حقيقة تحريف التوراة والإنجيل

حين كنّا صغارًا، كثيرًا ما كنّا نلعب ألعاب جماعيّة مع أقراننا أو حتى أولادنا. ومن أشهر الخداعات التي كثيرًا ما كان يستخدمها الشخص متى شَعَرَ بأنه أوشك على الخسارة، هو محاولة تغيير قوانين اللُعبة حتى يتسنى له الفوز. للأسف، كثيرًا ما يُصوّب الأحباء المسلمون سهم التحريف والتبديل للتوراة والإنجيل، لوأد النقاشات والحوارات في مهدها.

مفسرو القرآن الأوائل كالإمام الطبريّ والرازي وابن خلدون، كانوا قد فسروا “التبديل” على أنه “تحريف للمعنى” أي تحريف معنى نص دون التلاعب في النص نفسه. ولكن مع مرور الزمن وكثرة المناظرات بين المسلمين وأهل الكتاب من يهود ومسيحيين، ساد الاعتقاد بين العلماء المسلمين بما أسموه “تحريف اللفظ” أي تحريف النص نفسه، ومن أشهر هؤلاء العلماء المسلمين هم علماء الأندلس كابن حزم والبيروني.[1]

أولًا: فهل هذا الادعاء صحيح؟

1. من الناحية القانونية:

حتى يتسنى فتح تحقيق جاد في اتهامٍ ما، يجب أن يكون هناك دليل. فعلى المدعي تقديم دليل بالآيات التي أصابها التحريف، والوضع الذي كانت عليه قبل التحريف، ومن قام بالتحريف؟ وفي أي زمان وقع التحريف؟ هذه الأسئلة ليس غرضها إفحام أو إسكات المشتكي، وإنما هي أسئلة مشروعة، وهي تُعبّر في الأساس عن مدى جديّة الإدعاء، وأنه ليس مُجرّد بلاغ كاذب.

2. من الناحية التاريخية والأثرية:

السؤال الذي علينا طرحه هو متى حرفت التوراة والإنجيل؟ أقبل أم بعد الإسلام؟ إن قلنا قبل الإسلام، فكيف لحواريّ (تلاميذ) المسيح أن يحرفوا الإنجيل ثم يذهبون ليموتوا لأجل كذبة؟ أو مَن ذلك الشخص الذي آتى بعدهم وكانت لديه هذه القدرة الجبارة أن يجمع كافة نسخ وترجمات الإنجيل التي كانت قد انتشرت بالمئات في كافة ربوع العالم منذ بدايات القرن الثاني ويحرفها جميعًا بطريقة يعسر على كافة المسيحيين ملاحظتها، بل واستعدادهم للموت لأجل ما جاء فيها؟

ثم إن قلنا أن هذا التحريف حدث بعد الإسلام يكون الأمر أكثر صعوبة، لأن انتشار النسخ كان قد امتد واتسع أكثر، وكذلك يصف القرآن التوراة والإنجيل بأن فيهما “هُدًۭى وَنُورٌۭ” (المائدة 44، 46)؛ وبأنها “هُدًۭى وَرَحْمَةًۭ” (القصص 43؛ الأنعام 154)، وبأنها “كَلَـٰمَ ٱللَّهِ” (البقرة 75). كما أن القرآن نفسه يصف بل أن نبي الإسلام حين أصابه الشك، نجد القرآن يدعوه قائلًا: “فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّۢ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَسْـَٔلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَـٰبَ مِن قَبْلِكَ…” (يونس 94) وكذلك يقول عن محمد: “نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقًۭا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَىٰةَ وَٱلْإِنجِيلَ” (آل عمران 3). فلو كان محمد قد صدّق على التوراة والإنجيل في زمانه، لسقط ادعاء التحريف، إذ أن لدينا اليوم نُسخ ومخطوطات للإنجيل والتوراة تعود إلى ما قبل زمن محمد وتكاد تُطابقه بشكلٍ كبير.

في كلا الحالتين، كيف لله كليّ القدرة أن يسمح بتحريف كلامه في التوراة والإنجيل؟ وما الذي يمنعنا أن ذات الشيء يمكنه أن يكون قد حدث مع القرآن؟

3. من الناحية العقليّة:

انتشر الإنجيل وسط تربص من قِبَل اليهود والحكام الرومان المعادين للمسيحيين. فكيف للمسيحيين أن يحرفوا التوراة؟ أو كيف لليهود أن يحرفوا الإنجيل؟ أو كيف لبعض المسيحيين أن يزيفوا الإنجيل دون اعتراضٍ من قِبَل سائر المسيحيين وتلاميذ المسيح؟ وكيف لهم أن يحرفوا الإنجيل أو يقبلوا بتزييفه، ثم يذهبون للموت والشهادة لأجل أمر قد زيفوه بأنفسهم؟ أو كيف يتفق العدوان اللدودان اليهود والمسيحيون معًا على تحريف نصوصهما أو نصوص بعضهما البعض نكاية في محمد؟!

لو كان المسيحيون أو اليهود قاموا بتحريف كتبهم، فلما أبقوا على آيات تسيء لهم ولكتبهم؟ لماذا أبقى اليهود على قصصٍ تنتقص من أنبيائهم أو منهم كشعب عنيد وكثيرًا ما عصى الله ووصاياه؟ لماذا أبقى المسيحيين على آيات تبدو كما لو أنها تنتقص من ادعاءاتهم بأن المسيح ابن الله، كتلك التي تتحدث عن هروبه إلى مصر، وجوعه وعطشه وبكاءه؟

ثانيًا: ماذا عن النقد الليبراليّ الحديث للكتاب المقدس؟

كثيرًا ما يستشهد المدافعون عن الإسلام النقد الليبراليّ الحديث للطعن في مصداقية الكتاب المقدس. فيستشهدوا ببعض النصوص (مثل: مرقس 41:1؛ يوحنا 18:1؛ يوحنا الأولى 7:5-8) للتدليل على تحريف الكتاب المقدس. فالقارئ المدقق لهذه النصوص يمكنه بسهولة التأكد من انتفاء صفة التحريف عنها. فالاتهام بالتحريف يستلزم أولًا وقبل كل شيء أن يكون الفعل متعمدًا بغرض إخفاء أو تبديل حقيقة يذيعها النص، وليس مجرد خطأ بشريّ وقع فيه أحد النُساخ أثناء عملية النسخ عن المخطوطات الأقدم. حتى مع وجود مثل هذه الأخطاء الطفيفة في عمليّة النسخ، لا يوجد فيهم ما يهُز أركان العقيدة المسيحيّة رأسًا على عقب.[2]

كما أن استخدام المدافعون المسلمون لأطروحات النقد الليبرالي يطعن في الأساس فيما قاله القرآن نفسه عن صدق التوراة والإنجيل. كان حريّ بالمسلم الغيور أن يدافع عن التوراة والإنجيل من سهام النقد الليبراليّ دفاعًا عن القرآن؛ حتى لا يظهر القرآن كما لو أنه لم يكن بعالمٍ بمثل هذه الأخطاء النسخيّة، حين قال ما قاله عن التوراة والإنجيل. كما أن المسلم الغيور المبتهج بالنتائج التي توصل إليها النقد الليبراليّ يتناسى أن ما توصل إليه الليبراليون هو نتاج انطلاقهم مِن مجموعة مبادئ متحيّزة ضد كل ما يحوي عنصرًا معجزيًّا أو إلهيًا. الأمر الذي لن يصمد أمامه القرآن طويلًا، إذا ما طُبقَت ذات مبادئ النقد الحديث عليه.

في النهاية نحن كمسيحيين نؤمن بقدرة الله في حفظه لكلمته من التبديل والتحريف. فالمسيح قال: “اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ” (متى 35:24). في أثناء خدمته على الأرض، طرح المسيح على مستمعيه أكثر من 100 سؤال، لكن السؤال الذي كان كثيرًا ما يطرحه عليهم هو: “أَمَا قَرَأْتُمْ…؟” لنقرأ، ونشبع، ونحيا بكل كلمة تخرج من فم الله.


[1] Norman L. Geisler, Answering Islam: The Crescent in Light of the Cross (Grand Rapids: Baker Books, 2003), 60-61.

[2] Timothy Paul Jones, Why Should I Trust the Bible? (Christian Focus, 2019), 193-194.

شارك مع أصدقائك

مينا م. يوسف

يدرس حاليًا درجة الدكتوراة (Ph.D) في الإرساليات والأديان المقارنة في الكليّة المعمدانيّة الجنوبيّة، بولاية كنتاكي الأمريكيّة. كما حصل على درجة الماجستير (M.A) في الدراسات الإسلاميّة من جامعة كولومبيا الدوليّة، بولاية ساوث كارولاينا الأمريكيّة. ويعمل كمدير مشروعات الشرق الأوسط في خدمات الألفيّة الثالثة، وكمساعد أستاذ للدراسات العربيّة والإسلامية بالكليّة المعمدانية الجنوبية. كما شارك في تأليف كتاب Medieval Encounters باللغة الإنجليزيّة.