كتب الرسول بولس، وهو أعظم مثال في التاريخ “لشخص كامل الاهتداء والتجديد” (هذا هو التعبير الذي وصف به سي. أس. لويس الرسول بولس) بعض أسمى تسابيح الشكر لله الموجودة في كلمة الله؛ وتظهر هذه التسابيح عادة كاستجابة نابعة من صميم القلب لطبيعة الحقائق الرائعة التي قاده الروح القدس إلى كتابتها في رسائله:
“يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقْصَاءِ! … لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ.” (رومية ١١: ٣٣، ٣٦)
“مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ” (أفسس ١: ٣)
“وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا، لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ.” (أفسس ٣: ٢٠-٢١)
وتطل تسبيحة شكر لله أخرى لبولس برأسها من الصورة السوداء التي يصف بها بولس سقوط الإنسان في رومية ١: ١٨-٣٢. ففي تحليل بولس المفصل للكيفية الوثنية التي نقضت بها البشرية النظام المخلوق بحيث عبد الناس “المخلوق دون الخالق”، لم يستطع بولس أن يتمالك نفسه لدى ذِكر الله الخالق، من أن يضيف قائلاً، “الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ”. (رومية ١: ٢٥).
يبيّن بولس هنا بقوة صحة مقولة جي. آي. باكر من أن “القصد من اللاهوت هو تقديم تسبيح الشكر الله. فنحن ندرس لكي نسبّح الله.” وأنه لأمر مثير للاهتمام أن هتاف التسبيح يبرز في تناوله لعقيدة الخطية. فنحن نرى في هذا التناول توق بولس إلى مجد الله ونفوره الشديد مما اقترفه الخطاة (الذين اعتبر نفسه أولهم – ١ تيموثاوس ١: ١٥) تحدّياً لدور الله الشرعي.
تنبع استجابة بولس العبادية من اقتناعه أن الخالق وحده مستحق للعبادة والتمجيد، وليس “المخلوق” رو ١: ٢٥. وهو يدعو الناس جهلاء أو حمقى في رومية ١: ٢٢–٢٣ لإبدالهم مجد الله الذي لا يفنى (لا يفسد) بصورة الأشياء المخلوقة ويوحي هذا السياق بالفعل بأن مسألة العبادة كانت كامنة في سقوط الإنسان.
وتفترض العبادة مسبقاً، في فهمها الأساسي وجود تمييز أساسي بين العابد وموضوع العبادة. وحتى في أكثر استخدامات هذا التعبير ابتذالاً (حيث يقال مثلاً إن هنالك جماهير “تعبد” موسيقيين ورياضيين مشهورين)، توجد هنالك فكرة أن قدرات هؤلاء الأشخاص أو جاذبيتهم متفوقة جداً على قدرات وجاذبية الأشخاص العاديين. وعندما يتعلّق الأمر بالله، فإن الهوّة هي بلا حدود. فالله فريد لا مثل له في هذا الكون. وفي واقع الأمر هو الذي صنع الكون، فكل شيء آخر يدين بالفضل له في وجوده. فالله وحده هو الذي بلا بداية، وبلا علة، وبلا حدود أو محدوديّات. وعلى الرغم من منزلة الإنسان الرفيعة في كونه مخلوقاً على صورة الله، إلا أنه ما زالت توجد بينها هوة لا نهاية لها تفصله كمخلوق عن الله الخالق.
غير أن الخطية في حُمقها تسعى إلى تشويه هذا الفرق وجَسْر تلك الهوّة. كانت هذه هي القضية الأساسية في التجربة التي قدّمها إبليس (الحية) لحوّاء في جنة عدن: “تَكُونَانِ كَاللهِ” (تكوين ٣: ٥). استهدف الهجوم فرادة الله الكلّية بصفته الخالق ورب الكل، واستهدف أيضاً التفريق الأساسي بينه وبين كل مخلوقاته، بما في ذلك حوّاء (وآدم وإبليس). وبطبيعة الحال، اتهم إبليس الله أيضاً بالكذب على حوّاء (تكوين ٣: ٤) وبدوافع تطعن في كمال الله، في حين أن المخلوق الساقط، إبليس، هو الذي كان قادراً على مثل هذه الأعمال والأفكار.
وهكذا كانت هنالك في جنة عدن (وما زال هنالك منذ ذلك الوقت حتى الآن) محاولة وقحة للنزول بالله إلى مستوى أكثر شبهاً بالمخلوقات، وإلى رفع الإنسان إلى مستوى أكثر شبهاً بالله. وغني عن القول إن المحاولة السابقة إهانة لله (بالإضافة إلى كونها أمراً مستحيلاً). أمّا المحاولة الثانية فهي إنكار لمكانة الإنسان الصحيحة في العالم المخلوق ورفض للإقرار بمكانة الله العزيز والاستجابة الملائمة لذلك.
هذا هو تماماً ما نراه في الإصحاح الأول من الرسالة إلى رومية. ويذكر بولس في الآية ٢١ أن البشر الخطاة “لم يمجّدوه أو يشكروه كإله.” ويأتي هذا على الرغم من قدرتهم على ملاحظة قوّته وعظمته في أعمال الطبيعة (الآية ٢٠). توحي عبارة بولس في الآية ٢١، على الرغم من أنها مستخدمة في حالة النفي للإشارة إلى ما يرفض الإنسان الطبيعي أن يفعله باستمرار، بما يجب أن تكون عليه الاستجابة الملائمة للبشر المخلوقين نحو خالقهم. إذ ينبغي عليهم أن يمجّدوه كإله (أي أن ينسبوا له المكانة الفريدة التي يتمتع فيها بشكل مشروع بصفته الله، (“قَدِّمُوا لِلرَّبِّ مَجْدَ اسْمِهِ” مزمور ٩٦: ٨)، ولم “يشكروه” على عطاياه الصالحة. ويلائم هذا صيغة تسبيح الله على هويته (“أن يمجدوه كإله”) وعلى ما فعله (“أن يشكروه”).
نأى آدم وحوّاء بنفسيهما عن تمجيد خالقهما وتكريمه بصفته الله وحده، وبدلاً من أن يشكرا الله على الأشياء الحسنة جداً (تكوين ١: ٣١) التي صنعها الله وعهِدَ بها إليهما لكي يهتما بها (تكوين ١: ٢٨)، فقد رغبا في المزيد، مع أن ذلك عنى أن يعصيا الله ويحاولا اغتصاب مركزه الفريد. وهكذا كان بولس في رومية 1 يصف في واقع الأمر الوضع المحيط بالسقوط، بالإضافة إلى العواقب التي ترتّبت في الأجيال التالية. إذاً كانت (وما تزال) وراء مشكلة الخطيّة مسألة العبادة، وهي ألا نكرم الله ونقدّم له الشكر.
لكن يجب أن نتراجع الآن قليلاً لكي نوسع نظرتنا لتشمل كل حجة بولس في رسالته إلى مؤمني رومية. فمن هذا المنظور نرى في حقيقة الأمر أن بولس يرسم هذه الصورة القاتمة لحالة الإنسان الساقط في الإصحاح الأول من الرسالة إلى مؤمني رومية لكي يشع نور الإنجيل بشكل أكثر سطوعاً وهو يشرحه ويطوّره في الإصحاحات التالية. ونحن نرى بالفعل في الإصحاح من هذه الرسالة إشارة واضحة إلى الاتجاه الذي يسير فيه بولس، لأنه يتحدث في الآيات السابقة مباشرة للآيات التي درسناها عن “الإنجيل” الذي هو قوة الله لكل من يؤمن، ونتيجة لذلك يستطيع المرء أن يصبح إنساناً بارّاً (١: ١٦-١٧).
لا يعد بولس بما هو أقل من إعادة العبادة من خلال المسيح، بشكل مناقض لسقوط الإنسان في الخطية (١: ١٨-٣٢) من خلال قوّة محبة الله الغادية التي ظهرت في بشارة الإنجيل. فبعمل الله المخلّص والمتّسم بالنعمة (وهو ما سيشرحه بولس في الإصحاح الثالث)، سيصير ممكناً فعلاً أن يعبده أو يكرمه البشر كإله وأن يقدّموا له الشكر. وبسبب مراحم الله هذه (رأفة الله) (كما سيخلص بولس الإصحاحات السابقة في ١٢: ١)، فإنه يحث المؤمنين على أن يقدّموا كامل ذواتهم إلى الله كذبيحة خدمة عبادة روحية ملائمة مناسبة.
وهكذا نجد في واحد من أكثر إصحاحات الكتاب المقدس سوداويةً جوهرة لامعة كامنة. إذ نجد وصفاً رائعاً وبديعاً لما يجب أن تكون عليه العبادة. لننشغل إذاً “بالعمل الحلو” (كما دعا آيزاك ووتس العبادة) حيث نكرمه بصفته الله ونقدم له الشكر.