اللاهوت السكولاتي الجدالي

التعريف

اللاهوت الجداليّ أو يُسمّى أيضًا المدرسيّ أو السكولاتيّ هو المصطلح الذي أطلق على اللاهوت إبان العصور الوسطى وبواكير ظهور الجامعات العصريَّة، وتشكَّل بمركزية السؤال الجدلي حيال بِنيته وهيكله.

الموجز

تطورت الجداليَّة (السكولاستية) في العصور الوسطى تزامنًا مع نشأة الجامعات في أوروبا. وقد اعتمد الإصلاح الإنجيليّ على خطاب حركة النهضة المناهض للجداليَّة، لكنه إبان تأسيسه لنفسه داخل الجامعات، تبنى هذا المنهج بوصفه أحد الأشكال المناسبة للتعليم. وقد انهار هذا الاتجاه تحت تأثير عصر التنوير، ولكنه بُعِث مرة أخرى في كلا من الكاثوليكيَّة والبروتستانتيَّة عبر العقود الأخيرة.


الخلفيَّة التاريخيَّة

بالرغم من اتباع تقليد ممتد باستخدام مصطلح “مدرسيّ” أو “جداليَّ” بمعنى ازدرائي للتحقير من اللاهوت بأنه عقلي جاف أو مُجرد خاوٍ أو عامِّي تافِه، أو حذلقي صلف أو مُبهم مجهول، فلا ينبغي الخلط بين الاستخدام الذي يتسم بالمبالغة للمصطلح ومعناه التطبيقي أو استغلاله للإيحاء بالتزامات لاهوتيَّة أو فلسفيَّة إذ إنه واقعيًا يشير إلى بِنية وليس فحوى.

فالجداليَّة في معناه التطبيقي يعني “المدارسيَّة” ويشير إلى أسلوب التعليم وتقديم اللاهوت الذي بزغ في قاعات جامعات العصور الوسطى، وظل رازحًا حتى أعاد تأثير أنماط التفكير التنويري تشكيل التعليم ومنهاج الجامعات.

فثمة دليل على نشأة المدارس المُلحقة بالكاتدرائيات لتعليم العامة في القرن السادس الميلادي. وقد تَكَرَّس هذا الاهتمام بالتعليم في عهد الملك شارلمان في القرن الثامن، وشهدت القرون اللاحقة تعليم اللاهوت في مُحيط مدارس الكاتدرائيات وأديرتها، ويُضاف إليه نموذجًا ثالثًا وهو المُعلم الكارزمي المُستقِل (النموذج الذي يُعد “بيتر أبيلارد” أبرز أمثلته على الأرجح). فمن هذا السياق التعليمي المتَّسِع ظهر نظام جامعات العصور الوسطى، في الأغلب كثمرة لمدارس الكاتدرائيات.

كان قد قُسِّمَ منهاج جامعات العصور الوسطى إلى سبعة آداب هم النحو، البلاغة، المنطق، الحساب، الهندسة الرياضية، الموسيقى، علم الفلك، يأتي بعدها ثلاث مساقات أعلى هم القانون والطب واللاهوت. وهنا نلاحظ أمرين، الأول: اللاهوت كان يُدرَس على خلفية أساس الآداب السبعة التي قد أُرسيَت سابقًا؛ وثانيًا: كان اللاهوت مساقًا موحدًا، وليس مجموعة مُجزأة من مساقات تابعة كما هو الحال في الجامعات الحديثة. وعليه، فهو قد حمل وحدة ثنائية الوجه، فكلاهما خارجيًا بمنزلة تاج كل المعرفة البشرية، وداخليًا بمنزلة تصريح إيماني مترابط منطقيًا ومتأصِّل في التفسير الكتابي ويتَّسِع للتعبير النظامي. فهذا الأخير-يعد أحد الافتراضات منذ زمن أوريجانوس في القرن الثالث الميلادي، مؤلف كتاب “في المبادئ الأولى” الذي قد يُعد باكورة اللاهوت النظامي-ويُعد عملًا مهمًا لقيام لاهوت العصور الوسطى كما قُدِّم في النظام الجدالي.

إن هذه الافتراضات العامة حيال طبيعة المعرفة والحقيقة ميِّزاها ببنية تعليمية خاصة. فإن المؤَلَّف الجدلي لبيتر أبِيلارد (1079-1142 تقريبًا) بعنوان (نعم ولا“-Sic et Non) كان قد سعى لتقديم اللاهوت بمنهج تحليلي منطقي، بجانب وجهات النظر المتباينة ظاهريًا عبر سلسلة من الموضوعات اللاهوتيَّة. في حين كانت نية قلب أبِيلارد شريرة بلا شك كالعادة، قد عنت حقيقة رفض الحُجج اللاهوتيَّة القاطع، أنه ثمة احتياج إلى منهج يُسهِّل حل مثل تلك المعضلات. وتمثَّل هذا في تشكيل عنصرًا رئيسيًّا باعتماد الحلقات الدراسيَّة الجداليَّة.

وثمة عامل آخر في تطور الجداليَّة تمثل في طبيعة نسخ الكُتب. حتى عصر إختراع آلة الطباعة في القرن الخامس عشر، كانت الكتب بعيدة المنال بالنسبة للعامة كما أنها باهظة الثمن. وعليه، بغرض التعليم، كان نسخ مُلخصات الحُجج، حاوية أهم أقوال المفكرين المهمين، أمرًا مفروغًا منه. منها مؤَلَّف بيتر لُمبَرد (1096-1160 تقريبًا) بعنوان (الكُتب الأربعة لأحكام لُمبَرد“Four Books of Sentences”) -مجموعة من المقاطع الكتابيَّة وأقوال للآباء الأوائل مرتبة موضوعيًا-الذي كان الأكثر أهمية إبان ذلك العصر. بالرغم من أن الكتاب في حد ذاته لم يكن تحليليًا منطقيًا في تكوينه، لكن كان أهم كتب اللاهوت الجداليَّة في قاعات جامعات العصور الوسطى. فحتى يُمكن أن يُعد المرء أستاذ للاهوت في جامعات العصور الوسطى، كان عليه أن يُلقي محاضرات من الكتاب المُقدَّس ومن كتاب أحكام لُمبَرد.

عِلم الكلام “الجداليَّ” في العصور الوسطى

كما أفردت أعلاه، أن الجداليَّة تشير إلى المنهج التعليمي الذي طُبِّقَ في قاعات جامعات العصور الوسطى. التي فيها كانت أي مناقشة لأي موضوع يقودها المُعلم وتُديرها وسائط السؤال الجدلي القابع في جوهر المنهج الجدالي.

كان السؤال الجدلي هو السؤال الذي يبدو أن الحُجج تخالفه. على سبيل المثال، هل الله موجود؟ وعليه تقوم الجدالات الداعمة لوجود الله، والنافية لوجوده، وعلى المُعلم في النهاية تقديم إجابة باتة من ثم يشرح أيما الجدالات أو الحُجج التي قد عُرضت الصواب والخطأ، أو ما قد أُسيء فهمه أو ما أُخفِقَ في مبتغاه. في الغالب (كما في كتاب الخُلاصة اللاهوتيَّة لتوما الإكويني) حمل الجدال من جانب منطقًا أصيلًا ودقيق التفاصيل، وفي الجانب الآخر لم يكن سوى مجرد اقتباس من حُجَّة محددة. كما قامت روابط بين الأسئلة وتكوين شامل للطريقة التي تنولت بها، التي بها نشأت حالة تراكميَّة للاهوت المسيحي، بدلًا من مجرد عبارات متناثرة لكل عقيدة على حدة.

كما ينبغي ملاحظة أن المفكرين الجداليين دائمًا ما كانوا يستعينون بالفلاسفة الوثنيين القدامى، وخاصة أرسطو، وكذلك أفلاطون وسيسرو. لكن لا ينبغي تفسير ذلك بأنه إشارة ضمنية بأن الفلسفة الوثنية قادت الفكر الجدالي أو طالبت بأن كل الجداليين يعتنقون نهجًا فوق-طبيعي واحدًا. فأولًا، لاهوتيو العصور الوسطى لم يكونوا مجرد معلمين بالأسئلة الجدليَّة، إذ كان تدريبهم يتطلب منهم إلقاء دروس في التفسير الكتابي. وثانيًا، كان عدم التوافق حيال الأمور فوق طبيعيَّة سمة السياق اللاهوتي للعصور الوسطى التي شهدت اختلافات بشأن أسئلة المذهب الاسمي nominalism والمذهب الواقعي realism، كما الحالة الفوق طبيعيَّة للوجود التي هي سند التنبؤ والتوقع خاصة بطريقة اللغة الموجهة نحو الله والمخلوقات. وثالثًا، بالرغم من نزعة التعميم السائدة وسط الأجيال اللاحقة (من لوثر وبعده) حيال التأثير غير المحمود للقوى الفوق طبيعيَّة الشريرة “الأرسطيَّة” في اللاهوت الجدالي، لم يكن شكلًا واحدًا من الفوق طبيعيَّة “الأرسطيَّة” المتداول في العصور الوسطى، إنما لا شيء سوى مجموعة واسعة التقاليد التفسيريَّة للمؤلفات الأرسطيَّة ونهج انتقائي من المناسب منها للاهوت المسيحي. فالفكرة القائلة بأن الجداليَّة تعادل الأرسطيَّة التي تعادل العقلانيَّة ليست راسخة تاريخيًا وجوهريًا. فما كانت الجداليَّة مكرسة له تمثل في فكرة أن الحقيقة متماسكة أبدًا، ووحدانيَّة فوق طبيعيًا-إنها أمر قد كان تأسيسي لمشروع الجامعة التي سعت إلى ربط عدد من المساقات معًا كجزء من واحد كامل.

ومن اللاهوتيين الجداليين في العصور الوسطى، الأبرز في زمانهم وللأجيال اللاحقة كان ألكسندر الهيلي “Alexander of Hales” (1185-1245 تقريبًا)، وبونَڤِنتيو “Bonaventure” (1221-1274)، وتوما الإكويني (1225-1274)، ودَنس سكوتس “Duns Scotus” (1266-1308 تقريبًا)، وليام الأُكهَمي “William of Ockham” (1287-1347 تقريبًا)، وجابرييل بييل “Gabriel Biel” (1420-1495 تقريبًا). ومن بينهم، أثبت الأكويني أنه الأكثر أهمية لصالح العقيدة الكاثوليكيَّة اللاحقة.

عصر النهضة والإصلاح البروتستانتي

مع الحركة الثقافيَّة الواسعة باسترجاع التعليم القديم في عصر النهضة وبزوغ أهمية الخطابة القديمة عوضًا عن التحليل المنطقي في تقديم تعليم حقيقي، أصبح منهج جداليَّة العصور الوسطى واللاهوت محط ازدراء واحتقار وسط هؤلاء الأُدباء الذي وصفوا لاحقُا بمعتنقي المذهب الإنساني. بالإضافة إلى نهوض الدراسات اللغويَّة وزيادة وفرة النصوص القديمة والأبائيَّة الكاملة قد عززت من مفهوم أن فكر العصور الوسطى، خاصة بشكله الجدالي، أعاد تقديم الرجعيَّة الظلاميَّة والتعجرف المتحذلق.

إن هذا القدح في الجداليَّة قد تعاظم ببزوغ الإصلاح البروتستانتي. فلوثر أبرز مثال على مأرب رفض الجدالية بنعتها جهرًا أنها “أرسطوية”، بعيدة كل البعد عن التفسير الكتابي، وممتزجة من جوهرها بلاهوت منحرف. في الواقع إن مذهب الإنسانيَّة والجداليَّة، بعيدًا عن تعارض بعضها بعضًا، كانا فئتا خطاب مختلفين تمامًا. فمذهب الإنسانية كان مشروعًا ثقافيًّا أدبيًّا في حين الجداليَّة كان منهجًا تعليمًا في قاعة دراسية. فمن اليسير على المرء أن يكون متبنيًا للمذهب الإنساني ولاهوتيًّا جداليًّا، كما توضح حالة ثيودور بيزا الذي كان شاعرًا ومجادلًا ومُحللًا منطقيًّا.

بروتستانتيَّة ما بعد الإصلاح

في أواخر القرنين السادس عشر والسابع عشر، تبنت البروتستانتيَّة المنهج الجدالي ليتسق مع استخدامها الخاص. وساعد على ذلك أربعة عوامل: أولًا، إن البروتستانتيَّة قد أسست نفسها داخل السياق الجامعي. مما عني أنها احتاجت إلى تطوير منهاج لاهوتي مرتبط بالمساقات الجامعيَّة الأخرى. وثانيًا، إن التكلَّف الجدلي للكاثوليكيَّة المنبعثة وتحدي الأخوة البولنديين السوسنيين المقاومين لكل ما هو فوق طبيعي عنى أن اللاهوتيين المصلحين كان عليهم مجاوبة الأسئلة عن الأمور الفوق طبيعيَّة ذاتها، معتمدين على المصادر الفوق طبيعية الموجودة سلفًا، لجداليَّة العصور الوسطى. بالنظر إلى أن اللاهوتيين البروتستانت عملوا داخل المتغيرات الفوق طبيعيَّة الواسعة ذاتها مثل لاهوتيو العصور الوسطى، كان حتميًا أن تسعى البروتستانتيَّة إلى تطوير لاهوتها والدفاع عنه، وفي الوقت ذاته إدماجه أيضًا مع إطار المعرفة المؤسَّس. وثالثًا، بتحول جامعات العصور الوسطى إلى البروتستانتيَّة، ظلت مكتباتهم تحفظ مؤلفات لاهوت العصور الوسطى المهمة التي اعتمد عليها أساتذة الجامعات. ورابعًا، كان المنهج الجدالي للحُجَّة بنية تعليم مؤثرة بارزة، ولم يعرقله أي تطوير عقائدي مُصلِح ليستمر على هذا النحو.

ونتيجة لذلك، فالمنهج الجدالي والكثير من المصطلحات التي سُكَّت في العصور الوسطى قد عاودا الظهور في العقيدة المُحافِظة البروتستانتيَّة في كلا من تيارَيها اللوثري والمُصلِح. فأبرز قامتها في اللوثرية تتمثل في يُوهان جرهارد “Johann Gerhard” (1582-1637)، آبرَهام كَلُڤيُس “Abraham Calovius” (1612-1686)، ويوهانِس آندرياس كوِنستيد “Johannes Andreas Quenstedt” (1617-1688)؛ ومن قامتها في المذهب المُصلِح كيسبرتُس ڤويتيُس ” Gisbertus Voetius” (1589-1676)، وجون أوين “John Owen” (1616-1683)، وفرنسِس تُورِّتِن “Francis Turretin” (1623-1687). حتى مع ذلك، واصلت البروتستانتيَّة في بعض الأحايين الاستعانة بخطابة عصر النهضة المناهضة للجداليَّة حتى في أثناء استخدامها للمنهج الجدالي؛ فصامويل رَثَرفورد، على سبيل المثال، كان يهجو “الجداليين ضيقي الأفق” في أثناء كتابته لعمل بعنوان “مناقشة جدالية بشأن العناية الإلهيَّة-Dispotatio scholastica de providentia”.

الجداليَّة في العصر الحديث

تم استبدال المنهج الجدالي في الجامعات بهجمة أنماط التفكير التنويري، لكنه لم يخفت تمامًا. ففي الكنيسة الكاثوليكية، حافظ النظام الدُمنيكَاني على ثباته اللاهوتي ومنهج توما الأكويني، بينما وسط الكنيسة البروتستانتيَّة، وضع المُصلِح المعمداني العَلَّامة البارز چون جيلّْ (1697-1771) لنظام جدالي مٌفَصَّل ومُحكَم بعنوان متن لِلَّاهوت العقائدي-A Body of Doctrinal Divinity” عام 1767. لكن نهضة الدراسات الكتابيَّة فرعًا منفصلًا من الدراسات اللاهوتيَّة واللاهوت الكتابي بقيادة أناس أمثال چون فيليب كَبلَر (1753-1826) ساعد على تقسيم المساق اللاهوتي والتقليل من القَصد الجدالي. حتى داخل الدوائر البروتستانتيَّة المحافظة، وعملت الريبة من اللاهوت النظامي والتشديد على الدراسات الكتابيَّة إلى تهميش النهج العقائدي التقليدي الذي كان المنهج الجدالي متسق معه للغاية.

لكن في السنوات الأخيرة، في كلًا من الكاثوليكيَّة والبروتستانتيَّة، بُعِثَ الاهتمام بالأمور فوق الطبيعيَّة التاريخيَّة، وبملائمة التقليد المسيحي التاريخي، وبدمج اللاهوت المسيحي في مفهوم أوسع للعالم، مما أسهموا جميعًا في إحداث نهضة في المنهج الجدالي. وقد بَيَّنَ المؤرخون العلاقة الإيجابية بين لاهوت العصور الوسطى وبروتستانتيَّة بعد الإصلاح، وانتهى المطاف بالمنهجيين بإبراز التقدير للنهج الشامل نحو اللاهوت التي جَسَّده نهج العصور الوسطى الجدالي. وعليه، من الكنيسة الكاثوليكيَّة، نجد أن مؤَلَّف رِجينَلد جرييجو-لَكرَنك (1877-1964)، واللاهوتين توماس وينَندي وتوماس جوزيف وايت، عملوا على إثارة الاهتمام مرة أخرى بالمنهج الجدالي واللاهوت. وفي البروتستانتيَّة، تعاون الحركة الكاثوليكيَّة المُصلِحة مع رجال أمثال سُكُت سوين ومايكل آلِن عمل على دفع البروتستانت للعودة إلى إعادة النظر الإيجابية للتكليف اللاهوتي كما تجسدت في دمج اللاهوت مع التفسير الكتابي والمسائل الفوق طبيعيَّة المتمثلة في جدليَّة العصور الوسطى.

شارك مع أصدقائك

كارل ترومان

حاصل على درجة الدكتوراة من جامعة أبردين، ويعمل كأستاذ الدراسات الكتابيّة في كليّة جروف سيتي للاهوت، بولاية بنسلفانيا الأمريكيّة.