البساطة.

إذ يتم تنصيب البساطة على أنها المقياس الذي نقيس على أساسه قبولنا أو رفضنا لفكرة أو تعليم، عوضًا عن أن تكون كلمة الله هي المقياس لذلك. أصبحت تُرفَض العقائد الصعبة كالثالوث والبدليّة العقابيّة والجحيم والخطية الأصليّة فقط لأنها ليست عقائد بسيطة!

ولكن مهلًا! ليس كل ما هو بسيط هو صحيح. يؤكد سي. إس. لويس ذلك في قوله: “ليس من خيرٍ في طلب ديانة بسيطة. وبعد إمعان النظر، ليست الأشياء الحقيقيّة بسيطة. إنها تبدو بسيطة، ولكنها ليست كذلك.”[7] فكّر في محبة المسيح–تلك الحقيقة البسيطة. يصفها الرسول بولس بأنها ليست مجرّد حقيقة بسيطة أو سطحية، وإنما لها أبعاد–لها عرض وطول وعمق وعلو؛ بل أنها فائقة المعرفة (أفسس 18:3)!

ثانيًا، في أغلب الأحيان تكون صعوبة الأمر دليل على مصداقيته. خُذ الثالوث كمثال، فإن صعوبة إدراكه، بل وتعقيده إنما هو أحد الأدلة على أنه ليس اختراع بشريّ. فكيف للإنسان أن يخترع شيئًا يعجز هو نفسه عن شرحه وتفسيره؟

إن الأمر أشبه بالفرق بين السيارة الحقيقية والسيارة اللُعبة. ما أبسط السيارة اللعبة–فهي تتكون من مُحرّك صغير وبطارية. ولكن أنظر إلى مدى تعقيد السيارة الحقيقيّة من أجهزة مختلفة شديدة التعقيد لتبريد المحرّك، وضخ البنزين، وتحريك السيور، إلى أخره. كل هذا التعقيد هو ما يجعل من السيارة الحقيقيّة حقيقيّة، والسيارة اللعبة غير حقيقية حتى وإن تشابهت في شكلها الخارجيّ مع ما هو حقيقيّ! ينطبق الأمر ذاته على المسيحيّة وإيماننا بها. كثيرًا ما نظُن أن لدينا إيمانًا حقيقيًا، بينما هو في الحقيقة كالسيارة اللُعبة، غير حقيقيّ يُكشف فقط عند الامتحان.

ثالثًا، إن الدعوة إلى المسيحية البسيطة هو مناقض للقدرات والإمكانيات التي وهبها الله لنا لاستيعاب أكثر الحقائق الرياضيّة والعلمية والفلسفية، بل والروحيّة تعقيدًا. كما أنه مضاد للوصية العُظمى: “تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ” (متى 37:22). فالفحص والتفتيش والاجتهاد هو تعبيرنا الصادق عن عبادتنا القلبيّة العقلية ومحبتنا للرب الذي دعانا لا أن نحبه بمشاعرنا الملتهبة وحماسنا العاطفيّ فحسب، بل أن نحبه أيضًا بكل عقلنا وفكرنا.

رابعًا، إن هذه الدعوة للبساطة لهي في تناقضٍ بيّن مع ما نعيشه في حياتنا العمليّة. تخيّل لو أنك تعاملت في مجال عملك بذات المنطق–منطق البساطة–فلم تسع لتطوير مهاراتك في العمل أو التعمق في مجال دراستك. ستكون النتيجة أنك سرعان ما ستكون خارج مجال المنافسة في سوق العمل. فإذا كانت حياتنا العمليّة تتطلّب منّا ألا نأخذها باستخفاف أو ببساطةٍ، فكم بالحري ينبغي أن يكون الحال تجاه حياتنا الروحيّة؟

خامسًا، هذا النمط من المسيحيّة البسيطة ما هو إلا مُخدر وقتي، يسمح لك اليوم بالتملص من التعب والاجتهاد والتأصل إلى أسفل. ولكن سيأتي اليوم، آجلًا أم عاجلًا، وسيطرح عليك أولادك (في الخدمة أو بالجسد) ذات الأسئلة التي حاولت الهرب منها قديمًا تحت شعار البساطة. وحينها ستكون صدمتهم حين يكتشفون أنك لم تُحرّك يومًا ساكنًا للبحث والسؤال حين كنت صغيرًا مثلهم.

كتلاميذ حقيقيين للمسيح، نحن مُطالبون بأن نتبعه تبعية مُكلفة، وأن نجتهد في فحص كلمته واللهج بها، وألا نعيش على هامش الحياة الروحيّة والمعرفة الكتابيّة مكتفين بعظات نسمعها وتعاليم نتناقلها دون فحص؛ كيما يتسنى لنا أن ننمو ونقدم لله أفضل وأغنى وأعمق وأصدق كلماتنا، وأن ينعكس في صلواتنا وعبادتنا له كل زخم لاهوتنا وخبراتنا الروحية والتعليمية.


[1] إبراهيم عيسى، “حديث القاهرة| لقاء خاص مع الفنان العربي الكبير إياد نصار.” فيديو على اليوتيوب. ديسمبر 31، 2021. https://www.youtube.com/watch?v=vXgjsnSSdPQ

[2] C.S. Lewis, Mere Christianity (HarperCollins, 2002), 40–42.

[3] John Bunyan, The Pilgrim’s Progress (Garden city: Dover Publications, 2003), 43.

[4] يتحدث الرسول بولس في كورنثوس الثانية 2:11–4 مستخدمًا لغة الأبوة، مُشبهًا نفسه بالأب الذي خطب ابنته (مؤمني كورنثوس) للمسيح من خلال كرازته لهم. وأن دوره مع هذه العروس لم ينته بالخطبة، بل أن دوره الآن هو أن يُحافظ على هذه العروس عفيفة ومقدسة ونقية في الحياة والتعليم لحين عودة العريس (رؤيا 7:19–9). ثم يستخدم بولس مثال خداع الحية لحواء (بتشكيكها في كلمة الله وصلاحه) ليُحذر مؤمني كورنثوس من أن ذات الحية يمكنها أن تخدعهم فتفسد أذهانهم “عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ” أي عن “الإِخْلاصِ وَالطَّهَارَةِ تُجَاهَ الْمَسِيحِ” (ترجمة كتاب الحياة).

[5] يقتبس كاتب هذا المقال من سي. إس. لويس مع تحفظه على الكثير من التعاليم والعقائد التي روّج لها لويس. فالكاتب يقتبس من سي. إس. لويس باعتباره أديب ومُفكّر وليس بصفته حجة أو مرجع لاهوتي.

[6] C.S. Lewis, Mere Christianity (HarperCollins, 2002), 41.

[7] سي. إس. لويس، المسيحيّة المجرّدة، ترجمة سعيد باز (عمّان: أوفير للطباعة والنشر، 2006)، 53.

شارك مع أصدقائك

مينا م. يوسف

يدرس حاليًا درجة الدكتوراة (Ph.D) في الإرساليات والأديان المقارنة في الكليّة المعمدانيّة الجنوبيّة، بولاية كنتاكي الأمريكيّة. كما حصل على درجة الماجستير (M.A) في الدراسات الإسلاميّة من جامعة كولومبيا الدوليّة، بولاية ساوث كارولاينا الأمريكيّة. ويعمل كمدير مشروعات الشرق الأوسط في خدمات الألفيّة الثالثة، وكمساعد أستاذ للدراسات العربيّة والإسلامية بالكليّة المعمدانية الجنوبية. كما شارك في تأليف كتاب Medieval Encounters باللغة الإنجليزيّة.