تضم رسالة بولس الرسول الثانية إلى مؤمني كورنثوس في بدايتها عبارة تسبر أغوار عمل الله الفدائي من خلال يسوع المسيح والعلاقة التي نتمتع بها معه بفضل هذا العمل.
وتأتي هذه العبارة في سياق تناول بولس تهمة عدم الإخلاص التي وجد نفسه معرَّضاً لها في كورنثوس بسبب تغيير طرأ على خططه لزيارة المدينة مرة أخرى. كان عليه أن يعيد ترتيب خطط سفره. وهو الآن يريد أن يوضح لمؤمني كورنثوس أنه ليس ذلك الشخص المتذبذب أو المتقلقل. فهو رجل يحفظ وعده (١: ١٧). وهو يريد أن يؤكد هذه النقطة لهم. وسبب هذا هو أنه يريدهم أن يفهموا أنه لا توجد رسالة مختلطة أو مشوشة أو صوت غير واضح من البوق عندما يتعلق الأمر ببشارة الإنجيل المعلنة لهم. “لكِنْ أَمِينٌ هُوَ اللهُ إِنَّ كَلاَمَنَا لَكُمْ لَمْ يَكُنْ نَعَمْ وَلاَ” (١: ١٨). توجد طريقة واحدة جلية للخلاص، وهي الرسالة التي كرز بها رفيقاه (سلوانس وتيموثاوس – ١: ١٩) لمؤمني كورنثوس، دون تقلقُل أو تذبذب، ودون اعتذار ودون مساومة (١: ١٨-١٩). فكانا أمينين في نقل خطة الخلاص.
وما أمانة هذين الرسولين غير انعكاس خفيف للطريقة التي تعامل بها الله مع مؤمني كورنثوس. “لأَنْ مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ اللهِ فَهُوَ فِيهِ «النَّعَمْ» وَفِيهِ «الآمِينُ»” (١: ٢٠ أ) لقد حقق الله وعوده بأمانة في ابنه. وفي يسوع المسيح تلقى كل هذه الوعودُ نَعَماً صريحة مدوّية! إذ تتحقّق في المسيح كل الوعود المتأصّلة في خلق الله للعالم، وحُكم أو تسلُّط الإنسان على العالم، وفي خلق الله للإنسان على صورته للشركة معه، وكل الوعود المقطوعة للإنسان الساقط في ما يتعلق بالفداء الآتي، من تكوين ٣: ١٦ إلى نظام الذبائح في إسرائيل إلى النبوّات المسيّانية والفدائية في العهد القديم، والوعد المقطوع لحواء فيما يتعلق بنسلها (تكوين ٣: ١٥)، إلى الوعد المقطوع لإبراهيم فيما يختص بذرّيته وبركة العالم (تكوين ١٢: ١-٣؛ ٢٢: ١٥-١٨)، إلى موسى الذي وعده الله بأن يرسل نبيّاً مثله (تثنية ١٨: ١٨)، إلى داود فيما يختص بابنه الذي سيجلس على عرشه إلى الأبد (١ صموئيل ٧: ١٢-١٣)، وإلى إشعياء الذي وعد الله على فمه بطفل مولود من عذراء (٧: ١٤)، وبملك أبدي (٩: ٢، ٦-٧)، وعبد متألم سيُرضي مخاض عذاباته وآلامه الله (٥٢: ١٣-٥٣: ١٢)، وإلى إرميا فيما يتعلق بعهد جديد يُطبع في قلوب الشعب (٣١: ٣١-٣٤). وتوجد بالإضافة إلى كل هذه الوعود الصريحة التي تتحقق في المسيح تلميحات أخرى ورموز مسبقة ونماذج أو طُرُز (حيث يكون شخص ما مثلا صورة للمسيح في جانب من جوانب حياته) وآمال (انظر لوقا ٢٤: ٢٥-٢٧؛ أعمال الرسل ٢: ١٦-٣٦؛ ٣: ٢٢-٢٥؛ ٧: ٢-٥٣؛ رومية ١: ٢-٣، ١٦- ١٧؛ ٣: ٢١-٢٦؛ ١ كورنثوس ٥: ٧-٨؛ ١٠: ١-٤؛ أفسس ٢: ١٣-١٤؛ عبرانيين ١: ١-٢؛ ٣: ٥-٦؛ ٤: ٨-٩؛ ٧: ١٧-٢٢، ٢٦: ٢٨؛ ٨: ٥؛ ٩: ٨-١٥، ٢٤-٢٦؛ ١٠: ١-١٨؛ ١١: ٣٩-٤٠؛ ١٢: ١٨-٢٤؛ ٣: ٩-١٠، ١١-١٢، ١٤؛ ١ بطرس ١: ١٠-١٢).
يسوع نفسه هو الرسالة (انظر ١: ١٩، “ابْنَ اللهِ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، الَّذِي كُرِزَ بِهِ بَيْنَكُمْ بِوَاسِطَتِنَا”). وهو تشخيص خطة الله البديعة للجنس البشري؛ وهو نقطة التعجب المجيدة والبهية لكل ما أعلنه الله عن نفسه؛ يسوع هو “النعم” لكل ما قصده الله في نعمته لنا.
لقد خطّط الله لكل هذا وأوصله إلى حالة إثمار من خلال عمل ابنه الخلاصي؛ ويظل الأمر متروكاً للإنسان لكي يتجاوب ويتلقّى ويُسبى: “فَهُوَ فِيهِ «النَّعَمْ» وَفِيهِ «الآمِينُ»، لِمَجْدِ اللهِ، بِوَاسِطَتِنَا” (١: ٢٠ ب). يؤكّد تعبير “فَهُوَ فِيهِ” على أن دور الله معتمد بشكل كامل وكلّي على دور المسيح؛ فقد بدأ وأكمل مقاصده الخلاصية من أجلنا: فاستجابتنا هي “أيضاً فيه” أو به، في الإقرار بنَعم الله لنا من خلال عمل المسيح الخلاصي. ويلخّص بولس استجابتنا بصفتها “آميننا”. يستخدم بولس هنا أسلوباً بلاغيّاً يسمّى مجازاً مرسلاً حيث يُذكَر الجزء لكي يمثّل الكل. ويشير بولس بهذا إلى أن كل استجابات صلواتنا وتسبيحنا وعبادتنا، التي تؤكّدها “آمين” المرفقة في آخرها (وتعني “آمين” “هذا صحيح” أو “ليكن كذلك”) هي تعابير قبول وتسليم ممتن لمقاصد الله المتصفة بالمحبة لنا في المسيح. وأكثر من ذلك، فإن حياتنا كلها (التي هي المجال الحقيقي للعبادة في العهد الجديد وفق يوحنا ٤: ٢٣ ورومية ١٢: ١) ينبغي أن تكون تثبيتاً وانعكاساً للعمل العجيب الذي عمله الله فينا. وآميننا هي استجابة المحبة الكاملة بكل قلبنا ونفسنا وفكرنا وقوّتنا (مرقس ١٢: ٣٠) “لنَعم” الله لنا في يسوع. ونحن نعبّر عن هذه المحبة من خلال حياة عبادة وأسلوب عبادة يتخلّل كل الحياة.
يجب أن نلاحظ أن يسوع المسيح ليس الرسالة فحسب (١: ١٩)؛ فليس هو تحقيق وعود الله الكثيرة فحسب (١: ٢٠ب)؛ وليس هو موضوع عبادتنا واستجابة “آمين” الممتنّة من قِبلنا (١: ٢٠ب) فحسب. فيسوع المسيح هو العامل النشط في استجابة عبادتنا لله من أجل كل ما فعله من أجلنا في ابنه. وليست “آميننا” له فحسب، أو من أجله فحسب، أو حتى من خلاله فحسب، لكن استجابة الآمين من قبلنا هي في واقع الأمر فيه أو به. وهذا هو ما توضحه الآية العشرون. فيسوع لا يتركنا في حالة ضعفنا وهشاشتنا (مع أننا مفديون) لكي نحتار في كيفية الوصول إلى استجابة ملائمة لله على وعوده الرائعة وتحقُّقها وإثمارها في ابنه. لا، فهو يقود الطريق بصفته وسيطنا في أن نعطي الآب تسبيحاً ومجداً وشكراً على العمل الفدائي، لأنه “يَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ” (أفسس ١: ١٠). وبالفعل فإن آمين العبادة هي من خلالنا، لكنها “فيه” أو به!
وما استجابتنا إلاّ صدى لاستجابة كاهننا الأعلى، يسوع، وكلها تعود على الله بالمجد (١: ٢٠ب) – لا لأننا قد أحضرنا مستوى أو صفة أو قدراً من الاستجابة الملائمة لمجده أو الجديرة به؛ لكن لأن المسيح الحي نفسه قد صنع استجابة الله لنا، بعمله هذا جعلها كاملة وجديرة ومقبولة. ويفعّل بديلنا، يسوع، العبادة الكاملة التي يطلبها الله في كماله، فتُحسَب لنا. والله بعمله هذا يعمل فعلاً فينا “مَا يُرْضِي أَمَامَهُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ” (عبرانيين ١٣: ٢١)، فتكون النتيجة أنه “لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ” (١ كورنثوس ١: ٢٩) تظهر وتعظّم آميننا (التي بدأها ونفّذها يسوع نفسه) مجد الله، في الاكتمال المعيَّن لعمل الله في قول “نعم” للجنس البشري في يسوع المسيح. وتُتم وتكمل آميننا نَعم الله. وفي المسيح تُنفَّذ وتكمَّل هذه الثنائية كلها. فهو القوة العاملة في كل من حركة نعم المتجهة من الله إلى الإنسان، وفي استجابة الإنسان بآمين الله. وهكذا يستمر يسوع في خدمته ذات الاتجاهين في التوسط بين الله والإنسان.
تعمل كل هذه الجوانب – خطة الله، وتحقيقها في المسيح، واستجابتنا في العبادة – معاً لكي تحفزنا على “مدح مجده” (أفسس ١: ٦، ١٢، ١٤) بين المفديين وكل أجناد الملائكة (رؤيا ٥). يقول جون بايبر إن “معنى الكون هو أن الله يخرج للعلن من أجل مجد الله.” ويتحقق هذا المعنى ويتجلّى هذا المجد، من خلال “نعم” الله السيادية والمنعمة لنا في المسيح يسوع ومن خلال استجابتنا المتواضعة التي لا نهاية لها بآمين.
قال الله: “ها هو ابني مقدَّم من أجل خلاصكم. نعم!”
ونحن نجيب: “نشكرك أيها الآب. شكراً لك، يا يسوع. آمين!”
وهكذا يمجّد الله اسمه المبارك مجداً كبيراً.
نعم: آمين!