العبادة والكلمة

كلمة الله ذات أهمية قصوى في حياة المؤمن بالمسيح، حيث تضم إعلان الله عن شخصه وعن إرادته وطرقه. وتحتاج الكلمة منّا إلى استغراق في قراءتها مرة بعد مرة واستيعابها وامتصاصها في الفكر والقلب، وتأمُّلها والتصرُّف حسبها. وهو مستودع مقدس وثمين للحق الروحي والإرشاد والتشجيع. ولا يوجد أي جانب من حياة الكنيسة أو الفرد المؤمن لا ينبغي أن يربط بمرساة كتابية ويُملأ بمادة كتابية (٢ تيموثاوس ٣: ١٦). والكتاب المقدّس هو بالفعل سراج لرجلي ونور لسبيلي (مزمور ١١٩: ١٠٥).

عندما يجتمع المؤمنون من أجل العبادة الجماعية، فإن من الطبيعي أن تلعب كلمة الله دوراً مركزياً ومهيمناً. فبما أن العبادة تتضمن تركيز أفكارنا وقلوبنا وأصواتنا على تسبيح الله، استجابة لإعلانه عن ذاته ولمبادرته إلى تخليصنا في نعمته، فإننا بطبيعة الحال نحتاج إلى نظرة الله التي يقدّمها الكتاب المقدس إذا أردنا لعبادتنا أن تكون “بالحق” (يوحنا ٤: ٢٣-٢٤). ولا يمكن أن تؤدّي عبادتنا إلى إعطاء الله التكريم الذي يستحقه إلا إذا كانت تعكس بدقة ما يكشفه عن نفسه في كلمته.

يشرح جون ستوت الأهمية الجوهرية للكلمة في العبادة على هذا النحو: “أن نعبد الله يعني أن “نفتخر باسمه القدوس” (مزمور ١٠٥: ٣)، أي أن نطفر جدلاً باستباء بالله وبطبيعته الأخلاقية المعلنة. لكن قبل أن نفتخر باسم الله، يتوجب علينا أن نعرف هذا الاسم. ومن هنا تأتي ضرورة قراءة كلمة الله والوعظ منها في العبادة الجماعية، وضرورة تأمُّل كلمة الله في العبادة الشخصية. ليست هذه الأمور تطفُّلاً على العبادة. لكنها تشكل الأساس الضروري لها. ولا بد من أن يتكلم الله إلينا قبل أن تكون لنا حرية التكلم إليه. يجب أن يكشف عن هويته قبل أن يكون بمقدورنا أن نعطيه أنفسنا في عبادة مقبولة. وعبادة الله هي دائماً استجابة لكلمة الله، وتوجُّه كلمة الله وتغني عبادتنا بشكل عجيب.

غالباً ما تُفهم العبادة كحوار إعلان واستجابة بين الله وشعبه.[1] فإن كان هذا صحيحاً، لهذا ينبغي أن يكون كلا طرفي المعادلة حاضراً.[2]

هذا كله جميل حتى الآن. لكن يوجد اليوم بعض من عدم التوازن في فهم الكنائس لدور كلمة الله في العبادة. وسنناقش أمرين يشوبهما عدم التوازن.

الكلمة “مقابل” العبادة؟: (العلاقة بين الوعظ والتسبيح الجماعي)

توجد كنائس كثيرة يدور فيها صراع مستمر حول مسألة العلاقة الملائمة بين الوعظ و “العبادة” (وهذه ثنائية غير دقيقة ومؤسفة) في اجتماعات الكنيسة.

“الأمور التمهيدية” والوعظ. أوضح جيمس أ. وايت وغيره من المؤرخين الكنسيين أن كنائس أمريكية كثيرة تنتمي إلى التقليد الكنسي البروتستانتي الحر يمكن أن تتتبع ممارساتها الحالية في العبادة إلى الحركة الانتعاشية في القرن التاسع عشر حيث كانت الموسيقى والأنشطة الأخرى تشكّل (بل تدعى أيضاً (أموراً تمهيدية تهدف إلى أن تكون وسيلة “لتحمية” الجمهور من أجل الاستعداد “للحدث الرئيسي”، ألا وهو رسالة العظة. وكما يبيّن وايت، استمر هذا النمط الذي استُخدم على نطاق واسع في الاجتماعات التبشيرية في اجتماعات العبادة. وإنه لمن المحزن أن هذه النظرة إلى اجتماع العبادة ما زالت قائمة حتى هذا اليوم. وحتى في تلك الكنائس التي صار فيها التعليم الكتابي يأخذ أولوية على الوعظ ذي الأسلوب الإنجيلي، فإن تعليم الكتاب المقدس هو الذي يُنظر إليه بصفته القصد الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، للاجتماع.[3] ولقد شرحتُ في مقالة أخرى كيف أن هذه نظرة ضيقة يمكن أن تسلب اجتماعات الخدمة الجماعية الغنى الذي يستطيع يسوع المسيح أن يأتي به في ملء دوره التوسُّطي، حيث يتوسُّط (يوصل) الحق الإلهي إلى الإنسان، ويتوسط استجابة شعب الله بالعبادة بصفته الكاهن الأعلى (عبرانيين ١٢: ٧؛ ٤: ١٤-١٥؛ ٥: ٥؛ ٧: ٢٦-٢٨؛ ٨: ١-٢؛ ٩: ١١-١٢؛ ١٠: ١٩-٢٢).[4]

ولا شك أنه يوجد أيضاً قدر كبير من التشويش المتعلق بدلالات الألفاظ في هذا الجدل. يجب علينا بادئ ذي بدء أن نفهم العبادة في أوسع معنى لها في العهد الجديد بصفتها أمراً يتخلّل الحياة كلها، استجابة كلية (غير مجزأة) للمؤمن لعمل نعمة الله في الحياة (رومية ١٢: ١؛ يوحنا ٤: ٢١-٢٣)؛ فكل حياتنا يجب أن نحياها لمجد الله، وكل أنشطتنا يجب أن تتم من أجل مجد الله. (١ كورنثوس ١٠: ٣١) وباسم الرب يسوع (كولوسي ٣: ١٧). وفي واقع الأمر ينبغي يكون للخدمة المسيحية كلها (بما في ذلك الوعظ) هدف نهائي هو تحقيق المأمورية العظمى (مرقس ١٢: ٢٨-٣٠)، واستشارة عبادة أكثر وأفضل من الأشخاص الذين توجَّه الخدمة إليهم. فالعبادة وحدها غاية في حد ذاتها، غاية نهائية.[5] ربما كان “التسبيح الجماعي” تعبيراً أكثر ملاءمة للاستخدام للإشارة إلى تلك الأجزاء غير الوعظية من الخدمة التي يشترك فيها الأعضاء (حيث إن كلمة “عبادة” هي شمولية، وحيث إن كل ما يحدث في الاجتماع، بما في ذلك الوعظ يمكن أن تطلق عليه تسمية عبادة[6]).

يتبنى بعض الرعاة ثنائية زائفة بين دوري الوعظ والتسبيح الجماعي. وهم يرون أن الجزء الأول يتناول كلمة الله في حين يتألف الجزء الثاني من الترنيم وأنشطة مماثلة. وبنفس الطريقة، يُفترض أحياناً في المناقشات حول صيغة الإعلان والاستجابة التي تميّز العبادة أنه لا يحدث أي توصيل ذي معنى للإعلان إلاّ في العظة، وفي هذا تضمين واضح أن كل شيء آخر في الخدمة هو بالضرورة استجابة.[7] ويُنظر إلى تلك الاستجابة على أنها ذات طبيعة أدنى من الإعلان،[8] والفكرة وراء هذا الرأي هو أن الإعلان يأتي من الله، في حين أن الاستجابة تأتي من الإنسان.

لكن في واقع الأمر يمكن (بل يفترض) أن يتم إيصال كلمة الله (بشكل صريح وضمني) على مدى الخدمة، في حوار بين أخذ ورَدّ بين كلمة الله واستجابة الشعب لها، وينبغي أن يكون هنالك تبادل مستمر أثناء الخدمة كلها. فكما يقول بروس ليفبلاد:

لا يسمع الناس الله يتكلم بصوت مسموع صباح يوم الأحد. فقد عيَّن الله ناطقين باسمه. ولقد قام منذ زمن بعيد بتعيين أشخاص، لا لكي يخبروا الناس بما يفكرون هم، وإنما بما يفكّر به هو. وهذا هو ما يجعلنا أهل الكتاب المقدس. وهذا هو ما يستوجب أن تجعل الكلمة تُدمج في كل خدمة العبادة، لا أثناء عمل الوعظ فقط. وتعتمد المحادثة على كلمة الله عند كل نقطة يتحدث فيها الله في الحوار… فليس الله محصوراً بوسيلة من وسائل التوصيل.[9]

وبالإضافة إلى ذلك، ليست الاستجابة جزءاً أدنى من العبادة أو قابلاً للإهمال. صحيح أن إعلان الله شرط مسبق وأساسي لأية استجابة. لكن الحقيقة هي أنه بما أن المسيح يتوسط كلاًّ من الإيمان والاستجابة،[10] فإن لكليهما قيمة هائلة. فخدمة يسوع الكهنوتية في عبادتنا تحكم وترشد كلا الجانبين وتعطي لهما أهمية عظيمة (ومكمِّلة). وعلى الرغم من النقاط المذكورة سابقاً (أو بسبب الجهل بها)، ما زال رعاة كثيرون يشعرون بأن رفع أهمية “العبادة” (أو التسبيح الجماعي) يعني بالضرورة نزولاً بأهمية كلمة الله والوعظ. الوعظ يخدم العبادة. الوعظ جزء لا يتجزأ من الجانب الإعلاني لحوار العبادة. فالواعظ (كما هو الحال بالنسبة لآخرين في الاجتماع الذين يوصلون الحق الإلهي للشعب) يمثّل الله في هذا الحوار.[11] فهو يلعب دوراً لاهوتياً في تمثيل الله الذي يدعو إلى العبادة.”[12]

ويصرّ جون ستوت على الصلة التي لا تنفصم بين الوعظ والعبادة:

تنتمي العبادة والوعظ أحدهما إلى الآخر بشكل لا فكاك منه. فكل عبادة هي استجابة عاقلة ومُحِبة لإعلان الله، لأنها التمجيد لاسمه. ولهذا فإن العبادة المقبولة مستحيلة دون وعظ. فالوعظ هو التعريف باسم الرب، والعبادة هي تسبيح اسم الرب الذي صار معروفاً. فقراءة الكلمة والوعظ منها أبعد ما يكونان تطفّلاً على العبادة أو غريبين عنها، إذ لا غنى عنهما للعبادة. ولا يمكن فصل أحد هذين العنصرين عن الآخر. بل إن الفصل غير الطبيعي بينهما هو الذي يتسبب في المستوى المنخفض لقدر كبير من العبادة المعاصرة. وعبادتنا ذات مستوى متدنٍّ لأن معرفتنا بالله متدنّية، ومعرفتنا بالله متدنية لأن وعظنا متدنٍّ. لكن عندما يتم الإسهاب في تقديم كلمة الله وتفسيرها في ملئها، ويبدأ الأعضاء برؤية لمحات من مجد الله الحي، فإنهم ينحنون في خشوع مهيب ودهشة فرِحة أمام عرشه.[13]

ولكي تمتلئ عبادتنا بالافتتان بالله وعجبه وروعته، فإنه يتوجب التعبير عن هذه الأمور من خلال قراءة وتفسير أعمال الله العظيمة وطرقه كما ترويها لنا كلمة الله. ولهذا فإن جون بايبر يشير إلى الوعظ بصفته “تعظيماً تفسيرياً.”[14] وينبغي أن يعبّر عن الدقة والعجب لعظمة مجد الله لكي نسلّم كل ظروفنا وهمومنا وعبادتنا “يد الله القوية”. تقرّ العبادة بأن الله آب كلّيّ القدرة ومُحِب ويمجّد نفسه بإشباع شعبه[15].

“لم يكن التسبيح الذي كان يختم به المتأثرون بأشخاص مثل كريسوستم وأوغسطين وكالفن عظاتهم مجرد شكليات. فقد كان هذا يشير إلى نيّة العظة نفسها وهدف جذب الآخرين إلى تسبيح الله بسبب ما تمّ إعلانه في كلمة الله المقروءة وفي العظة.”[16]

ومن هنا فإن الوعظ أمر جوهري في أهميته لعبادة مشبَعة بالله ومُكرِمة له.[17] والعبادة هي غاية وهدف العظة، كما هو الأمر بالنسبة لكل الاجتماع. ولهذا يتحدث بايبر عن الوعظ بصفته “تعظيماً تفسيرياً” – والتفسير التحقيقي الأمين ليس هو الغاية، بل هو وسيلة لتحقيق هدف استجابة عبادة (“تعظيم”) لله الذي يُرى على هذا النحو. يتوجب أن يعظ كعمل عبادة (لأنك في نهاية الأمر “لا تستطيع أن توصي بما لا تُعِزّه.”[18] وينبغي عليه أن يعظ وفي ذهنه هدف توليد الرغبة في العبادة في الآخرين.

يصوغ فيرن بويثرس هذه الفكرة على هذا النحو: “نرفض أن نقبل ثنائية بسيطة بين التسبيح والوعظ بصفتها أمراً كتابياً. وبصراحة نحن لا نفهم كيف يمكن لأي واعظ للإنجيل ذي قلب أن يمتنع عن تسبيح الله كجزء من وعظه.”[19]

ويقف جون بايبر مع هذا الأمر: “إن الموضوع الرئيسي الذي يتوجب أن يهيمن على كل وعظ ويتخلّله دون هوادة هو الله نفسه مع فهم أن هذا سيزرع الرغبة في الآخرين في عبادته.”[20] إذ يهدف الوعظ إلى أن يضرم في الرعية الرغبة في عبادة تعظّم الله… وإرسالية (هدف الوعظ هي إشباع النفس، وعبادة تعظم لله.”[21]

الكلمة المهملة في العبادة: (إهمال غير مقصود في كنائس مؤمنة بالكتاب المقدس)

أبدى بعضهم ملاحظة مذهلة كيف أن معظم الكنائس الإنجيلية لا تستخدم إلاّ القليل من كلمة الله في معظم اجتماعات العبادة فيها. والسخرية الأدبية بطبيعة الحال هي أن أولئك الذين يزعمون بقوة أنهم مؤسّسون على الكتاب المقدس لا يستخدمون إلاّ قليلاً جداً منه في عبادتهم (يفترض أن تكون ٢ تيموثاوس ٣: ١٥ مسوِّغاً كافياً لاستخدامه!) ومع أن مسار العظة يأخذ دوراً بارزاً في اجتماعاتنا، إلا أنه حتى الوعظ يتألف في معظم الأحيان من الحديث عن كلمة الله (وغالباً ما يحدث هذا بعد قراءة آيات قليلة فقط). ولا بدّ من القول إن الكنائس التي تتبع طقوساً (بما في ذلك الكنائس اللوثرية والأسقفية والكاثوليكية الغربية) تستخدم على الأرجح كلمة الله في اجتماعاتها (لأن كلمة الله مبنيّة في طقوسها) عشرة أضعاف معظم الكنائس المؤمنة بالكتاب المقدّس، الكنائس الإنجيلية الحرة!

ففي كثير جدّاً من هذه الكنائس يتألف كل الجزء الأول من اجتماع الخدمة من موسيقى وترانيم مع أنها ترانيم عن الله وترانيم تعكس الحق الكتابي (وهو أدنى متطلب للترانيم للعبادة)… لكن لا تتم قراءة كلمة الله. وقد رأيت هذا غالباً في اجتماعات تقليدية ومعاصرة: فالمسألة شائعة. ويبدو أن من المهم جداً للناس في اجتماع ما، سواء كانوا مؤمنين أم غير مؤمنين، أن يسمعوا ويقرأوا آيات كتابية (سواء كانت مطبوعة على نشرة أم معروضة على شاشة) مختارة لكي تعطي إشارة واضحة مفادها: “جئنا لكي نعبد الله. والكلمة هي قناة لمعرفتنا عن الله، ولهذا فإنها الأساس لكل ما نفعله هنا ولفهمنا سبب قدومنا للاجتماع معاً.” وبدون تصريح كهذا، إذا شرعنا في الترنيم دون وضع سياق للإعلان، فقد يفترض العابدون خطأً (بشكل واعٍ أو غير واعٍ) أننا ندعو أنفسنا إلى حضرة الله، في حين أن واقع الأمر هو أننا لا نمثُل أمامه مطلقاً إلاّ بفضل دعوته (وفتحه الطريق أمامنا من خلال عمل المسيح).

زرت مؤخراً كنيسة تألفت فيها الخدمة من خمسة أجراء موصوفة بشكل واضح في النشرة، وبدأ كل جزء بقراءة من الكتاب المقدس تمتهد للفقرة التالية. ولم يكن هنالك أي شك أن هذه الكنيسة فهمت الدور المركزي لكلمة الله في عبادتها! يقول وايت: “تتمثل الخطوة الأولى نحو جعل عبادتنا أكثر كتابيةً في إعطاء قراءة كلمة الله دوراً مركزياً في العبادة المسيحية في أية مناسبة.”[22]

مهما تحدثنا عن أهمية كلمة الله في العبادة، فإننا لا نبالغ. ونحن نجد في كلمة الله متطلبات العبادة وشروطها المسبقة والدعوة إلى العبادة، والسلطة للعبادة، ومادة العبادة، وتنظيم العبادة، ورسالة العبادة، والعناية التي يجب أن تؤدّي إليها العبادة. فهي ليست أمراً عفا عليه الزمن، أو موضة قديمة. وإنه لأمر غير قابل للمساومة أن علينا أن نُدخل دعوات إلى العبادة، وقراءات من كلمة الله، إلخ، في اجتماعاتنا. لهذا ينبغي أن نكون خلاّقين قدر الإمكان في دمج كلمة الله في عبادتنا (سواء عن طريق (آيات مطبوعة على ملصقات أو معروضة على شاشة مع دخول الأعضاء إلى قاعات العبادة، أو مدوّنة على غلاف النشرة، أو آيات يتلوها أطفال، أو ترانيم تتضمن آيات كتابية)، لكن يجب علينا أن نتأكد أن أولية الكلمة في العبادة واضحة عبر الاجتماع كله – لا أثناء العظة فقط.

“تُقرأ كلمة الله، لا كنص عظة فحسب، ولكن أيضاً من أجل ما تخاطب به كلمة الله الرعية المجتمعة. وغالباً ما يُبنى الوعظ على هذا، لكن كلمة الله تُقرأ من أجل ذاتها ككلمة الله… ينبغي أن نوصل للجميع حقيقة أن الأهمية المركزية للكتاب المقدس تنبع من وظائفه كإعلان لكلمة الله (المسيح) للرعيّة المجتمعة.”[23]

أوليّة الكلمة في العبادة:

الكلمة والمتطلبات المسبقة للعبادة. تساعد كلمة الله في الإتيان بنا إلى نقطة يكون عندها الاقتراب إلى الله أمراً ممكناً. فهي تعلّمنا أننا أموات في ذنوبنا وخطايانا (أفسس ٢: ١). وهي تعلن أن الله قد دبّر الفداء والغفران والحياة الأبدية من خلال عمل يسوع المسيح. وهي تقدّم الفرصة للدخول بالإيمان في علاقة سليمة مع الآب – لكي نمجده كإله (رومية ١: ٢١).

يقدّم “غسل الماء بالكلمة” (أفسس ٥: ٢٦) النظافة الروحية التي يشترطها الله لكي نكون قادرين على الدخول بثقة إلى حضرته (مزمور ١٥: ١-٢؛ عبرانيين ١٠: ١٩-٢٢؛ ١٢: ١٨-٢٤).

الكلمة بصفتها الداعية إلى العبادة. لقد فعل الله كل شيء بجعل اقترابنا إليه في العبادة أمراً ممكناً. يزخر كتاب العبادة في العهد القديم، ألا وهو سفر المزامير، بدعوات إلى تسبيح الرب، “سبحوا الرب” (بالعبرية، هللّويا). فقد دعا أصحاب المزامير شعب الله قديماً، ويدعوننا اليوم كمؤمنين: “ادْخُلُوا إِلَى حَضْرَتِهِ بِتَرَنُّمٍ”، أي بترنيم مشوب بالفرح (مزمور ١٠٠: ٢). وكتاب العبادة في العهد الجديد، أي الرسالة إلى العبرانيين، تركّز كلها على إمكانية دخولنا إلى حضرة الله من خلال العمل الكفّاري والخدمة التوسُّطية الحالية لكاهننا الأعلى، يسوع المسيح. وتشجعنا هذه الرسالة على الاقتراب بثقة وجسارة فيه ومن خلاله (٤: ١٦؛ ١٠: ١٩-٢٢؛ انظر ١٢: ١٨-٢٤). نحن نأتي مدعوين من الكلمة لكي نسجد أمام مذبحك يا رب.[24]

الكلمة بصفتها السلطة للعبادة. إن حقيقة الأمر هي أنه يفترض في جانب من جوانب الخدمة أن يعكس ويكرم كلمة الله. ولهذا يتوجب أن تكون العظة (والواعظ) تابعة للكلمة وخادمة لها. ويتوجب أن تهدي الكلمة أفكار الواعظ وكلماته وتسيطر عليها إذا كان للعظة أن توصل رسالة الله، لا مجرد أفكار الإنسان. لكن الموسيقى يجب أن تكون هي أيضاً تابعة للكلمة وخادمة لها. ويتوجب أن تعكس نصوص الترانيم الحق الكتابي، وينبغي للموسيقى نفسها أن تكون وسيطاً ملائماً يحمل النص. ويتوجب أن يكون الموسيقيّ (أو الموسيقيون) أيضاً خاضعاً للكلمة من حيث الدافع وإخراج الموسيقى. وفضلاً عن ذلك، لا بد أن تكون الصلوات والقراءات متوافقة مع التعليم الكتابي، إن لم تكن مأخوذة بالفعل منها.

لدينا في كلمة الله، الكتاب المقدس، إعلان الله المكتوب الكامل للإنسان. وهي موحى بها من الله، وهي لهذا وحدها صاحبة السلطة في كل ما نفعله نحن كمؤمنين –بما في ذلك العبادة. وكما سبقت أن ذكرت، فإن العبادة مرتبطة بالله وحده. فنحن نأتي لكي نركّز عليه، ونتعلّم المزيد عنه، ونعبّر عن محبتنا له. لكن لكي نفعل كل هذه الأمور بشكل عاقل وصحيح، فإننا نحتاج إلى كلمة الله بصفتها إعلانه عن نفسه وعن طرقه. وكما قال جون ماك آرثر: “العبادة هي استجابة مبنية على الحق…. قال يسوع نفسه إن العابدين ينبغي أن يعبدوا بالروح والحق…. وإذا كان لنا أن نعبد بالحق – كلمة الله هي حق – يتوجب علينا أن نعبد عبادة نابعة من فهمنا لكلمة الله.”[25]

الكلمة بصفتها مادة العبادة. من الواضح أن العبادة جزء جوهري ومركزي من أجزاء العبادة الجمهورية لشعب الله. ولا يجب أن تؤخذ الأفكار السابقة على أنها تعني غير ذلك. لكن من قبيل التبسيط الزائد أن نرى العظة بصفتها المكوِّن الوحيد للإعلان في نمط (أو حوار) العبادة المؤلف من الإعلان والاستجابة. ولا يجب أن تكون كذلك، إذا لكلمة الله بأن تتخلل الخدمة بطرق متنوعة كما سبق أن ذكرنا.

اقترح جاري فير وملبورن برايس عدداً من الطرق التي يمكن بها توصيل إعلان الكلمة في الخدمة بالإضافة إلى العظة. فهنالك قراءات من كل نوع للكلمة والموسيقى (المصاحبة لقراءة النصوص، بالإضافة إلى تقديم الحق الكتابي وقد أعيدت صياغته بأمانة)، والرموز (السمكة، والصليب، والزجاج الملوَّن، إلخ)، ومواقف مسرحية تُستخدم بحرص.[26] وعندما تتخلل كلمة الله والحق الكتابي الخدمة، عندئذ ستُفهم أعمال الاستجابة على الأرجح على أنها استجابة لإعلان الله عن ذاته من خلال كلمته.

إذا أوضحت النشرة أن كلمة الله جزء مهم من الخدمة المسيحية، عندئذ يمكننا أن نتأكد أن الناس سيتلقون رسالة مفادها أن الكتاب المقدس جوهري في أهميته في تشكيل حياتهم كمؤمنين بالمسيح. لكن عندما يكون دور كلمة الله في العبادة قابلاً للإهمال، وعندما تستخدم كلمة الله لبدء عظة فقط، فإن الرسالة التي تصلهم هي أن الكتاب المقدس هامشي في الحياة المسيحية أيضاً. وهكذا فإن استخدامنا لكلمة الله أو عدم استخدامنا لها في عبادتنا يقول أكثر بكثير عن التلمذة المسيحية أكثر مما ندرك.[27]

وبنفس الطريقة، فإن فريضتي المعمودية والعشاء الربّاني تتمان في سياق كلمة الله وسلطانها:

يجب أن يُنظر إلى المعمودية كاستجابة حيوية لكلمة الله التي ينادى بها. وهي في حد ذاتها مناداة غير لفظية بالبشارة التي تظهر فيها بالماء إرادة الله في تخليصنا.

وينطبق نفس الأمر بطبيعة الحال على العشاء الربّاني… والعشاء الرباني تمثيل قوي لحياة المسيح وقيامته وصعوده… وقد صار هذا الجزء الرئيسي في العبادة المسيحية لمئات الملايين من المؤمنين فريضة تمارس كل شهر أو كل ثلاثة أشهر، وغالباً ما توضع في نهاية خدمة وعظية. غير أن الوعظ أيضاً يمارس وظيفته على أفضل نحو في سياق الكلمة المرئية الظاهرة في هذا الفرض السرّاني. ويدعونا الكتاب المقدس إلى أن نأخذ ونأكل ونشرب ونستمع أيضاً.[28]

الكلمة بصفتها منظِّمة للعبادة. عندما تحدّث يسوع عن ضرورة العبادة بالروح والحق (يوحنا ٤: ٢٣-٢٤)، فقد كان يتناول مسألة العبادة من جانبين: “الحق هو العامل الموضوعي في العبادة، والروح هو العامل الذاتي.”[29] وحقيقة الأمر – وهذا هو ما كان يؤكده يسوع – هو أنه يتوجب أن يكون هنالك توازن بين هذين الجانبين، ويتوجب أن يكون كلاهما موجوداً. ينبغي أن تنبع العبادة من الداخل، من القلب (الذي لا يراه إلاّ الله وحده)، وأن تكون أصيلة ومخلصة (وبعبارة أخرى، لا أن تكون مجرد اختيار لانفعالات). ومن ناحية أخرى، يتوجب أن يكون الحق هادياً للعبادة وقناة لها، أي أن تكون العبادة حسب ما أعلنه الله عن نفسه وعن طرقه (وكما تبيّن يوحنا 4: 25-26، فيتوجب أن تكون من خلال الابن، المسيّا الذي هو نفسه الحق (يوحنا ١٥: ٦).

وهكذا يجب أن نستجيب في العبادة لله كما نعرفه من خلال كلمته المعلنة. ولا ينبغي أن نكون مستقيمي الرأي بشكل بارد، وإنما علينا أن نأتي بحماسة وإخلاص نابعين من مواجهة رائعة مع الله كما هو وكما يقدّم لنا نفسه في المسيح. فليست هنالك عاطفة من أجل ذاتها[30]، وإنما تأتي كاستجابة قلبية للحق وكل تضميناته. “هذا هو المزيج الرائع: العاطفة التي ينظّمها الفهم، والحماسة التي توجّهها كلمة الله.”[31]

الكلمة ورسالة العبادة. يقول بايبر إن الوعظ “تعظيم تفسيري”.[32] ويأتي هذا التعريف بالتوازن الكتابي بين الحق والروح، بين العاطفة والذهاب إلى خدمة منبر الكلمة. وهذه بالفعل دعوة سامية ومقدسة: أن نتحدث إلى الشعب نيابة عن الله، على أساس سلطة كلمته.

إن الواقع (الحقيقة) الذي يتخلّل كل نص، والواقع الأكثر أهمية، والواقع الفائق هو الله نفسه. فسواء كان الله يأمر أو يحذِّر أو يعِد أو يعلّم، فإنه موجود هناك. وحيث يكون الله موجوداً، فإنه يكون دائماً متسيداً وسامياً. وحيث يكون متسيداً وسامياً، فلا بد أن يُعبد.[33]

هذه هي رسالة العبادة. لكن لا نريد أن نقصُر الرسالة على الجزء الوعظي وحده من الاجتماع. لكن ليكن واضحاً في الاجتماع ككل أننا نجتمع تحت سلطان الكلمة لكي نتعلم عن الله من كلمته (في كل أشكال تقديمها المختلفة في اجتماع العبادة) وأن نستجيب بطريقة تكرم الكلمة والرب صاحب الكلمة. ليت كلمة الرب ترشدنا وتعطي تعبيراً لاستجابات تسبيحنا وتمجيدنا، اعترافنا واتكالنا، شكرنا وتشفُّعنا، التي تنبع من فهم سليم لشخص الله وطرقه من خلال الإعلان عنها في الكلمة. ليتنا نتمسك بالكلمة، ونقرأ الكلمة، ونرنّم الكلمة ونتأمل الكلمة، ونعظ بالكلمة، ونستجيب للكلمة، ونخضع أنفسنا لمبادئ الكلمة. ليت الله الواحد – الآب، والابن، والروح القدس – يتمجّد في عبادتنا ونحن نأتي تحت سلطة الكلمة وبالكلمة وإلى الكلمة.

الكلمة وغاية العبادة. يجب أن تعظَّم كلمة الله بحق في عبادتنا (لأنها كلمة الله)، لكن ليس كغاية في حد ذاتها. فالهدف النهائي (للكنيسة ولنا نحن كمؤمنين) هو أن نُظهر مجد الله وننادي به ونعظمه.

سيتمجد الله كثيراً في عبادتنا حين تتحدث الكلمة عن شخصه وعن طرقه – من خلال القراءة والوعظ والصلاة والترنيم والتأمل وممارسة الفرائض المشبعة بالحق الكتابي. وستمكننا الكلمة من أن نطيع أمرها لنا بأن نسبّحه حسب كثرة عظمته (مزمور ١٥٠: ٢).

[1] انظر

Garry A. Furr and Milburn Price, The Dialogue of Worship: Creating Space for Revelation and Response (Macon, Georgia: Smyth & Helwys, 1998).

[2] غير أنه يتوجب علينا أن نتذكر أن “التواصل بين الله والبشر تبادلي، لكنه غير متناسق.”

(Geoffrey WainWright, “The Praise of God in the Theological Reflection of the Church,” Interpretation 39 [1985]: 39).

[3] James F. White, Protestant Worship: Traditions in Transition (Louisville, Kentucky: Westminster/John Knox, Press, 1989), pp. 171, 172, 177.

[4] يصنف الدكتور تيم رالستون، الأستاذ في كلية دالاس للاهوت، النظرة القائلة إننا لا نحتاج إلى حمية مستمرة وقوية من التعليم الكتابي من أجل النمو في الحياة المسيحية بصفتها “نظرة إلى القداسة مختلّة وظيفياً”. محاضرة على شريط فيديو بعنوان

 “Changing Worship- Calming the Conflict” (Dallas Theological Seminary, 1994).

[5] Ron Man, “Jesus, Our Worship Leader: The Mediating Work of the Son in Worship,” Reformation and Revival 9: 2 (Spring 2000): 36-37.

[6] العبادة تصنيف أكبر وأوسع من الوعظ. ويتبيّن هذا بوضوح من حقيقة أن رعاة كثيرين وعظوا عن العبادة. لكن العكس غير صحيح. فمن غير الممكن أن نعبد حول الوعظ. فالتصنيف الأقل هو وحده القادر على أن يعلّم حول الأكبر.

[7] John Piper, “Preaching as Worship: Meditation on Expository Exultation,” Lecture Transcripts (Minneapolis: Desiring God Ministries, 1994).

[8] يوجد تعقيد إضافي لهذه النظرة، ألا وهو أنه حسب هذا الفهم، فإن كل الاستجابة في الخدمة ستسبق كل الإعلان!

[9] يجب أن نكون عادلين فنوضح أن التسبيح الجماعي قد نما في بعض الكنائس إلى حد السّرانية، إلى حد الإضرار بكلمة الله المعلنة. وفي هذا أيضاً عدم توازن.

[10] Bruce Leafblad, ‘Leading in Worship (audiotape: Worship Conference, Southwestern Baptist Theological Seminary, 1995).

[11] Man, “Jesus, Our Worship Leader,” P. 34- 37.

[12] يمثّل الواعظ، بمعنى آخر، يسوع المسيح في خدمته التوسُّطية التي يعلن بموجبها اسم الآب لإخوته (عبرانيين ١٢: ٢). انظر

 Man, “Jesus Our Worship Leader,” PP. 34, 41.

[13] Bruce Leafblad, “Leading in Worship”.

[14] Piper, “Preaching as Worship,” Lecture 1, P. 3.

[15] John Piper, Desiring God: Meditations of a Christian Hedonist, revised edition (Portland Oregon: Multomah Press, 1996.

[16] John Piper, Desiring God: Meditations of a Christian Hedonist, revised edition (Portland Oregon: Multomah Press, 1996.

[17] Wainwright, “The Praise of God,” p. 38.

[18] لكن هذا طريق ذو اتجاهين أيضاً: “فالمحافظة على مركزية العبادة في حياة الكنيسة أمر جوهري في أهميته للإبقاء على النزاهة والاستقامة في الوعظ. وعندما تكون العبادة مركزية، يأخذ الوعظ سمات يجعله وسيلة لتوصيل البشارة.”

 (C. Wellton Goddy, The Gift of Worship [Nashville: Broadman Press, 1992], P. 72).

[19] Vern S. Poythress, “Ezra 3, Union with Christ, and Exclusive Psalmody,” Westminster Theological Journal 37: 2 (1975): 229.

[20] John Piper, Let the Nations Be glad! The Supremacy of God in Missions (Grand Rapids, Baker Book House, 1993), p. 11.

[21] Piper, “Preaching as Worship.” Lecture 2. P. 3.

[22] المرجع السابق. المحاضرة الأولى- الصفحة 4.

[23] James F. White, “Making Our Worship More Biblical,” Perkins Journal 34 (Fall 1986): 38.

[24] المرجع السابق. الصفحة 38.

[25]المرجع السابق. الصفحة 38.

[26] Danish hymn (text by Thomas Kingo, 1634- 1703).

[27] John Macarthur, Jr. The Ultimate Priority (Chicago: Moody Press, 1983), pp. 122- 23.

[28] Furr and Price. The Dialogue of Worship, pp. 8- 10, 12- 15.

[29] المرجع السابق. الصفحة 38.

[30] المرجع السابق. الصفحة 40.

[31] Mac Arthur, The Ultimate Priority, pp. 125- 26.

[32] يشير ماك آرثر إلى أن ١ كورنثوس ١٤: ١٤- ١٦، ٢٣- ٢٥ كمثالين لهذا.

  المرجع السابق. الصفحة 124.

[33] المرجع السابق. الصفحة 125.

شارك مع أصدقائك