“عبارة سولا سكريبتورا هي باللغة اللاتينية هي عبارة مركبة من مقطعين: سولا تعني “وحده”، وكلمة scriptura تعني “الكتاب المقدس”. أما عن المعنى اللاهوتي لعبارة ” الكتاب المقدس وحده” Sola scriptura، فيُقصد به أن الكتاب المقدس وحده هو المعيار الأسمى أو الحاكم لمعرفة كل ما يتعلق بمشورة الله المتعلقة بالخلاص، وكل ما يتعلق بالإيمان والسلوك المسيحيين كما يحق لإنجيل المسيح، ولمجده الله وحده. الكتاب المقدس وحده والكتاب المقدس كله معصوم وصحيح، وهو موثوق ويكفي للخلاص وللحياة والسلوك المسيحي: “كُلُّ ٱلْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ ٱللّٰهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَٱلتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَٱلتَّأْدِيبِ ٱلَّذِي فِي ٱلْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنـْسَانُ ٱللّٰهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ.” (تيموثاوس الثانية 3: 16).
وتاريخيًا، تذخر إقرارات الإيمان الإنجيلي المُصلحة بشهادة واضحة لمبدأ “الكتاب المقدس وحده.” كمثال نذكر: إقرار إيمان وستمنستر ١٦٤٦م في الفصل الأول والمقطع السادس، وإقرار الإيمان المعمداني في لندن ١٦٨٩م في الفصل الأول والمقطع الأول.
علاقة الكتاب المقدس بالتقليد الكنسي وتعاليم الآباء
لم يرفض المُصلحون تعاليم الكنيسة ولا التقليد ولا قوانين الإيمان: كمجمع نيقية والقسطنطينية وأفسس وخلقيدونية، وكتاباتهم تشهد على ذلك. لكنهم اقتنعوا أن الكتاب المقدس هو المعيار الحاكم لكل المعايير الأخرى، والذي له الكلمة الأخيرة للفصل بينها حال اختلافها باعتباره المصدر الوحيد المعصوم. هذا وإن كان للمصادر الأخرى أهميتها (١تسالونيكي ١٦:٣). وذلك على عكس تعليم الكنيسة التقليدية الذي يضع الكتاب المقدس والتقليد الكنسي على قدم المساواة. أو الذي ينظر للتقليد الكنسي باعتباره السلطة المعصومة لتفسير الكتاب المقدس. في ذلك يقول مارتن لوثر:
“ما لم أقتنع بشهادة الكتاب المقدس أو بالمنطق الواضح – لأنني لا أثق ببابا روما أو بالمجالس الكنسية وحدها، فمن المعروف أنهم كثيرًا ما أخطأوا أو ناقضوا أنفسهم – فأنا ملتزم بالنصوص الكتابية وضميري أسير لكلمة الله. لا أستطيع أن أتراجع ولن أتراجع عن أي شيء، لأنه ليس من الآمن ولا من الصواتب مخالفة الضمير. ليساعدني الله. آمين!” [1]
توضيح: يفترض التعريف الأساسي والتوضيحات اللاحقة وضوح الكتاب المقدس، وكفايته، وعصمته.
وضوح الكتاب المُقدس
ليس المقصود بوضوح الكتاب المقدس أنه يشرح نفسه بعيدًا عن عمل الروح القدس وإنارته لعقل وروح المؤمنين. إذ أن… “ٱلْإِنـْسَانَ ٱلطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ ٱللّٰهِ لأَنـَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنـَّهُ إِنـَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً. وَأَمَّا ٱلرُّوحِيُّ فَيَحْكُمُ فِي كُلِّ شَيْئٍ، وَهُوَ لاَ يُحْكَمُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ. لأَنـَّهُ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ فَيُعَلِّمَهُ؟ وَأَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ ٱلْمَسِيحِ.” (كورنثوس الأولى ١٤:٢-١٦).
كذلك، ليس المقصود بوضوح الكتاب المقدس، عدم حاجة الكنيسة لعمل الرعاة المُعلمين أو شراح الكتاب المقدس. مع ذلك، فإن المضامين الأساسية للكتاب المقدس والضرورية للخلاص، والمتعلقة بالإيمان، والأعمال الصالحة، واضحة. النصوص عسرة الفهم تتضح في ضوء النصوص الأكثير وضوحًا في الكتاب المقدس كله. إذ أن الكتاب المقدس هو هو أفضل مفسر للكتاب المقدس. بكلمات إقرار إيمان وستمنستر:
ليست كل الأمور في الكتاب المقدس بسيطة على السواء في حد ذاتها، وليست على حد سواء واضحة للجميع: ولكن تلك الأمور التي من الضروري معرفتها، والإيمان بها، والانتباه إليها لأجل الخلاص، هي مقدمة بوضوح وصريحة في موضع ما أو آخر في الكتاب المقدس، حيث أنه ليس فقط المتعلمين، بل أيضًا البسطاء يمكنهم، بالاستخدام المناسب للوسائط العادّية، أن يصلوا لفهم كاف لها.
وجدير بالذكر أن أيًا من المٌصلحين لم يشجع النزعة الفردية المُدمرة للحياة الروحية التي يحيها – للأسف – بعض المؤمنين في عالمنا المسيحي المُعاصر. والتي من شأنها أن تُعلي من شأن التفسير الفردي على حساب عمل الروح القدس في الجماعة. وهنا نُذكر أن المُصلحين لم يكونوا أبدًا كيان دخيل على الكنيسة فقد كانوا رعاة معلمين ومرتسمين، ضالعين في العلوم اللاهوتية والكتابية، واللغات الأصلية التي دون بها الوحي المقدس. وأي تقييم تاريخي منصف لحركة الإصلاح البروتستانتي لا يصح أن ينكر هذا.
ليس من حق الكنيسة منع المؤمنين من قراءة الكتاب المقدس، وترجمته وتفسيره بحجة غموضه وصعوبة فهمه. الاحتكام لاستحالة الفهم دون مفسر كما في قصة الخصي الحبشي وفيلبس (أعمال الرسل٢٦:٨-٣٥) يتناسى كيف أن نصوص العهد القديم تم تفسيرها بواسطة التعليم الرسول في نصوص العهد الجديد. نعم، تحتاج الكنيسة لدور المُعلمين والرعاة لأجل تكميل القديسين في الحق وبنيان جسد المسيح، ولوحدانية الإيمان (أفسس ١١:٤-١٥). لكن وضوح الكتاب المقدس ضرورة لكي يتمكن شعب الله من امتحان التفسير الكتابي. ولنا في أهل بيرية الذين كانوا يفحصون الكتب كل يوم ليتحققوا من كرازة بولس الرسول واتساقها مع كتابات العهد القديم خير قدوة (أعمال الرسل ١١:١٧).
كفاية الكتاب المُقدس
كفاية الكتاب المقدس تهدف لرفض أي ادعاء من الكنيسة يجعلها تُلزم المؤمنين باتباع ما لم يدون صراحةً في الكتاب المقدس أو يمكن الاستدلال عليه جيدًا بالاستنتاج الواضح فيما يتعلق بأمور الخلاص والإيمان والطاعة (٢تيموثاوس ١٦:٣). وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ” (بطرس الثانية ١٩:١).
اعتراضان على مبدأ سولا سكربتورا
الاعتراض الأول: كيف يكون للكتاب المقدس سلطة أعلى من سلطة الكنيسة، إن كانت الكنيسة هي من تولت تحديد الأسفار القانونية التي شكلت “الكتاب المقدس”؟
أوضحنا في الجزء التباين بين موقف الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وموقف المصلحين. علم المُصلحون بسمو سلطة الكتاب المقدس فوق أي سلطة للتقليد الكنسي، في مقابل إيمان الكنيسة الكاثوليكية الرومانية – والذي لم يتغير حتى هذه اللحظة – باعتبار سلطة الكنيسة مساوية لسلطة الكتاب المقدس، لعدة اعتبارات أحدها هو أن الكنيسة هي من تولت تحديد الأسفار القانونية التي شكلت “الكتاب المقدس”
وللرد نقول أن الكتاب المقدس يعلمنا أن الكنيسة ولدت من رحم الكلمة المقدسة: “شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ ٱلْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ.” (رسالة يعقوب ١٨:١). وبالتالي فإن التوصيف الصحيح لدور الكنيسة في التعرف على الأسفار المقدسة القانونية هو مشابه للكيفية التي يتعرف بها الطفل على ثدي أمه ليحصل منه على غذائه. هذا الأمر لا يعطي للكنيسة سلطة أعلى من الكتاب المقدس.
يقول اللاهوتي واين جرودم أن تعرف الكنيسة الأولى على الأسفار القانونية وإقصاء الأسفار المنحولة والمزيفة يشابه لدور موظف البنك الذي له القدرة على التمييز بين العملة الأصلية والمزيفة. فليس له سلطة إنتاج العملات الأصلية، لكنه فقط يتعرف عليها.
الاعتراض الثاني: يفترض مبدأ “الكتاب المقدس وحده” عصمة الكتاب المقدس، وهو الأمر الذي يعتبره البعض بمثابة عبادة للكتاب المقدس.
وللرد نقول أن ذلك الاعتراض يعد مأزق مفتعل إذ يفترض أن علينا الاختيار بين عبادتنا لله وحده دون الإيمان بعصمة كلمته. إن أي تشكيك في كلمة الله المعصومة وسلطانها الذي يسمو على أي سلطان آخر هو إهانة لله ذاته. ويذكرنا كذلك بصوت الحية في جنة عدن: “أَحَقًّا قَالَ ٱللّٰهُ” (تكوين ١:٣)، إذ أن المنطق والتوجه واحد، وهو دق إسفين بين الله وبين كلمته، لفتح المجال أمام تقييم كلمة الله في ضوء منطق “أعوج” ينحرف بالفكر للتعدي على الله من خلال التعدي على كلمته. في النهاية يكون هذا المنطق الأعوج هو السلطة الأسمى من الله وكلمته.
في صلاته الكهنوتية في يوحنا ١٧، اعتبر الرب يسوع المسيح الذي هو الحق المتأنس: “أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ…” (يوحنا ٦:١٤) أن كلام الرب هو أيضًا حق: “قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ.” (يوحنا ١٧:١٧).
كلمة ختامية
لا يمكن أن ندعي انتمائنا للفكر الإنجيلي المُصلح إن كان إيماننا بمبدأ “الكتاب المقدس وحده” مجرد موافقة على فكرة مجردة لا وجود لها في واقع الكنيسة. فالرسول بولس في رسالته لأهل كولوسي يوصي بأن تسكن فينا كلمة المسيح بغني، ويشرح كيف يحب أن تُعلن “كلمة المسيح” عن نفسها في عبادة الكنيسة: في صلاتها وتسبيحها، ترنيمها وعظاتها: “لِتَسْكُنْ فِيكُمْ كَلِمَةُ ٱلْمَسِيحِ بِغِنىً، وَأَنـْتُمْ بِكُلِّ حِكْمَةٍ مُعَلِّمُونَ وَمُنْذِرُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، بِنِعْمَةٍ، مُتَرَنِّمِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ.” (كولوسي ١٦:٣-١٧).
فلنصلي كي تعود كنائسنا لإيمانها بسلطة الكتاب المقدس وحده في تشكيل كل نواحي العبادة الكنيسة. آمين.
[1] Charles Beard, Martin Luther and the Reformation in Germany until the close of the Diet of Worms (England: K. Paul, 1889), 441.