في عالم تتزايد فيه النقاشات حول قضايا الهوية الجنسية والمثلية، يبرز سؤال جوهري أمام المسيحي: كيف ينبغي أن يتعامل مع هذه القضايا في ضوء الإيمان الكتابي؟ بين رفضٍ قاسٍ يتجاهل احتياج الخاطئ إلى النعمة، وتقبُّلٍ ليبراليٍّ يتغاضى عن خطورة الخطية، يقف المؤمن أحيانًا في حيرة: كيف يوائم بين المحبة والحق؟
هذا المقال يتناول موضوع “مثلية الروح والجسد” من منظور كتابي ولاهوتي، مبرزًا الفرق الجوهري بين رفض الخطية من جهة، وقبول الشخص الخاطئ من جهة أخرى. ويُظهر أن الصليب وحده هو العلاج الجذري، الذي يحرر الإنسان من عبودية الميول الساقطة – سواء كانت روحية أم جسدية – ويقوده إلى حرية الطاعة لله بحسب النعمة.
اولاً: مثلية الروح
دعا المسيح تلاميذه أن يحبوا الله من كل قلوبهم، وكل نفوسهم، وكل أفكارهم، وكل قدرتهم، وأن يحبوا قريبهم كنفسهم (مرقس 12: 30–31). فهاتان الوصيتان – المحبة لله والمحبة للقريب – هما أعظم الوصايا، وبهما يتعلّق الناموس كله والأنبياء.
وعندما سُئل يسوع: “ومن هو قريبي؟” أجاب بقصة السامري الصالح، حيث قدّم “الآخر”، أيّ الشخص المختلف عني تمامًا، نموذجًا للرحمة. فقبول الآخر، وخدمته بمحبة، هو سمة الصليب. ورسالة الإنجيل ليست لمن يعرف، بل لمن يجهل.
لكننا اليوم نعاني، في بعض مواقفنا، من اعوجاج (شذوذ) في الروح حين نعامل الشخص المثليّ كأنه منبوذ. وبهذه الفعلة، نحن نحكم على هذا الشخص بالهلاك، ونحرمه من انجيل الخلاص. العجيب أننا قد نقبل الهندوسيّ أو المُسلم، رغم أنه ينظر إلى الله نظرة مختلفة تمامًا، فلماذا نُغلق قلوبنا أمام إنسان ينظر إلى الجنس من زاوية مختلفة، وإن كانت مرفوضة كتابيًّا؟
إن أساس قبول الإنسان لأخيه الإنسان لا يجب أن يكون في ميوله أو اتجاهاته، بل في إنسانيته المشتركة. كلنا نخطئ، لكن خطايانا تختلف في الشكل، لا في الجوهر. فكما أن المثلي يعيش في ميول جنسية ساقطة، فكذلك كل واحد منا لديه ميل قلب شرير (إرميا 17: 9). وإن كان هو خاطئًا، فنحن أيضًا خطاة، نحتاج جميعًا إلى الخلاص.
حين نُعامل الشخص المثلي على أنه أقل إنسانية، نكون قد انحرفنا نحن عن طبيعة المسيح، وصرنا مثليين روحيًا – أي عكس طبيعة الإنجيل، التي فيها قَبِل المسيح الخطاة وجلس مع العشارين والزناة. هو نفسه الذي قال: «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى… لم آتِ لأدعو أبرارًا، بل خطاة إلى التوبة» (مرقس 2: 17).
فالمحبة الحقيقية لا تُبرّر الخطية، لكنها تفتح باب الرجاء للخطاة. ومع أن يسوع قَبِل الخطاة، إلا أنه لم يُقِرّ بخطيتهم. ولا أقصد هنا الفصل غير الكتابي بين الخطيّة والخاطئ، بل أُشير إلى حقيقة أن الله الذي يقبلنا ويُبررنا كما نحن دون أدنى استحقاق منّا، لكنه لا يتركنا كما نحن، بل يقدسنا ويجذبنا ويُشكّلنا بالنعمة لمُشابهة صورة المسيح (رومية 8: 30).
فغاية الإيمان ليست مجرد نيل الغفران، بل السعي نحو القداسة. وهذا ما أعلنه الرب يسوع للمرأة الزانية في يوحنا 8، حين قال لها: “ولا أنا أُدينك. اذهبي ولا تُخطئي أيضًا.” وهذا هو قلب الخبر السار القادر على تغيير قلب الخاطئ وتقديسه.
فإن نحن رفضنا الخاطئ بسبب خطيّته، سقطنا في فخّ التديُّن، وأنكرنا نعمة الإنجيل التي دعتنا جميعًا ونحن خطاة. وإن قبلنا الخاطئ بخطيّته، سقطنا في فخّ الليبرالية التي تُبيح النعمة وتنكر قوّة الإنجيل المُغيرة. فالإنجيل لا يبرر الخطيّة، ولا يرفض الخاطئ، بل هو دعوة إلهية تبدأ بالتبرير، وتستمر بالتقديس، وتنتهي بالتمجيد (رومية 8:30).
ثانياً: مثلية الجسد
لا يمكننا أن ننكر أن المثلية – بحسب الإعلان الكتابي – هي خطيّة، لا مجرّد حالة نفسية أو اضطراب سلوكي. فالخطيّة، في جوهرها، هي قصور وعجز لإنسان الساقط عن تحقيق قصد الله. والمثلية، كغيرها من الخطايا، خطية مدمرة ومقززة وتتجه للموت. إنها شكل من أشكال الانحراف عن مسار الحياة، وضد الطبيعة، وضد المحبة، وتشويه للصورة الأصلية التي خُلق عليها الإنسان.
وتكمن المشكلة في فهمنا لهذه القضية في أن كثيرًا من العلوم الإنسانية – خصوصًا علم النفس – تميل إلى توصيف المثلية بوصفها اضطرابًا نفسيًا أو حالةً بيولوجية، لا باعتبارها خطيّة. إذ يقوم هذا المنهج على إنكار الطبيعة الساقطة للإنسان، ويعزو الشر والخطيّة إلى تأثيرات البيئة والظروف، لا إلى أعماق القلب الفاسد، كما يعلّم الكتاب المقدس. فالخطيّة، في هذا التصور، ليست تعبيرًا عن فساد القلب، بل انعكاسٌ للإساءة والشر الذي تعرّض له الإنسان. لذلك، فإن هذا المنهج يُشخّص حالة الإنسان بناءً على ما يعانيه من ظروف خارجية، لا بحسب طبيعته الداخلية الساقطة – على عكس الكتاب المقدس، الذي يُرجِع أصل الخطيّة إلى فساد القلب، لا إلى تأثير الظروف. وهكذا، في حالة المثلية، يُفسّر علم النفس هذه الحالة غالبًا على أنها اضطراب في الهوية الجنسية ناتج عن خلل جيني أو عوامل بيئية. أما كلمة الله، فترى في الميل المثلي – سواء أُفرغ في فعل أم بقي مجرد رغبة – خطية في نظر الله.
ويحاول بعضهم التوفيق بين المفهوم الكتابي والمفهوم النفسي، مدّعين أن المثلية هي في آنٍ واحد مرض وخطيّة، في محاولة لتطويع النصوص الكتابية لتتماشى مع التحليل السيكولوجي المعاصر. لكن هذا الطرح يُعدّ مغالطة منطقية، لكن هذا الطرح يُعدّ مغالطة منطقية، لأن كلمة الله لا تُبرّر الخطية، بل تُدينها بوضوح، وتأمرنا برفضها والتوبة عنها. في المقابل، لا نجد أن الله يدين الإنسان بسبب مرضه، ولا يأمرنا بأن “لا نمرض”، لأن المرض ليس حالة قلبية روحية، ولكنه حالة جسدية ليس للإنسان يد فيها، خاصة عندما يكون وراثيًا. ولكننا نجد كلمة الله واضحة من جهة المثليّة الجنسيّة باعتبارها خطية:
“عالِمًا هذا: أنَّ النّاموسَ لَمْ يوضَعْ للبارِّ، بل للأثَمَةِ والمُتَمَرِّدينَ، للفُجّارِ والخُطاةِ، للدَّنِسينَ والمُستَبيحينَ، لقاتِلي الآباءِ وقاتِلي الأُمَّهاتِ، لقاتِلي النّاس، للزُّناةِ، لمُضاجِعي الذُّكورِ، لسارِقي النّاسِ، للكَذّابينَ، للحانِثينَ، وإنْ كانَ شَيءٌ آخَرُ يُقاوِمُ التَّعليمَ الصَّحيحَ،” (١تي ٦: ٩-١٠)
ضد مسار الحياة
خلق الله الإنسان ذكرًا وأنثى، ودعاهما أن يثمرا ويكثرا ويملأا الأرض (تكوين 1:27–28). ثم أسّس الزواج كعهد مقدّس، يقوم على اتحاد الرجل بامرأته، ليكون أساسًا لإنجاب النسل، وتكوين الأسرة، وبناء مجتمع مستقر يسير بحسب قصد الله الصالح. ولكن بعد السقوط، تشوّهت هذه العلاقة بفعل دخول الخطيّة إلى قلب الإنسان. ومنذ ذلك الحين، بدأ الله في وضع حدود ومحاذير تهدف إلى كبح جماح التعدّي، وتُمهّد الطريق لاسترداد الإنسان إلى الصورة الأصيلة التي خُلق لأجلها.
ولأن الإنسان حُكم عليه بالموت بسبب السقوط، صار الموت يعمل فيه من الداخل، لا كفناء جسدي فقط، بل كفساد روحي ونفسي شامل. فدخل التعدّي إلى طبيعته، واستقرت فيه الميول المنحرفة، ومنها الشذوذ، كتعبير عن ابتعاد الإنسان عن قصد الله في الخلق. إن مقاومة الإثمار والتكاثر، ورفض العلاقة العهدية بين الرجل والمرأة كما صمّمها الله، هو رفض لمسار الحياة الطبيعي الذي وضعه الخالق، وتمزيق للمجتمع ولترابطه. وهذا التعدّي يُعدّ خطيّة مباشرة ضدّ الله، لأنه هو مصدر الحياة، والمُشرّع للعلاقة التي تحفظ استمرارية الخليقة.
وفي الصليب، حمل المسيح خطايانا في جسده، ومات نيابةً عنا، لكي يُبطل سلطان التعدّي. لقد حمل آثامنا، وأسقامنا، وأوجاعنا، ليفتح لنا طريق الاتحاد به: فنموت معه عن الخطية، ونقوم معه من سقوطنا وضعفنا إلى حياة جديدة.
لقد استردّ المسيح الإنسان في الصليب، لا ليغفر له فقط، بل ليُعيد تشكيله على صورته، فيُشابه المسيح في كل شيء. ويُعيد الإنسان، من خلال إنسانية يسوع المسيح، الدخول في المسار الطبيعي للحياة كما قصده الله.
ومن الغريب أن المثلية تتخذ من ألوان قوس قزح شعارًا لها، بينما قوس قزح – بحسب الإعلان الكتابي – هو علامة عهد أقامه الله مع نوح ومع الخليقة كلها بعد الطوفان، والذي كان إشارة للخليقة الجديدة في المسيح يسوع. فكنيسة الله هي في علاقة زواج روحي معه (أفسس 5:25–32). ومن ثم، تُفهم الخطية على أنها خيانة روحية، أو “زنا روحي” (هوشع 1–3؛ حزقيال 16). وعليه، فإن المثلية تُشكّل تعبيرًا صارخًا عن خيانة الإنسان لعهد الله، ومقاومة لمسار الحياة والقداسة والإخلاص لعهد الرب.
ضد الطبيعة والتصميم الأصلي
لقد صُمِّم جسد الإنسان بحسب قصد الله، ليكون ملائمًا للتزاوج الطبيعي بين الرجل وامرأته. لذلك، أودع الله في جسد الإنسان ما يُناسب التزاوج الطبيعي، كما صمّم أعضائه بطريقة تُؤهله للتناسل. وما يخالف التزاوج الطبيعي يُعدّ انتهاكًا لتصميم الإنسان الأصلي، وإساءة إلى جسده، وبالتالي إلى نفسه.
وقد حفظ المسيح جسده من كل خطيّة، فعاش على الأرض بارًّا بلا لوم، لم يُسئ إلى جسده، ولا إلى أجساد الآخرين، بل استخدم جسده في محبة وقداسة. وكان يشفي المرضى، ويحرّر المقيّدين من إبليس، كعلامة لاسترداد مجتمع صحيّ غير مُشوّه.
ولا يستطيع الإنسان أن يحفظ جسده من الإساءة والانحراف، إلا بقوة المسيح وبشارته السارة. فكل إساءة يرتكبها الإنسان بحق نفسه لن تجد شفائها سوى في المسيح.
ضد المحبة الحقيقية
لقد فوجئتُ بأن شعار تقنين المثلية هو: “الحب ينتصر”! وهذا الشعار، حين يُستخدم لتبرير ما يُدينه الله، إنما يدلّ على أن الإنسان قد بلغ إحدى أعمق درجات السقوط. فالخطيّة لا يُحتفل بها، لا يمكن أن نُسمّي ما يُدينه الله “حبًا”. بل علينا أن نبكي على خطايانا، ونتوب عنها بصدق. فالمثلية، بحسب الإعلان الإلهي، لا تُعبّر عن محبة صادقة، بل تكشف عن نقصٍ في النفس، وتعدٍ على ملكوت وسيادة الله على حياة ذلك الإنسان. فيقول الرسول بولس:
أم لَستُمْ تعلَمونَ أنَّ الظّالِمينَ لا يَرِثونَ ملكوتَ اللهِ؟ لا تضِلّوا: لا زُناةٌ ولا عَبَدَةُ أوثانٍ ولا فاسِقونَ ولا مأبونونَ ولا مُضاجِعو ذُكورٍ (١كو٦: ٩).
كما ذكرنا سابقًا، فإن تصميم الإنسان الأصلي ومسار حياته الطبيعي، بحسب قصد الله، يقومان على حفظ الجسد في القداسة، والعيش ضمن إطار العلاقة الزوجية بين الرجل والمرأة، المبنية على عهد المحبة والعطاء المتبادل. وهذه المحبة لا تبقى حبيسة العلاقة بين الزوجين، بل تمتد وتتجسّد في نسل يأخذ من محبة والديه، وينمو ليمنح المحبة لنفسه وللآخرين.
فالأسرة، بحسب قصد الله، ترسي قواعد المحبة والقبول، والأبوّة، والأمومة، كأسمى تعبيرات المحبة الإنسانية. والشركة الزوجية القائمة على عهد مقدّس بين رجل وامرأة، هي الأساس الذي تنتقل من خلاله المحبة العهدية من جيل إلى جيل.
أما المثلية، فهي لا تُجسّد هذا الحب، بل تُناقضه. فتدمير المجتمعات، وتقويض مسار الحياة الطبيعي الذي قصده الله، لا ينبع من المحبة الحقيقية، بل من الأنانية والكبرياء.
الخاتمة
الخطية ليست مرضًا جينيًا، ولا خللًا جسديًا، بل هي اتجاه قلبي، وميل داخلي، ورغبة عميقة نحو الشر. والمثلية، خطية، ولكن لكل خطية غفران عند المسيح، فهو المخلص العظيم القادر على تغيير القلوب واسترداد النفوس.
فالخطية تبدأ من استحسان وتفضيل ينبعان من عمق رغبات وميول القلب الفاسد. ولهذا، لا يمكن التغلب عليها بمجرد ضبط السلوك أو الجهد الجسدي، بل يلزم أن يُغيَّر اتجاه القلب، من محبة الخطية إلى محبة الفادي. وهذا التغيير لا يتم إلا بعمل النعمة. ومعجزة النعمة هي بناء جديد لإرادة الإنسان الساقطة، وخلق قلب جديد يشتهي البر، ويبغض الشر، ويشتاق إلى المجد الذي في المسيح.
فإنْ كانَ أحَدٌ في المسيحِ فهو خليقةٌ جديدةٌ: الأشياءُ العتيقةُ قد مَضَتْ، هوذا الكُلُّ قد صارَ جديدًا (٢ كورنثوس ٥: ١٧).