اللاهوت اللوثري

التعريف

يتمثَّل أفضل طريق لِفَهْم اللاهوت اللوثري في الرجوع إلى كتابات مارتن لوثر نفسه، وفيليپ ميلانكثون، ومجموعة من تلاميذهما الموجودة في كتاب الوِفَاق The Book of Concord (1580). تشمل سِمَات اللاهوت اللوثري تشديدات على نعمة الله السياديَّة وقدرته المُطلَقَة، وعلى التمييز بين الناموس (الوصيَّة) والإنجيل (الوعد) في كلمة الله، وعلى لاهوت تبرير محوره المسيح، وعلى تعريفٍ للإيمان يتجاوز الإيمان التاريخي البسيط.

الموجَز

يتمثَّل أفضل طريق لِفَهْم لاهوت مارتن لوثر، على الرغم من ذهاب هذا اللاهوت -بالاسم فقط- في اتجاهات كثيرة مختلفة منذ القرن السادس عشر، في الرجوع إلى كتابات لوثر نفسه، وفيليپ ميلانكتون، ومجموعة من تلاميذهما الموجودة في كتاب الوِفَاق The Book of Concord (1580). لقد تأثَّر تَطَوُّر اللاهوت الخاص بلوثر بِكُلٍّ من مُعَلِّميه الأوكاميِّين (نِسبةً إلى ويليام الأوكامي) والقديس أوغسطينوس، حيث استمر لوثر في تشديد كُلٍّ منهما -على الترتيب- على قدرة الله الكُلِّيَّة وعلى سيادة نعمة الله. كانت كلمة الله، مع التمييز اللوثري بين الناموس والإنجيل، مركزيَّةً أيضًا في لاهوت لوثر الخاص بالكنيسة والخاص بالحياة المسيحيَّة. استند الوعد بالخلاص الذي وعد الله به في الإنجيل بالتمام إلى شخص الرب يسوع المسيح وطبيعة الإيمان المسيحي، فَلَم يَكُن الإيمان بالنسبة للوثر مُجَرَّد اتِّفاق مع الحقائق التاريخيَّة، بل كان ثقةً تُعَرِّف وتُحَدِّد شخص الإنسان بِكَامِلِهِ، وتَقْبَل بِرَّ المسيح الممنوح مَجَّانًا. تتدفَّق حياة الطاعة المسيحيَّة من الاقتناع بأنَّ الإنسان يُجعَل بارًّا بإعلان الله أنَّ برَّ المسيح هو الآن بِرُّ ذلك الإنسان. شَدَّد لوثر أيضًا تشديدًا كبيرًا على دور الكنيسة في الحياة المسيحيَّة، وعلى دور الكلمة والأسرار المقدَّسة داخِل هذه الكنيسة.


لقد اتَّخَذ اللاهوت الذي مَارَسَه أولئك الذين يدَّعون أنَّهم لوثرِيُّون أشكالًا كثيرة في التفاعُل مع الثقافة الأوروبيَّة ومع الثقافات الكثيرة الأخرى التي انتشرت فيها الكنائس اللوثريَّة سريعًا حول العالم، ففي القرن السابع عشر خرج اللاهوتِيُّون “الأرثوذكس” اللوثريُّون عن ممارسة لوثر، وامتثلوا النماذج السكولاستيَّة (السائِدة حينها) التي أتاحت الجِدَال اللاهوتي عَبْر الطوائف المختلفة. علاوةً على ذلك، فإنَّ التقوى الشعبيَّة في ذلك الوقت أعادت توظيف أشكال مُعَيَّنة من العصور الوُسطى، مُستَخدِمَة التفسير الرمزي[1] في الوعظ، ومُوَفِّقَة تشديدات روحيَّة أخرى من يوهانِس تاولَر وآخرين. في عصر التنوير، اتَّخذ بعض اللاهوتِيِّين الألمان والشماليِّين (الاسكندناڤِيِّين) لوثر كرمز للخطاب العقلاني والحرية الشخصيَّة، غير أنَّ أعماله لم تُقرأ بشكل كبير ولم يَكُنْ لها تأثيرٌ يُذكَر، أو تأثيرٌ من الأساس، على النقاش اللاهوتي. في القرن التاسع عشر، عَزَّزَتْ الحركة الرومانسيَّة إحياء الفِكْر اللوثري المُبَكِّر، في حين أنَّ الجهود الوضعيَّة (المقصود الوضعيَّة القانونيَّة) المُعاصِرة الساعية لبناء مملكة الله على الأرض[2] استخدمت لوثر مرةً أخرى باعتباره مُجَرَّد رمزٍ، وفي القرنين العشرين والحادي والعشرين، استخدم المُفَكِّرون اللوثريُّون لوثر لدعم “لاهوت الداليت” الموجود في الهند، و”لاهوت ألم الله” في اليابان (كازوه كيتاموري [1916-1998]). لكن في الواقِع يَتَمَثَّل أفضل طريق لِفَهْم اللاهوت اللوثري في الرجوع إلى كتابات لوثر نفسه، والوثائق التي كتبها هو وفيليپ ميلانكتون ومجموعة من تلاميذهما الموجودة في كتاب الوِفَاق The Book of Concord (1580).

مصادر لاهوت لوثر

خضع لاهوت لوثر لعمليَّة من التطوُّر استمرت منذ بداية دراساته اللاهوتيَّة (1508/1509) حتَّى حوالي 1520/1521، مُرتَكِزَةً في إدراكه أنَّ النظرة الكتابيَّة للواقع[3] قائِمَة على العلاقات، ولا سِيَّما علاقة الخالق بجميع المخلوقات، باعتبارها أساسيَّة لفهم حياة الإنسان. قَدَّم لوثر نظرةً لله ذات طابعٍ شخصيٍّ[4] شديدٍ باعتباره الخالِق الذي صَوَّر كُلَّ ما هو موجود إكس نيهلو (من العَدَم) من خلال التَّحَدُّث (تكوين 1)، فالله هو إله حوار وشَرِكَة صَنَعَ مخلوقاته البشريَّة على صورته، ويرغب في الشَّرِكَة معهم. بعد بضع سنوات تَشَرَّب لوثر إصرار أوغسطينوس على نعمة الله غير المشروطة والتي لا يمكن كَسْبها، عاكِسًا إيمانه الأوكامي الأصل بأنَّ قدرة الله مُطلَقَةٌ، فَلَم تَكُنْ هذه النعمة “نَزْعَةً” (أو بتفصيلٍ أكثر: نَزْعَةً داخليَّة يمنح الله الإنسان إيَّاها) كما في اللاهوت السكولاستي، وإنَّما هي موقف الله بالفَضْل والمحبة الثابتة والرحمة.

لوثر عن الخطيَّة

غالبًا ما استعمل لوثر مصطلحات سكولاستيَّة العصور الوسطى مُعَمِّقًا بعد ذلك تعريفاتها لهذه المصطلحات. كانت تجربته الخاصة مع عدم قدرته على حفظ ناموس الله بشكل كامل قد كَوَّنَتْ إدراكه لطبيعته الشخصيَّة الخاطئة، وقادته إلى تعريف الخطيَّة الأصليَّة ليس فقط بأنَّها الاغتراب عن الله الذي توارثناه من آدم وحواء، بل بأنَّها أيضًا سبب استمرار شعب الله المُختارين في ارتكاب الخطيَّة بعدما يُرجِعهم الله إلى العلاقة التي يُؤسِّسها وعده في المعموديَّة. لقد شَكَّل الشَّكُّ في كلمة الله وما تَبِعَه من تَحَدٍّ لربوبيَّته الخطيَّةَ الأصليَّة في جَنَّة عَدْن، ومصدر الانحرافات عن طاعة ناموسه في الحياة اليوميَّة. إنَّ هذا الفَهْم الجذري للخطيَّة باعتبارها كُلَّ ما يَنبُع من عدم “خوف الله ومحبته والثقة به فوق كل شيء” (شَرْح لوثر الوصيَّة الأولى من الوصايا العشر في دليله التعليمي الصغير للأسئلة والأجوبة حول الإيمان المسيحي [1529]) دَعَمَ تعليم لوثر حول اتِّكال الخُطَاة الكُلِّيّ على نعمة الله الممنوحة مَجَّانًا.

لوثر عن الكتاب المقدَّس

يُخاطِب الله الخُطاة من خلال كلمته وهي تُعلِن مَنْ هو الله وما هي إرادته للجنس البشري في الكتاب المقدَّس، فقد آمن لوثر بأنَّ الروح القدس كان حاضِرًا مع مؤلِّفي الكتاب المقدَّس النَّبَوِيِّين والرسوليِّين أثناء كتابتهم كلمة الله، وبأنَّه حاضِرٌ مع المسيحيِّين أثناء قراءتهم واستخدامهم الكتاب المقدَّس في جميع العصور اللاحِقة. يتحدَّث الله إلى شعبه بأسلوبَيْن مُتَمَايِزَيْن، وهُما الوصيَّة والوعد، أو الناموس والإنجيل، والتمييز بين هذين الاثنين -الواحِد يَعرِض مشيئة الله لِمَا يجب على البشر فِعْله، أي تصميم الله للحياة البشريَّة؛ والآخر يَعرِض أفعال الله في يسوع المسيح نيابةً عن الخُطَاة- أفاد لوثر، وزميله فيليپ ميلانكثون (الذي شَدَّد تشديدًا خاصًّا على استخدام هذا التمييز في الوعظ والتعليم)، وأتباع لوثر كمِفتاحٍ تفسيريّ لفَهْمٍ وتطبيقٍ صحيحَيْن لكلمة الله.

تُساعِد وصايا الله في حِفْظ النظام المُجتَمَعي على الرغم من أنَّه في فِعْلِها ذلك قد تُثير، كما أشار لوثر، تَمَرُّدًا أعمق في أولئك الذين يشعرون بأنَّ أصنامهم مُهَدَّدة، وقد تُشَجِّع الناس على الاعتماد على أعمالهم لتبرير أنفسهم أمام الله بدلًا من خدمة القريب فَحَسْب. يُعَدُّ أهم “استخدام للناموس” (وهو مصطلح لم يستعمله لوثر على نطاقٍ واسع) هو ذلك الذي يَسحَق الادِّعاءات الآثِمَة (أي ادِّعاءات الأشخاص بأنَّهم أبرار) ويُوَضِّح للخُطَاة أنَّهم تحت دينونة الله، وبهذه الصِّفَة يدعو الناموس المؤمنين أيضًا إلى التوبة. لم يتحدَّث لوثر عن استخدام ثالث للناموس، إلَّا أنَّه استخدم الناموس بالفعل لتعليم التائِبين الذين كانوا يبحثون عن إرشادٍ في اتِّخاذ قرارات تُرضي الله.

لوثر عن الخلاص

يستند وعد الله بالخلاص والهروب من الخطيَّة فقط إلى عمل المسيح. لقد وَعَظَ لوثر بكامِل قصة عمل المسيح الخلاصي، بدءًا من التَّجَسُّد، ومرورًا بحياة التعليم وصُنْع المعجزات التي عاشها في طاعةٍ تامَّة للناموس الإلهي، وصولًا إلى آلامه وموته وقيامته، وإلى ما هو أبعد من ذلك أيضًا، أي صعوده وعودته الموعودة في نهاية الدهر. عند الحديث عن كفَّارة المسيح وما يترتَّب عليها من تبرير الخُطاة، شَدَّد المُصلِح (لوثر) على موت المسيح لإبعاد الخطيَّة، وعلى قيامته لاستعادة البِرِّ (رومية 4: 25)، واتَّخَذ إعلان لوثر موتَ المسيح وقيامته أشكالًا متنوعة، حيث رأى لوثر بالتأكيد موت المسيح على أنَّه إرضاءٌ نيابِيٌّ لِمَطلَب ناموس الله بموت الخاطئ (رومية 6: 23)، فقد أخذ المسيح مكان الخُطاة واحْتَمَل حُكْم الموت الذي يستحقونه. تحتوي أيضًا عظات لوثر ومحاضراته على إشاراتٍ كثيرة إلى عمليَّة إعادة الخَلْق التي يختبرها المؤمنون بكلمة الغُفران، وهي العمليَّة التي تجعل منهم أعضاء مولودين ثانيةً في عائلة الله، مُصالَحين مع الآب من خلال المسيح (2كورنثوس 5: 17). تحمل أُطروحته الأكثر أهمية عن التبرير عنوان On the Freedom of a Christian أو “حُرِّيَّة المسيحي” (1520) حيث تتطلَّع الأطروحة في شرح لوثر البند الثاني من قانون إيمان الرسل إلى التركيز على تحرير المسيح للخُطَاة من سبي كُلٍّ من إبليس والعالم ورغباتهم المُتَمَركِزَة حول الذات من خلال قيامته. إنَّ الغُفران والولادة الجديدة والتحرير الذين يمنحهم المسيح يجعلون المؤمنين شعبَه الخاص المُكَرَّس للعَيْش معه ومن أجله.

التبرير

تؤثِّر كلمة غُفران الله المُبَرِّرَة فِعليًّا في واقِع وجود وهُوِيَّة الخاطئ، حيث تتجاوز هذه الكلمة ما يصفه اللُّغَوِيُّون الحديثون بأنَّه “كلامٌ إنشائيٌّ أو إنجازيٌّ”، فإنَّها الكلمة الخالِقة التي شَكَّلَت الكون تغزو الآن مملكة الشيطان لتَستَرِد وتُصَيِّر أولئك الذين يَشُكُّون في الله ويَتَحَدُّونه أولادًا من جديد يثقون به؛ وبهذه الطريقة لا يُعَدُّ فَهْم لوثر للتبرير “القضائي” افتراضًا قانونيًّا أو حيلةً قانونيَّةً، مُعتَبِرًا الخُطاة “كما لو” أنَّهم أبرار، ولكنَّ تقدير الله أو نظرته للأمور تَنسِب (تَعتَبِر، تَحسُب [رومية 4: 3، 6]) حُكْمه الإلهي على الخُطاة، فإعلان الله أنَّهم أبرار يجعلهم حقًّا وواقِعيًّا أبرارًا لأنَّ كلمته هي التي تُقَرِّر ما هو واقِعيٌّ.

الإيمان

يُصبِح الخُطاة أبرارًا أمام الله من خلال الإيمان، والذي عَرَّفه لوثر بأنَّه يختلف عن -على الرغم من احتوائه على- الإيمان “التاريخي” (فيدِس) للاهوت العصور الوُسطَى الذي رأى الإيمان على أنَّه اعترافٌ بحقيقة قصة ذبيحة المسيح من أجل البشريَّة. تَعَلَّم لوثر من إيرازموس وميلانكثون أنَّ كلمة الرسول بولس “الإيمان” (پيستِس) تجاوزت -على الرغم من اشتمالها بالتأكيد على- هذا الإيمان التاريخي، إذ إنَّها الثقة (فيدوتشا) التي تُشَكِّل شخص الإنسان وشخصيَّته. تُؤَسِّس هذه الثقة، كما كَتَبَ لوثر في دليله التعليمي الكبير للأسئلة والأجوبة حول الإيمان المسيحي، العلاقة بين الله والمخلوقات البشريَّة وتُحافظ على هذه العلاقة. إنَّها أبعد من قدرة الإنسان الخاطئ، فالروح القدس هو مَنْ يخلقها في قلوب البشر وأذهانهم عامِلًا من خلال الأشكال الشَّفَهِيَّة والمكتوبة والسِّرِّيَّة (المرتبطة بالأسرار المقدَّسة) لرسالة الإنجيل الخاصَّة بعمل المسيح، واستنادًا إلى افتراضاته المُسبَقَة كتلميذ للمُعَلِّمين المُتَأَثِّرين بالفكر الأوكامي لم يتردَّد لوثر في الإيمان بأنَّ الله يستطيع فِعْلِيًّا ممارسة قُوَّته من خلال النداء بالإنجيل (رومية 1: 17)، وبأنَّ كلمته تُحَقِّق مشيئته الخلاصيَّة (إشعياء 55: 11)؛ ولذلك نظر لوثر إلى وعد الله في الكتاب المقدس، والنداء بالرسالة الكتابيَّة، ومَنْح الوعد فيما يتعلَّق بالعلامات الخارجيَّة في الأسرار المقدسة باعتبارها أداوت الروح القدس لخَلْق وحِفْظ الثقة في المسيح الواهِبة البِرَّ.

البِرُّ

إنَّ الثقة هي التعبير البشري عن جوهر البِرِّ أمام الله لأنَّها تؤمن وتَتَّكِل على الوعد بالغُفران والتحرير وإعادة الخلق على أساس موت المسيح وقيامته، فإعلان الله أنَّ شخصًا ما بارٌّ يُقنِع المؤمنين بأنَّهم أبرار؛ ومن ثَمَّ يسعى هؤلاء المؤمنون جاهدين كي يحيوا حياةً بارَّة. مَيَّز لوثر بين “نَوْعَيْن” من البِرِّ حاسِبًا الطريقة “الصحيحة [أو المستقيمة]” لتكون إنسانًا ذات جانِبَيْن أو ذات شِقَّيْن، فقد أعطى البِرَّ الجوهري أو الأساسي، الذي هو أمام الله، اسم “بِرّ خارِجنا” (يوستيتسيا أَلْيِينا)، ولاحِقًا اسم “بِرّ سلبي” (يوستيتسيا پاسِّيڤا)، ويُشَكِّل هذا البِرّ هُوِيَّة المؤمن الجوهريَّة باعتباره ابن لله، وهو بِرٌّ لا نحصل عليه باستحقاقنا، بل يَهَبُنا الله إيَّاه فقط بنعمته من خلال الإيمان بالمسيح. يُنتِج هذا البِرُّ بعد ذلك “بِرَّنا الخاص” (يوستيتسيا پروپرِيا) أو بِرًّا إيجابيًّا (يوستيتسيا أَكْتيڤا). بِلُغَة الأطروحات المركزيَّة المُقَدَّمَة في On the Freedom of a Christian أو “حُرِّيَّة المسيحي”، إنَّ المسيحيِّين سَادَةٌ على كُلِّ الشرور لأنَّ المسيح قد تَغَلَّب على هذه الشرور بالنيابة عنهم، والمسيحيُّون في الوقت ذاته خُدَّام الناس، مُستَعبَدين للمجتمع البشري ومُلتَزِمين به من خلال وصيَّة الله بخدمة ومحبة القريب.

لوثر عن الحياة المسيحيَّة

تَرَكَّز فَهْم لوثر للحياة المسيحيَّة في أن تكون مدفوعًا بالثقة في المسيح وفي إعلانه أنَّك بارٌّ الذي يُنشِئ فيك الإرادة لخدمة الله والآخرين. اعتقد مارتن لوثر أنَّ صُنْع القرار المسيحي ينبغي أن يسترشد بوصايا الله ودعواته للمناصِب والوظائف داخل هياكل المجتمع، فقد حَوَّل لوثر مصطلح العصور الوُسطَى “الدعوة” من كونِهِ الاسم الذي يُطلَق على عمليَّة تعيين الله أولئك الذين في الخدمة الدينيَّة -الكهنة والرهبان والراهبات- في مهامهم المُعطاة إلهيًّا إلى مصطلح يُحَدِّد مصدر خدمة جميع المسيحيِّين في أدوار ونشاطات الحياة في “المراكز [الطبقات] الاجتماعيَّة” للعصور الوُسطَى: الأُسْرَة (بما في ذلك الحياة العائليَّة والمِهنِيَّة)، والمُجتَمَع (وخاصَّةً الهياكل السياسيَّة)، والكنيسة. إنَّ تنفيذ وصايا الله داخل دعوات الله (وحتَّى خارج هذه الدعوات عند الحاجة) هو ثمر الإيمان.

حَثَّ لوثر سامعيه وقُرَّاءه وأنذرهم أن يحيوا هذه الحياة من الطاعة الجديدة لله بِغَضِّ النظر عن المكانة الاجتماعيَّة، فقد شعر الفَلَّاحون بانتقاده للغِشِّ في السوق، وكذلك شَعَر التُّجَّار والحِرَفِيُّون، وأعلن لوثر أيضًا غضب الله على رجال البلاط الملكي والأُمَراء لاستغلالهم رعاياهم وتحريفهم العدالة.

إلَّا أنَّ إدراك لوثر لصراع كُلِّ مسيحي مع التجربة قد شَكَّل كُلَّ تقديمه لكلمة الله. لقد أوصى المسيح المؤمنين بأن يَكْرِزوا بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا (لوقا 24: 47)، وهو ما فهمه لوثر على أنَّه تطبيق دينونة الخطية بواسطة ناموس الله، وإعلان المَغفِرَة بواسطة إنجيله. يجب أن تُعاش الحياة المسيحيَّة بهذا الإيقاع اليومي؛ حيث يجد المؤمنون كُلَّ يوم أنَّهم لم يخافوا الله أو أَحَبُّوه أو وَثِقُوا به فوق كُلِّ شيء آخر. لقد كَتَبَ لوثر في أولى أطروحاته الخمس والتسعين (1517) أنَّ حياة الشخص المسيحي بأكملها هي حياة توبة. كان فَهْمه المُتَنَامي للاعتراف بالخطيَّة وقبول وعد الله مُرتَكِزًا في عمل الله في المعموديَّة الذي فيه يَهَبُ وعدُ الله الحياةَ، فقد شرح دليله التعليمي الصغير للأسئلة والأجوبة حول الإيمان المسيحي التأثير المستمر لوعد المعموديَّة هذا: إنَّ “دُفِنَّا مَعَ المسيح بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ … هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ” (رومية 6: 4) “يعني أنَّ آدم القديم الذي فينا مع كل الخطايا والرغبات الشريرة يجب أن يُغرَق ويموت من خلال الندم والتوبة اليومِيَّيْن، ويعني من الناحية الأخرى أنَّ شخصًا جديدًا على نحوٍ يوميٍّ أيضًا يجب أن يخرج من المياه ويقوم من الموت ليحيا أمام الله إلى الأبد في برٍّ وطهارةٍ”. يستمر هذا الصراع الإسخاتولوچي نظرًا لأنَّ الله والشيطان يستمران في الصراع الذي قد حَسَمَتْه بالفعل قيامة المسيح، ولكنَّه ما زال يُؤلِم المؤمنين. يَبقَى استمرار الخطيَّة والشر في حياة المؤمنين لُغزًا، وقد تَجَنَّب لوثر محاولة الإجابة عن الأسئلة المُتَعَلِّقة بطبيعة ووجود الشر بأي إجابة أخرى غير صليب المسيح (رومية 3: 26).

لوثر عن الكنيسة

على الرغم من اتِّهامه أحيانًا بكَوْنِه مُفرِطًا في الفرديَّة فَقَدْ أَوْلى لوثر أهميَّةً كبيرة لحياة المسيحي في شَرِكَة القديسين (الكنيسة)، والتي يختبرها في الكنيسة المحليَّة، ولكنَّها منسوجة أيضًا مع المؤمنين من كل الأزمنة والأماكن من خلال “دعوة الروح القدس وجَمْعِه وإنارته وتقديسه كُلَّ الكنيسة المسيحيَّة على الأرض” (دليل الأسئلة والأجوبة الصغير لتعليم أصول الإيمان المسيحي، قانون إيمان الرُّسُل). مع أنَّ لوثر لم يُفرِد لمُصطَلَح “علامات الكنيسة” بابًا من أبواب العقيدة، فَقَدْ استخدمه لوصف الكنيسة، وبالاتِّفاق مع إقرار إيمان أوجسبورج Augsburg Confession لميلانكثون، والذي عَرَّف الكنيسة في جوهرها بأنَّها “الجماعة التي تتكوَّن من كُلِّ المؤمنين الذين بينهم يُوعَظ بالإنجيل بشكل نقي، وتُمَارَس الأسرار المقدسة وفقًا للإنجيل” (البند السابع)، أَرْسَى لوثر أيضًا الكنيسة في استخدام كلمة الله مِنْ قِبَل مُجتَمَع المؤمنين. سَرَدَ لوثر عام 1539 ثماني علامات للكنيسة تتعلَّق العلامات الخَمْس الأولى منها بتوصيل وعد الإنجيل: الوعظ بكلمة الله؛ توصيل الوعد في صُوَر المعموديَّة، وعشاء الرب، والاعتراف بالخطيَّة والحِلِّ الرسميَّيْن؛ وظيفة خدمة الكلمة؛ وبعد هذه العلامات الخَمْس الأولى تأتي عبادة الجماعة وتعليم الشعب؛ الصليب أو الألم والاضطهاد؛ إظهار المحبَّة للآخرين. لم تَكُن تلك الأخيرة علامةً مُمَيِّزة للكنيسة إذ إنَّ أولئك الذين هُمْ من خارج الإيمان يعملون أيضًا أعمال محبة تُوافِق ظاهريًّا ناموس الله، إلَّا أنَّ هذه العلامة تنتمي بالفعل إلى طبيعة حياة المجتمع المسيحي معًا.

اللاهوت اللوثري بعد لوثر

في إقرار إيمان أوجسبورج Augsburg Confession (1530)، وفي دفاعه (أو أپولوچي) عن الإقرار Apology of the Confession (1531) عَبَّر ميلانكثون عن التعليم الذي كان هو ولوثر وزملاؤهما يطرحونه في الوثائق التي أصبحت مفاتيح تفسيريَّة -سُلطَات (مصادر) ثانويَّة- للكتاب المقدَّس بالنسبة لأتباعهم، وأكملت صِيغَة الوِفَاق Formula of Concord (1577) التفسير الرسمي للاهوت اللوثري بوصفها صياغةً رسميَّة لتعليم اللاهوت اللوثري، وتطبيقًا رسميًّا للكتاب المقدَّس من أجل حياة الكنيسة.


[1] كان الكتاب المقدس يُفَسَّر في العصور الوُسطَى حَسَب أربعة معانٍ: المعنى الحرفي، والمعنى الأخلاقي، والمعنى الرمزي، والمعنى الأُخْرَوي، غير أنَّ الكثيرين في تفسيرهم الرمزي للكتاب خرجوا عن المعنى الحقيقي الذي يقوله النص الكتابي باختراع جميع أنواع الرموز التي حجبت المعنى الحرفي للنَّصّ، وهذا ما رفضه المُصلِحون بِشِدَّة، أي إساءة استخدام الرموز، وليس استخدام الرموز نفسه. والمقصود بالتفسير الرمزي هنا هو على الأرجح ذلك الاستخدام السيِّئ.

[2] يستخدم الكاتب هنا مصطلحات مارتن لوثر الخاصة بعقيدة المملكتين، المملكة الأرضيَّة والمملكة الروحيَّة.

[3] المقصود بـ “الواقع” هنا وفي باقي المقال هو المصطلح الفلسفي الذي لطالما حاولت الفلسفة فهمه وطَرْح النظريات الفلسفية المختلفة بشأنه، أي فيما يتعلق بطبيعة الواقع والوجود والكينونة، وفي الحقيقة فإنَّ مارتن لوثر نشأ وتَدَرَّب على هذه المناهج الفلسفيَّة، ولا سِيَّما الأرسطيَّة التي استُخدِمَت في سكولاستيَّة جامعات العصور الوُسطَى، وذلك على الرغم من رفض لوثر لهذه الفلسفة الأرسطيَّة والطريقة السكولاستيَّة. لذلك سنتقابل في هذا المقال مع بعض المعاني الفلسفيَّة.

[4] بمعنى أنَّه رأى الخالق شخصًا، وذلك بخلاف رؤية أرسطو السائدة حينها (التي كان فيها الخالِق -“The Unmoved Mover“، “العِلَّة الأولى”، “المُحَرِّك الذي لا يتحرك”، “السبب غير المُسبَّب”- لا يُمَثِّل شخصًا يتواصل)، فإله أرسطو ليس إلها شخصيًّا (ليس شخصًا) مثل إله المسيحيَّة، إنَّه ذاك الكائن الأساسي والنقي الذي يتمتع بالقوة، والذي تنبثق منه كل الأشياء الأخرى، وهو كائن أزليٌّ موجودٌ بذاته لابُدَّ أن يكون لكي يوجد أي شيء آخر (كائن ضروري، ضرورة فلسفية لتفسير وجود الأشياء)، لكن لا وجود لمفهوم العناية الإلهيَّة الشخصيَّة الواعية أو لخلق طوعي في نظرة أرسطو لله.

شارك مع أصدقائك

حاصل على الدكتوراة في الفلسفة (PhD) من جامعة ويسكونسن الأمريكيّة، وهو أستاذ اللاهوت النظاميّ بكليّة كونكورديا للاهوت بمدينة سانت لويس.