يتفق المؤمنون بديهيًا على وجود علاقة حتمية ومتشابكة للغاية بين كلمة الله وإنجيل يسوع المسيح. وطبيعة تلك العلاقة تلفت انتباهنا وتشكل تحديًا أمامنا. وفي حين يمكن (بل قد تم بالفعل) استكشاف العديد من أوجه الترابط النافعة والجيدة، إلا أن هذا الفصل يفترض وجود رابطتين محددتين بين كلمة الله والإنجيل ويبحث فيهما: فإن رسالة الإنجيل هي “سبب” الإعلان الكتابي، وهي أيضًا “نتيجة” هذا الإعلان [المترجم: بحسب قانون السبب والنتيجة]. بكلمات أخرى، إن قصد الله العظيم والأزلي في الفداء (الذي يعبر عنه الإنجيل) يوجِد الكتاب المقدس، والكتاب المقدس يتولى تحقيق قصد الله في الإنجيل.
رسالة الإنجيل باعتبارها سببًا ونتيجة للإعلان الكتابي:
السبب:
إن نظرنا إلى الإنجيل بوجه عام باعتباره قصد الله الأزلي الصالح بأن يفتدي شعبًا لنفسه (١ بطرس ٢: ٩)، ويسترد خليقته الساقطة (رومية ٨: ١٩-٢١)، فإن هذا “الخبر السار” إذًا سيسبق بالضرورة الإعلان الكتابي ويوجده. فإن كلمة الله بأكملها تنقل ذلك الإحساس بكونها وليدة مبادرة إلهيّة عظيمة. وبهذا المفهوم، فإن رسالة الإنجيل تصير هي سبب الإعلان الكتابيّ. وفي حين أن كلمة الله نفسها ليست هي الإنجيل، إلا أنها بكاملها متصلة به، فإن الإنجيل هو السبب في وجود هذه الكلمة، وهو رسالة الكتاب المقدس الرئيسيّة والموحِّدة له.
ولا يمكن مطلقاً فصل قصد الله من الإعلان الكتابيّ عن قصده من الفداء. فقد خطط الله منذ الأزل أن يفتدي شعبًا لنفسه:
مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ، كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ. (أفسس ١: ٣-٦)
وهكذا كانت خطة الله هي السبب الحقيقي وراء تواصله المنطوق مع البشر، وهي التي تنشئ وتوجد هذا التواصل الذي نجده محفوظًا في كلمة الله.
وما نستشفه ضمنيًا من فكرة الإعلان هو فكرة وجود هدف. فالله يهدف إلى تحقيق شيء ما من خلال إعلانه عن نفسه:
لأَنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ يُرْوِيَانِ الأَرْضَ وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلآكِلِ، هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ. (إشعياء ٥٥: ١٠-١١)
أي أن الله يرسل كلمته لتحقيق قصده الأزلي بافتداء شعباً لنفسه، فهو يتحدث من خلال إشعياء النبي عن جمعه شعبًا لنفسه ويقول:
أَمِيلُوا آذَانَكُمْ وَهَلُمُّوا إِلَيَّ. اسْمَعُوا فَتَحْيَا أَنْفُسُكُمْ. وَأَقْطَعَ لَكُمْ عَهْدًا أَبَدِيًّا، مَرَاحِمَ دَاوُدَ الصَّادِقَةَ. هُوَذَا قَدْ جَعَلْتُهُ شَارِعًا لِلشُّعُوبِ، رَئِيسًا وَمُوصِيًا لِلشُّعُوبِ. هَا أُمَّةٌ لاَ تَعْرِفُهَا تَدْعُوهَا، وَأُمَّةٌ لَمْ تَعْرِفْكَ تَرْكُضُ إِلَيْكَ، مِنْ أَجْلِ الرَّبِّ إِلهِكَ وَقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ لأَنَّهُ قَدْ مَجَّدَكَ. (إشعياء ٥٥: ٣-٥)
كما يقوم العهد الجديد في مواضع عدة بإبراز هذا القصد من الإعلان بشكل أكثر وضوحًا. فيقول بولس عن العهد القديم: “لأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا، حَتَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ” (رومية ١٥: ٤). رجاء في ماذا؟ رجاء في الفداء التام الذي سيتم باكتمال مقاصد الله الصالحة (انظر رومية ٨: ١٨-٢٥). ويقول بولس إن هذا هو سبب تدوين الله لكلمته. فكلمة الله لازمة لأجل إعلان قصد الله وعمله الفدائي. ومن هذا المنطلق يكون الإنجيل هو سبب كلمة الله. إلا أن هذا الإنجيل، من جهة حتميّة أخرى، هو أيضًا نتيجة للإعلان الكتابي.
النتيجة:
هنا نتحدث عن الإنجيل من حيث المناداة الفعّالة به. ومن هذه الناحية فإن الإعلان الكتابيّ لابد وأن يسبق الإنجيل، وهذا الإنجيل يتدفق بشكل فعّال من الإعلان الكتابيّ. فالإنجيل هو رسالة الكتاب المقدس الرئيسيّة، ولهذا فإن الكرازة بمحتوى هذا الكتاب – أي التوقع النبوي لقصد الله الفدائيّ في المسيح من العهد القديم والشهادة الرسوليّة عن عمل المسيح المكتمل في العهد الجديد – تطلق العنان لقوة رسالة الإنجيل، وتحقق الغرض المعيَّن لها من قبل الله.
فقد نجح بولس في التعبير عن هذا المعنى بصورة مقنعة للغاية في رومية 10 في حديثه عن قصد الله في أن يفتدي شعبًا لنفسه، فيقول:
لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ، لأَنَّ رَبًّا وَاحِدًا لِلْجَمِيعِ، غَنِيًّا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ. لأَنَّ «كُلَّ مَنْ يَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ يَخْلُصُ». فَكَيْفَ يَدْعُونَ بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ؟ … وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ؟ (رومية ١٠: ١٢-١٤)
وبعد بضعة أعداد، يدلي بولس بهذا التصريح المُجمل: “إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ (باستماع الخبر)، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ” (عدد ١٧). بمعنى آخر، إن كلمة الله، التي يُنادَى بها بأمانة وإخلاص، تتمم قصد الله الصالح من الفداء.
ويقدم لنا بطرس المعنى عينه، قائلاً: “مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ. … وَهذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا” (١ بطرس ١: ٢٣-٢٥). ويكرر يوحنا هذه الفكرة حين يقول إنه كتب إنجيله “لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ” (يوحنا ٢٠: ٣١). هذه إذًا مجرد وسيلة أخرى نقول بها إن الإعلان الكتابيّ موجود لتحقيق قصد الله العظيم بأن يفتدي شعبًا لنفسه في المسيح.
وهكذا فإن الكتاب المقدس موجود بسبب الإنجيل ولأجل الإنجيل. والمفتاح لفهم هذا هو أن الإنجيل هو رسالة المسيح. ويشير الكتاب المقدس في كل موضع فيه بطريقة ما إلى المسيح ويعلنه ويشرحه. وبالتالي، فإن هذا الكتاب المقدس يساهم ليس في فهمنا للإنجيل فحسب، بل في “استماعنا” لهذا الإنجيل بغرض أن نؤمن، وبهذا يتمم الله بشكل كامل قصده الصالح في الفداء. هذا يتطلب منا إذًا أن نستخدم كلمة الله بما يتماشى مع قصد الله الصالح هذا.
قناعات أساسيّة لازمة لقراءة صحيحة لكلمة الله:
توجد بعض القناعات الأساسيّة التي يلزم أن نضعها في نصابها الصحيح، ويلزم أن تكون عاملة كي يؤدي الكتاب المقدس الدور الفعّال الخاص الذي يقصده الله به.
كلمة الله هي أنفاس الله (وحي الله):
يُذكِّر بولس ابنه الحبيب في الإيمان بهذا الكلام قائلاً: “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ (مُتنفّس به من الله breathed out)” (٢ تيموثاوس ٣: ١٦). أي أن بولس يقول إن كلمة الله تنشأ أولاً في عقل الله، ثم يُنطَق بها (“أي تخرج كأنفاس” breathed out) من ذلك العقل. هذه القناعة بأن الله قد نطق حقًا بالكلمة هي قناعة لابد أن يتمسك بها المؤمنون تمسكًا شديدًا حتى تتشكّل حياتهم بها. فإننا حين نستخدم عبارة “كلمة الله” للإشارة إلى كتبنا المقدسة، فلابد ألا يفوتنا المعنى الذي يوصله هذا اللفظ. فقد نطق الله بشيء موضوعيّ. فهو يقول شيئًا خاصًا ومحددًا. أي هو يتكلّم. وهو يتواصل. لقد تكلّم الله حقًا، وكلمة الله هي ذلك الكلام في صورةٍ مكتوبةٍ.
التطبيق العمليّ الرئيسيّ لتلك القناعة هو أن الكتاب المقدس جدير بالثقة وحق: “كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ اللهِ نَقِيَّةٌ” (أمثال ٣٠: ٥). فإن التمسك بهذه القناعة سيؤثر بشدة على قراءتنا الشخصيّة للكتاب المقدس وأيضًا على رد فعلنا تجاهه. فهو سيحررنا من الشك والتساؤل الدائم. لكن على النقيض، إن لم نتمسك بهذه القناعة ونؤيدها، سنجد أنفسنا متشكّكين، ذوي رأيين، ومتقلقلين أمام صعوبات الحياة أو الصعوبات الموجودة في الكتاب المقدس.
كلمة الله قابلة للفهم:
يقول بولس لتيموثاوس: “اجْتَهِدْ أَنْ تُقِيمَ نَفْسَكَ للهِ مُزَكُى، عَامِلاً لاَ يُخْزَى، مُفَصِّلاً كَلِمَةَ الْحَقِّ بِالاسْتِقَامَةِ” (٢ تيموثاوس ٢: ١٥). يوجد إذًا ما يُسمى بتفصيل كلمة الحق باستقامة. بكلمات أخرى، لم يتوقف الأمر عند نطق الله بشيء موضوعيّ ومحدد، لكن قصده أيضًا هو أن نفهم نحن هذا الشيء. فإن الله ليس إلهًا قاسيًا، يلهو معنا بإعلانه. فهو لم يتكلّم بشيء يعلم أننا لن نفهمه قط، مثل شفرة لا يمكن حلها. وهو لم يقدم لنا وسيلة تواصل يقصد بها إحباطنا. كلا، بل قد تكلّم لغرض. فإن مفهوم كلمة الإعلان في حد ذاتها يشير إلى نيّة وقصد التعريف بشيء. فالله يقوم بتحقيق غرض مرغوب فيه بشدة، ولهذا فهو يريد أن نفهم ما قاله.
لكننا في حاجة إلى أن نتذكر الجزء الأول من نص ٢ تيموثاوس ٢: ١٥. حيث يخبر بولس تيموثاوس بأنه لابد أن يبذل أقصى ما في وسعه (يجتهد)، وأن يكون عاملاً. وهكذا فلا أحد يقفز مباشرة إلى الفهم. لكننا في حاجة إلى أن نتمسك بشدة بقناعتنا بأن كلمة الله ستقدم نفسها لمن يدرسها في إيمان. فإن قصد الله لنا هو أن نفهم ما قد نطق به.
كلمة الله نافعة:
إن شعب الله لا يمكنه أن يحيا أو يزدهر سوى من خلال إيمانه بكلمة الله وطاعتها. فهي نافعة ومفيدة بصورة فريدة. ليست كلمة الله نافعة من خلال عمليّة سريّة غامضة تصوفيّة، بل من خلال الوسائل العاديّة من تعليم، وتوبيخ، وتقويم، وتأديب في البر (٢ تيموثاوس ٣: ١٦). من خلال هذه الوسائل يظهر الكتاب المقدس نفسه نافعًا للغاية.
كلمة الله فعّالة:
إن كلمة الله تدَّعي كونها فعالة، لكن ما الذي تحققه هذه الكلمة حقًا؟ لننظر مرة أخرى إلى كلمات إشعياء:
لأَنَّهُ كَمَا يَنْزِلُ الْمَطَرُ وَالثَّلْجُ مِنَ السَّمَاءِ وَلاَ يَرْجِعَانِ إِلَى هُنَاكَ، بَلْ يُرْوِيَانِ الأَرْضَ وَيَجْعَلاَنِهَا تَلِدُ وَتُنْبِتُ وَتُعْطِي زَرْعًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلآكِلِ، هكَذَا تَكُونُ كَلِمَتِي الَّتِي تَخْرُجُ مِنْ فَمِي. لاَ تَرْجعُ إِلَيَّ فَارِغَةً، بَلْ تَعْمَلُ مَا سُرِرْتُ بِهِ وَتَنْجَحُ فِي مَا أَرْسَلْتُهَا لَهُ. (إشعياء ٥٥: ١٠-١١)
وسنضيف إلى هذه الكلمات كلمات أخرى من رسالة العبرانيين: “لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ [الترجمة الإنجليزية: عاملة] وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ” (عبرانيين ٤: ١٢). وحين يتحدث كاتب رسالة العبرانيين عن كون كلمة الله “عاملة” (active)، فهو يتحدث عن فاعليتها، أي قدرتها على تحقيق القصد المرجو منها، ويقول الكاتب إنها تقوم بهذا من خلال قدرة اختراقيّة.
لنتناول الآن بعض الأشياء المحددة التي تدَّعي كلمة الله عملها:
- هي تُبدئ الإيمان: “إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ” (رومية ١٠: ١٧).
- تهب حياة روحيّة جديدة: “مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ” (١ بطرس ١: ٢٣).
- تساعد على نمونا روحيًا: “وَكَأَطْفَال مَوْلُودِينَ الآنَ، اشْتَهُوا اللَّبَنَ الْعَقْلِيَّ الْعَدِيمَ الْغِشِّ لِكَيْ تَنْمُوا بِهِ” (١ بطرس ٢: ٢).
- تقدّس: “قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌ” (يوحنا ١٧: ١٧).
- تفحص القلب وتبكّت: “لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ” (عبرانيين ٤: ١٢).
- تُحرّر: “إِنَّكُمْ إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلاَمِي فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ تَلاَمِيذِي، وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ” (يوحنا ٨: ٣١-٣٢).
- تنعش وتجدّد: “أَحْيِنِي حَسَبَ كَلِمَتِكَ” (مزمور ١١٩: ٢٥).
- ترد إلى الحياة وتنير: “نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ. شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيمًا” (مزمور ١٩: ٧؛ انظر أيضًا الأعداد ٨-١١).
هذه مجرد عينة مما تقوله كلمة الله عمّا يمكن أن تفعله. فلا عجب إذًا أن يقول داود: “طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ الأَشْرَار… لكِنْ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ مَسَرَّتُهُ” (مزمور ١: ١-٢)؟ فإن هذا الرجل يكون “كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ” (عدد ٣). وبالمعنى الأبسط، إن قصد الله هو أن يعتني بشعبه ويرعاهم من خلال كلمته. فكلمة الله هي الوسيلة الرئيسيّة التي من خلالها يطعمنا الله، ويعتني بنا، ويجعلنا نزدهر ونثمر، ومن خلالها ينوي تحقيق قصده الصالح.
في حال وجدت هذه القناعات الأربع وكانت عاملة في حياة شخص مسيحيّ، فإن ذلك الشخص يمكنه أن يتوقع نعمة الله المُغيّرة في الإنجيل المعطى له بواسطة كلمة الله. لكن فيما يلي صفة أخرى هامة وضروريّة للغاية.
اتجاه ضروري للقلب: الاتضاع
لكي نتمكن من استخدام كلمة الله وفقًا لقصده، لابد أن نُخضِع أنفسنا طواعيّة، وبكل حماس، ولهفة تحت سلطانها. ولكن لأننا نحب أن نرفع من شأن أنفسنا، فإننا في كثير جدًا من الأحيان نُغوى بأن نضع أنفسنا فوق الكلمة كحكّام عليها أو كنقّاد لها.
سمعت ذات مرة قصة رجل ذهب إلى باريس وكان في زيارة لمتحف اللوفر. وكان مهتمًا بشكل خاص برؤية لوحة الموناليزا التي رسمها ليوناردو دافنشي. ثم بعد أن أمعن النظر في اللوحة لبعض الوقت بعين ناقدة، صرّح قائلاً: “لا تعجبني”. حينئذ أجابه الحارس الواقف هناك: “سيدي، لم تعد هذه اللوحات خاضعة للحكم عليها، على عكس من يشاهدونها”. هكذا أيضًا بالنسبة لكلمة الله، فهي غير قابلة أو خاضعة للحكم والانتقاد، على عكس قارئيها. السؤال المطروح هنا هو ما إذا كانت قلوب قارئيها هؤلاء تقبل الخضوع في اتضاع لسلطان الله المطلق من خلال كلمته أم لا.
ويعد استعدادنا لوضع أنفسنا تحت مجهر فحص كلمة الله جزءًا لا يتجزأ من الخضوع لسلطان هذه الكلمة. وهذا الفحص لابد أن يتحول إلى عادة منتظمة في حياتنا. إلا أنه لا ينبغي أن يتم بشكل مستقل أو منعزل. بل بوعي شديد في خضوع لكلمة الله. فإن الله يقول: “أَنَا الرَّبُّ فَاحِصُ الْقَلْبِ” (إرميا ١٧: ١٠). وكرد فعل لهذا، لابد أن تكون صلواتنا ترديدًا لصلاة داود: “اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي” (مزمور ١٣٩: ٢٣).
تذكّرنا رسالة العبرانيين بأن الله يميز أفكار القلب ونياته بكلمته (عبرانيين ٤: ١٢). ولذلك فعلينا أن نضع أنفسنا بانتظام وجديّة تحت فحص كلمة الله، بغرض أن نتغير في ضوء ما تعلنه لنا. وهذا الغرض لا ينبغي أن يقتصر على كونه واجبًا إلزاميًا، بل علينا أن نتطلّع في فرحٍ إلى أن يكون هو الوسيلة التي بها يتمم الله مقاصد فدائه في حياتنا.
في أحيان كثيرة، حين نقف في مواجهة مع كلمة الله، نسرع في سرد أسباب عدم انطباقها علينا، وبهذا التصرف نكون قد اتخذنا قرارًا برفض الشيء نفسه الذي يقصد به الله خيرنا. فإننا نعمل حسنًا إن انتبهنا إلى كلمات توماس واتسون، ذلك الراعي التطهيريّ (Puritan) الذي عاش في القرن السابع عشر:
اعتبر كل كلمة كأنها موجَّهة إليك. فحين ترعد الكلمة ضد الخطية، فكر هكذا: “إن الله يعني بهذا خطاياي”، وحين تشدّد على واجب ما، قل: “إن الله يقصدني أنا بهذا”. كثيرون يبعدون كلمة الله عنهم، وكأنها تعني أولئك الذين عاشوا في الزمن الذي كُتبت فيه فحسب، لكن إن عقدت النيّة على الاستفادة من الكلمة، قرّبها إلى نفسك، فإن الدواء لن يفيد شيئًا إن لم يتم تناوله.[1]
إن الاتضاع أمر ضروري للغاية – فهو توقع مُتحمّس، ومُتلهّف، ومُتّضع، بل وفرح أيضًا بأن تتمّم كلمة الله قصدها في حياتنا.
منهج تفسيريّ لا غنى عنه:
بعد وضع القناعات الأساسيّة واتجاه القلب الضروريّ في نصابها الصحيح، نأتي الآن إلى قضية تفسير كلمة الله. ويضع العهد الجديد مبدأين رئيسيين للتفسير:
مركزيّة المسيح:
ربما لا يوجد نص يرغمنا على الاقتناع بمركزيّة المسيح في كلمة الله أكثر من لوقا ٢٤. فقد انخرط يسوع وهو متنكر في حديث مع اثنين من تلاميذه فيما كانا يسيران في طريقهما إلى عمواس. وكانا قد قصا عليه لتوهما في إيجاز الأحداث التي وقعت في الأيام الأخيرة، والتي فيها، كما قالا، أسلم يسوع إلى الموت، أسلم ذاك الذي وضعا فيه رجاءهما، وبعد ثلاثة أيام توافدت أخبار محيّرة وغير مؤكّدة عن قيامته. ثم ردًا على هذا قال لهما يسوع: “أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ! أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟” ثم يخبرنا لوقا بالآتي: “ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ” (لوقا ٢٤: ٢٥-٢٧).
ثم لاحقًا في الإصحاح نفسه، تحدث يسوع إلى الاثنا عشر المجتمعين معًا وقال: “هذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ” (عدد ٤٤). ويضيف لوقا مرة أخرى: “حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ” (عدد ٤٥). ومن هذا النص يتضح أن يسوع كان يفهم العهد القديم بأكمله باعتباره يتحدث بشكل فعليّ وحقيقيّ عنه.
وينقل لنا يسوع هذا المعنى نفسه من خلال يوحنا ٥ في حديثه إلى القادة الدينيين في أورشليم، حين قال: “فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِي” (عدد ٣٩). مرة أخرى نرى يسوع يفهم العهد القديم باعتباره يتحدث عنه ويشير إليه.
أيضًا يدور العهد الجديد بديهيًا حول المسيح. فقد حرص كُتّابه من الرسل حرصًا شديدًا على ألا يجرد قارئوهم أي جزء من كتاباتهم من شخص وعمل يسوع المسيح. وهكذا، فإن الكتاب المقدس بأكمله يدور حول المسيح بشكل خاص ومقصود من قبل الله. ويوجز برايان تشابل في كتابه المفيد للغاية بعنوان “Christ-Centered Preaching” (مركزيّة المسيح في الوعظ) هذا المعنى جيدًا: “كل نصّ [كتابيّ] هو إما تنبّؤي عن عمل المسيح، أو إعداديّ لعمل المسيح، أو تأمّلي في عمل المسيح، أو نتاج عمل المسيح”.[2] هذا يعني بكل تأكيد أننا إن قرأنا الكتاب المقدس باستقامة وبشكل سليم، فلابد أن نراه في كل أجزائه من منظور ارتباطه بالمسيح.
ومع ذلك، فإننا لسنا مدعوين إلى أن نصطنع رابطة بين أي نص نقرأه أو نعلّمه من كلمة الله وبين المسيح. بل العكس هو الصحيح. فإن كلمات يسوع نفسها هي التي تفترض مسبقًا أن كل نص إنما يشير بالفعل إليه، ونحن مدعوون لفهم وشرح الطرق الخاصة التي بها تشير تلك النصوص إليه. ولكي يكون مركز قراءتنا للكتاب المقدس هو الإنجيل، كما لابد أن يكون، فهذه القراءة ينبغي أن تنظر دائمًا إلى يسوع وتثبت عينيها عليه، وإمكانية الفشل في فعل هذا متساويّة سواء في تفصيل وتناول العهد الجديد أو العهد القديم.
التفسير الروحيّ:
لا يكفي أن ندرك فحسب لزوم مركزيّة المسيح لتفصيل كلمة الله باستقامة. بل إن تفصيلنا لكلمة الله لابد أن يصاحبه عمل الروح القدس في الاستنارة. فإن الكتاب المقدس يختلف من حيث النوع عن أي كتاب آخر، ولذا فهو يتطلب أن نقرأه تماشيًا مع طبيعته.
يشير بولس إلى هذا في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس. فبعد وصفه لخدمته الأخيرة لهم بالآتي “مُنَادِيًا [لهم] بِشَهَادَةِ اللهِ” (١ كورنثوس ٢: ١)، مذكّرًا إياهم بأن كلامه وكرازته لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانيّة بل بقوة الله (عدد ٤-٥)، قال:
لكِنَّنَا نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةٍ بَيْنَ الْكَامِلِينَ [الترجمة: بين الناضجين]، وَلكِنْ بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ مِنْ هذَا الدَّهْرِ، وَلاَ مِنْ عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ، الَّذِينَ يُبْطَلُونَ. بَلْ نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ اللهِ فِي سِرّ: الْحِكْمَةِ الْمَكْتُومَةِ، الَّتِي سَبَقَ اللهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ الدُّهُورِ لِمَجْدِنَا، الَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هذَا الدَّهْرِ، لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ الْمَجْدِ. بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ:
«مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ».
فَأَعْلَنَهُ اللهُ لَنَا نَحْنُ بِرُوحِهِ. لأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللهِ. لأَنْ مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ؟ هكَذَا أَيْضًا أُمُورُ اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ. وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ، لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ، الَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضًا، لاَ بِأَقْوَال تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ، قَارِنِينَ الرُّوحِيَّاتِ بِالرُّوحِيَّاتِ [في الترجمة الإنجليزيّة: بما يعلمه الروح مفسرًا الحقائق الروحية للروحيين]. وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا. (١ كورنثوس ٢: ٦-١٤)
يمكننا أن نستخلص بوضوح من هذا النص أربعة أشياء. أولاً، توجد حكمة من الله قد أعلنها للبشر (عدد ١٠، ١٢). ثانيًا، ذلك الإعلان يتم من خلال الروح القدس (عدد ١٠). ثالثًا، بما أن الإعلان يتم من خلال الروح القدس، فإن تفسيره إذًا يتطلب هذا الروح (عدد ١٣). رابعًا، أخذ المؤمنون الروح القدس من الله “لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ” (عدد ١٢). هذا ينطبق على من يعلِّمون (عدد ١٢) وأيضًا على من يتعلمون (عدد ١٣-١٤). وهكذا فإننا لا نستطيع فهم كلمة الله بشكل صحيح دون عمل الروح القدس. إذ هو من يمنح البشر القدرة على معرفة أن كلمة الله حق، وعلى فهم هذا الحق.
طريقتان لقراءة الكتاب المقدس:
نأتي الآن إلى موضوع الممارسة الفعليّة لقراءة كلمة الله. لسنا هنا بصدد الحديث عن مهارة قراءة كلمة الله علنًا، بل عن استخدامها بصورة شخصيّة، سواء للدراسة الشخصيّة أو لممارسة مهارة التمييز حين يعلّم آخرون من الكتاب المقدس. كيف يكون إذًا “تفصيل كلمة الحق باستقامة” (٢ تيموثاوس ٢: ١٥)؟
إن الكتاب المقدس هو بالفعل كتاب مثير ومشوق وممتع بشكل غير محدود لأنه قصة الله، والله نفسه بالطبيعة مثير ومشوق وممتع بشكل غير محدود. هذا الكتاب نبع دائم الفيضان لا ينضب. كلما قرأت منه أكثر، وجدت أن حقه وجماله لا ينضبان أو ينحلان.
وتوجد العديد من الطرق لقراءة الكتاب المقدس. ولأنه لا ينضب، فإن هذه الطرق العدة يمكن أن تكون مثمرة ومفيدة. إلا أننا لسنا كثيري الانشغال هنا بما قد يُطلَق عليه “طرق أو منهجيّات” بقدر اهتمامنا بما يمكن أن نطلق عليه “اتجاهات”. وهناك اتجاهان أساسيان لقراءة الكتاب المقدس يقومان بفتح كنزه، الذي هو الإنجيل، للفائدة.
قراءة الكتاب المقدس كرواية متتابعة (أو الاتجاه التاريخيّ):
إن الكتاب المقدس عبارة عن قصة تاريخيّة. فهو متأصّل جيدًا دون تزعزع في تاريخ زمنيّ ومكانيّ حقيقيّ، مع وجود إشارات منتظمة ومقصودة إلى شخصيّات، وأحداث، وأماكن تاريخيّة معروفة (مثل لوقا ٣: ١-٣). ودون شك يقصّ الكتاب المقدس تلك الأحداث التاريخيّة التي يقدمها على نحو موثوق به. ويمكننا أن نقول إن قراءة الكتاب المقدس من منظور تاريخيّ هي قراءة “تتبعيّة” تسير عبر القصة الكتابيّة. وبما أن الكتاب المقدس يجمع كتابات كثيرة كتبها كتّاب مختلفون، فإن هذا ربما يشكّل تحديًا أمام القراء الذين يحاولون فهم واستيعاب جميع أجزاء هذا التاريخ.
إلا أن الكتاب المقدس لا يقتصر على كونه سردًا قصصيًا للتاريخ البشريّ. حيث توجد قصة أكبر وراء قصته. فإن الروايّة الكتابيّة الحقيقيّة تكمن في الكشف والإعلان عن خطة الله وقصده. إن الكتاب المقدس هو قصة الله، وخطها الرئيسي هو الإنجيل: أي خطة الله لافتداء شعب لنفسهِ واسترداد خليقته الساقطة من خلال المسيح.
قراءة الكتاب المقدس كملخص وافٍ لوجهات نظر موحى بها من الله (أو الاتجاه اللاهوتي):
لا يتوقف الكتاب المقدس عند سرده للتاريخ، بل هو أيضًا يفسر هذا التاريخ. فإن كلمة الله تأتينا في صورة تصريحات، وشرائع، ووعود، وأمثال، ووصايا، وما إلى ذلك، إلا أن كل جزء منها هو وجهة نظر موحى بها من الله. يمكننا أن نصف قراءة الكتاب المقدس من منظور لاهوتيّ بأنها قراءة “داخليّة” في الأسفار. وبتناولنا لكلمة الله وفقًا لهذا المنظور، يمكننا أن نجمع وجهات النظر هذه إلى أقسام من الفكر، حتى نصل إلى فهم متماسك لما يقوله الكتاب المقدس بشكل تراكميّ وتدريجيّ. هذه الطريقة في القراءة تولي اهتمامًا أكبر للإطار الرئيسيّ لأسفار ونصوص فرديّة، لكن من الحكمة أيضًا أن نتذكر أن معنى أي نص كتابيّ مرتبط بمعنى جميع النصوص الأخرى، بما أنها جميعها جزءًا من كلمة موحدة ومتكاملة من الله.
رسالة الكتاب المقدس الواحدة:
بغض النظر عن طريقة قراءة الكتاب المقدس، لكن رسالته واحدة. فإن قرأناه كسرد تاريخيّ متواصل، فسيكون الخط الرئيسي له هو الخلق، والسقوط، والفداء، والاسترداد. أما إن قرأناه كمجموعة من وجهات النظر والآراء اللاهوتيّة، فإن المواضيع الرئيسيّة التي ستبرز حينئذ هي الله، والخطية، والمسيح، والإيمان. والرسالة التي تقدمها كلتا القراءتين هي انتصار قصد الله الأزليّ الفدائيّ. هاتان الطريقتان في القراءة ليستا متناقضتين على الإطلاق. بل على العكس، كلاهما ضروريتان من أجل فهم تام وكامل للإنجيل الكتابيّ ومن أجل “الاستماع” إليه، وأيضًا لمساعدتنا على رؤية كيفيّة تماسك جميع أجزاء الكتاب المقدس معًا، وكيف أنها جميعها توجهنا إلى يسوع.
مثال توضيحيّ من متى ١٢:
يمكننا أن نوضح في إيجاز تكامل هذين الاتجاهين في القراءة من خلال تطبيقهما على نص معين من كلمة الله:
فِي ذلِكَ الْوَقْتِ ذَهَبَ يَسُوعُ فِي السَّبْتِ بَيْنَ الزُّرُوعِ، فَجَاعَ تَلاَمِيذُهُ وَابْتَدَأُوا يَقْطِفُونَ سَنَابِلَ وَيَأْكُلُونَ. فَالْفَرِّيسِيُّونَ لَمَّا نَظَرُوا قَالُوا لَهُ: «هُوَذَا تَلاَمِيذُكَ يَفْعَلُونَ مَا لاَ يَحِلُّ فِعْلُهُ فِي السَّبْتِ!» فَقَالَ لَهُمْ: «أَمَا قَرَأْتُمْ مَا فَعَلَهُ دَاوُدُ حِينَ جَاعَ هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ؟ كَيْفَ دَخَلَ بَيْتَ اللهِ وَأَكَلَ خُبْزَ التَّقْدِمَةِ الَّذِي لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لَهُ وَلاَ لِلَّذِينَ مَعَهُ، بَلْ لِلْكَهَنَةِ فَقَطْ. أَوَ مَا قَرَأْتُمْ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ الْكَهَنَةَ فِي السَّبْتِ فِي الْهَيْكَلِ يُدَنِّسُونَ السَّبْتَ وَهُمْ أَبْرِيَاءُ؟ وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ ههُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ! فَلَوْ عَلِمْتُمْ مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لَمَا حَكَمْتُمْ عَلَى الأَبْرِيَاءِ! فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا. (متى ١٢: ١-٨)
تركّز قراءة هذا النص من الاتجاه القصصيّ على أن ما حدث مع داود ومن معه في ١ صموئيل ٢١ كان إشارة وظلاً للمسيح. ولكن ما هي بالتحديد الرابطة التي يخلقها يسوع بين الوضع الحالي وقصة داود؟ هل هي حدوث واقعة دخول داود بيت الله في يوم سبت؟ نحن ببساطة لا نعلم اليوم الذي دخل فيه داود إلى بيت الله. وإن كان هذا هو سبب استشهاد يسوع بالواقعة، ربما كان ليذكر وجه التشابه هذا، لكن هذا لم يحدث.
اذًا ما هي الرابطة؟ هل كان يسوع يقول: “إن لم يكن قد وقع ضرر من كسر الناموس مرة واحدة، فلا بأس من كسره مرة أخرى”؟ يمكننا في يقين أن نقول إن هذه لم تكن الرابطة بناء على كلمات يسوع السابقة لهذا عن التزامه بالناموس (انظر متى ٥: ١٧).
يشير يسوع هنا إلى أن تلاميذه لم يكسروا الناموس، أي أنهم “أبرياء”. فإن الرابطة لا تكمن في زمن القصة أو موضوعها. الرابطة هي في شخصيات القصة، وهذا يظهر أمامنا من خلال الانتباه إلى التدفّق القصصيّ لكلمة الله. فإن الكهنة فقط هم من كان مسموحًا لهم بأكل خبز التقدمة، بالطبع ما لم يأت شخص ما أعلى سلطة من الكهنة أنفسهم، أي شخص كان قد مُسح بالفعل ملكًا وكان له سلطان فوق سلطة الناموس.
هل كان يسوع، بسرده لهذا الجزء من تاريخ العهد القديم، يفترض بأن شخصًا ما في مثل عظمة داود، أو ربما أعظم منه، كان موجودًا بينهم، وأن الفريسيين كان لابد أن يدركوا ويقروا بهذا السلطان الأعظم، كما فعل أخيمالك قديمًا في ١ صموئيل ٢١؟ ذلك الحق، الذي نفهمه ضمنيًا من عددي ٣ و٤ يظهر بوضوح وبشكل صريح في الأعداد التالية، حين يعلن يسوع سموّه على كل من الكاهن والهيكل. وبالتالي فإن الأمر برمّته يتمحور حول من هو يسوع، وما يجعلنا نصل إلى هذا الاستنتاج هو الخط القصصيّ الخارج من داود. هذا الاتجاه إذًا يسلّط الضوء على النسل الداوديّ المتجه إلى المسيح، حاملاً في أحشائه جميع معاني ودلالات المُلك والسلطان التي قدمها سرد متى لكلمات المسيح.
لكن إلى أين ستأخذنا قراءة هذا النص وفقًا لاتجاه لاهوتيّ يدور بشكل أكبر حول فكرة رئيسيّة؟ يلفت هذا الاتجاه أنظارنا إلى موضوع حضور الله، ذلك الموضوع الذي يعجّ به العهد القديم بأكمله. فقد ظهر الهيكل بكل أهميته وقيمته ليكون صورة أكثر تعبيرًا عن هذا الحضور، وإشارة يسوع إلى نفسه باعتباره “أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ” قد صارت هي مركز كل الاهتمام، وقدمت المسيح باعتباره حضور الله الجديد في العالم، وبالأخص بين شعبه. بهذه الرابطة، تُعدّ سيادة يسوع على كل من يوم السبت ومن يحفظونه منطقيّة للغاية.
في النهاية، يقودنا كلا الاتجاهين إلى المسيح. فإن كل شيء يقود إلى المسيح، ويدفعنا، كما فعل المسيح نفسه، إلى أن نأتي إليه: “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ” (متى ١١: ٢٨-٢٩). وهكذا، فإن كلا الاتجاهين يساهمان في استماعنا إلى خبر رسالة الإنجيل.
وبقراءتنا لنص تلو الآخر من الكتاب المقدس، لابد أن يصير تأثير هذه القراءة هو على أقل تقدير استماع لرسالة الإنجيل مدعم دعمًا مزدوجًا. ففي كل نص يوجد على الأقل تركيز مزدوج على الإنجيل، الأول قصصيّ والآخر مبني على موضوعات، كل منهما يمتزج بالآخر لتعزيز حق وقوّة إنجيل يسوع المسيح وجعله أكثر حيويّة وفاعليّة.
خاتمة: الإنجيل باعتباره سببًا ونتيجةً لكلمةِ الله
إن خطة الله الأزليّة الفدائيّة العظيمة هي كل ما يدور حوله الإعلان الكتابيّ برمته. فهي ما أوجدت كلمة الله، وهي أيضًا ما قد عيّن الله أن تقدمه هذه الكلمة. ويُعدّ الخبر السار هو الموضوع الرئيسيّ الأوحد والجليل لكلمة الله: من خلال حياة المسيح التي كانت بلا خطية، وموته البديليّ، وقيامته، وخدمته الحاليّة، ومجيئه المنتصر مرة ثانية – حين يجتمع كل شيء “مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ” (أفسس ١: ١٠) – سيتمم الله قصده الكامل مع البشر ومع الخليقة ككل (رومية ٨: ٢١).
وبالتالي هذا هو ما ينبغي أن يشكل “تفصيلنا” لكلمة الله ويتحكم فيه، سواء في استخدامنا الشخصيّ لتلك الكلمة أو في مناداتنا بها في فرح، لمجد الله وخير جميع المفديين.
للمزيد من القراءة:
Clowney, Edmund P. The Unfolding Mystery: Discovering Christ in the Old Testament, Phillipsburg, NJ: P & R, 1988.
Goldsworthy, Graeme. The Goldsworthy Trilogy. Exeter: Paternoster, 2000.
Roberts, Vaughan. God’s Big Picture: Tracing the Storyline of the Bible. Downers Grove, IL: InterVarsity, 2002.
[1] هذا الجزء من عظة له بعنوان “كيف يمكن أن نقرأ كلمة الله بأكبر استفادة روحية ممكنة؟” كما اقتبسه دونالد ويتني:
Donald Whitney, Spiritual Disciplines for the Christian Life (Colorado Springs: NaVPress, 1991), 53.
[2] Bryan Chapell, Christ-Centered Preaching: Redeeming the Expository Sermon (Grand Rapids, MI: Baker, 1994), 275.