الكرازة وحوار الأديان في عالم ما بعد الحداثة

أوصى المسيح تلاميذه قبيل صعوده إلى السماء قائلًا: “اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ” (متى 19:28). وخلال القرون الأولى للمسيحيَّة، جال كثيرون من أتباع المسيح محاولين عبور الحواجز الثقافيَّة والدينيَّة، ومُعرِّضين حياتهم للأخطار بهدف تحقيق إرساليَّة المسيح العُظمى. لكن للأسف، تحت تأثير سياقات ما بعد الحداثة، وتحت شِعار “المحبة”، دفع المسيحيُّون الليبراليُّون الكنيسة نحو حوارات أديان جوفاء، بينما المنظور المُحافظ للكرازة هو الأكثر منطقيَّة واتساقًا مع الكتاب المقدَّس والتاريخ المسيحيّ.

حوار الأديان عبر التاريخ

القارئ الجيِّد لتاريخ العمل المُرسلي وحوارات الأديان يمكنه بسهولة أن يستشف أن الطرق التي استخدمها المسيحيُّون طوال التاريخ المسيحيّ في التواصل مع الأديان الأخرى قد تغيَّرت وتشكلَّت بحسب الثقافة والعصر الذي عاشوا فيه. فمثلًا، من الصعب فصل ما تكبَّده المسيحيُّون الأوائل من أثمان باهظة ورفضهم التخلِّي عن إيمانهم المسيحيّ، أو المخاطرة والخروج خارج دوائر راحتهم للوصول لأمم وأديان أخرى، عن إيمانهم بحصريَّة الخلاص في المسيح. فلو كان الخلاص ممكنًا بعيدًا عن الإيمان الواعي بيسوع المسيح، لما كان كل هذا العناء والشقاء، طالما كان بإمكان الجهل أن يُخلِّصهم.

لكن ثمَّة انحراف في تعامل المسيحيَّة مع الأديان الأخرى بعد أن أصبحت الديانة الرسميَّة للإمبراطوريَّة الرومانيَّة. إذ اتَّسم توجُّه الدولة المسيحيَّة بالعدائيَّة لأصحاب الديانات الأخرى. وتحوَّلت الكنيسة من مُضطهَدة إلى مُضطهِدة للأديان الأخرى، والذي انعكس ذروته في الحروب الصليبيَّة. ولا ننسى كتابات المُصلحين البروتستانتيِّين في عصر الإصلاح والتي لم تخلوا بدورها من بعض العبارات العدائيّة الصريحة لأصحاب الأديان الأخرى. يمكننا فقط أن نستثني من تلك الحقبة محاولات اللاهوتيِّين المسيحيِّين الناطقين بالعربيَّة لشرح الإيمان المسيحي للمسلمين مستخدمين الألفاظ والتعبيرات التي يفهمونها.[1]

ثمَّ في عصور الاستعمار، أخذ التعامل مع الديانات الأخرى منحى آخر. إذ أصبحت كلمة “تنصير الشعوب المُستعمَرة” مرادفة لكلمة التحضُّر والتمدُّن. تلك النظرة، كما هو واضح، قد اتَّسمت بالنظرة الفوقيَّة للمُستعمر الأوروبي تجاه الشعوب التي استعمروها في الهند وإفريقيا والأمريكتين.[2] بكل تأكيد، كان في وسط هذه الاتجاهات والانحرافات الكثير والكثير من المُرسلين الأمناء الذين أقدموا على الذهاب للكرازة وغسل أرجل الأمم. فليس الغرض هنا هو محو تاريخ الكرازة لكل الأمم، بل فقط توضيح أنه في وسط تحرُّك المؤمنين الأمناء لطاعة الإرساليَّة العظمى، كان في وسطهم أناس، وإن كثروا، تحرَّكوا لأغراض غير كتابيَّة متأثِّرين بثقافة زمانهم.

حوار الأديان اليوم

أذكر عندما كنت في كليَّة اللاهوت في مصر، وشاركت بعض زملائي وأساتذتي بخططي للسفر إلى أمريكا لدراسة مقارنة وحوارات الأديان، كان رد أغلبهم بتردُّد: “ولما لا تسعى لدراسة اللاهوت النظاميّ أو الكتابيّ؟” وكان جوابي ببساطة، أن حقل حوار الأديان قد تُرك مرتعًّا للاهوتيِّين الليبراليِّين لينشروا فكرهم من خلاله، ويجب أن تكون هناك أصوات لاهوتيَّة عربيَّة مُحافظة يكون لها إسهاماتها في هذا المساق.

الكرازة من خلال السلوك فقط

يميل الكثير من المسيحيِّين المعاصرين اليوم، تحت تأثير ما بعد الحداثة، إلى إساءة استخدام مفهوم حوار الأديان لعرقلة الكرازة ومشاركة الإيمان مع الآخرين. فمثلًا، يُنادون بأهميَّة الكرازة بالسلوك وليس بالكلمات. ولا أدري لمَ وُضِع السلوك في تضاد مع الكرازة بكلماتنا؟ إن الأمر ليس هذا أو ذاك، وإنما هذا وذاك معًا. إن ما تستلزمه الكرازة والتبشير، بكل تأكيد، ليس أقل من سلوكنا، ولكنه في الوقت نفسه أكثر من مجرَّد سلوكنا فقط.[3] فنحن، كسفراء عن المسيح، بكل تأكيد علينا أن نحيا بحسب قوانين الملكوت، وأن يكون سلوكنا شاهدًا عن عظمة هذا الملكوت الذي نحن مواطنون فيه وسفراء عنه، ولكننا في ذات الوقت مُطالبون بأن “نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ” (كورنثوس الثانية 20:5). إن دورنا، ككهنوت ملوكي، هو أن نُخبر بفضائل الذي دعانا من الظُلمة إلى نوره العجيب (بطرس الأولى 9:2)، وأن نكون مُستعدِّين دائمًا لمُجاوبة كل من يسألنا عن سبب الرجاء الذي فينا (بطرس الأولى 15:3).

ثلاث فرضيات خاطئة حول حوار الأديان

في كتابه، المسيحيَّة على مائدة حوار الأديان، يصف تيموثي تيننت ثلاثة افتراضات خاطئة يستخدمها المسيحيُّون المُعاصرون في تعاملهم مع حوار الأديان مع أصحاب الديانات الأخرى.

1. تحييد الإيمان

أولًا، يدَّعون أن إنجاح حوارات الأديان مع الآخر يستلزم تحييد الإيمان وألَّا يكون الشخص شديد التمسُّك بإيمانه، وإلَّا لَمَا كان ذلك حوارًا حقيقيًّا. ولكن، كما يتساءل تيننت، كيف لشخصٍ غير مقتنعٍ بإيمانه أن يدخل في حوارٍ حقيقيِّ عميق؟[4] إن الأمر أشبه بأن تُطالب الملح ألَّا يكون مُملح، حتى يتسنَّى للآخر أن يكتشف ما هو الملح في جوٍّ آمن.[5] كما يُعلِّق على هذه الفرضيَّة برمَّتها قائلًا: “أنا مقتنع أن الحوارات الحقيقيَّة يجب أن تجمع أولئك المقتنعين بدينهم معًا”.[6] فما الذي يتبقَّى في الحوار إن أخفينا إيماننا، أو قُمنا بتحييد الحق؟

صحيح أنه من الرائع والجميل أن نُركِّز على القيم المشترَكة بين كافة الأديان، كالتسامح والمحبة والغفران. لكن حتى الباعث على هذه القيم المشترَكة يختلف باختلاف الديانة. فالهندوسي يفعلها ليتجنُّب الكارما وتناسخ الأرواح ويصل إلى النيرفانا، ويفعلها المُسلم لينال رضا الله ولعله يصل إلى جنَّته، بينما يفعلها المؤمن المسيحيّ لأجل ما فعله المسيح، ولمجد الآب ولأنه يُحب الابن، ويفعلها بقوَّة الروح القدس، وليس بقوته الذاتيَّة. فيقول الرسول يوحنا: “نَحْنُ نُحِبُّ لأَنَّ اللهَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً” (يوحنا الأولى 19:4، ترجمة كتاب الحياة)؛ ويقول الرسول بولس: “كُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ” (أفسس 32:4).

2. نسبيَّة الحق

ثانيًا، يؤمنون بأن الحق نسبيّ وأن لكافَّة الأديان ذات جوهر وإن اختلفوا في الممارسات والطقوس الشكليَّة.[7] بالنسبة لهم، الأمر أشبه بمَثَل إدخال فيل إلى غُرفة مُظلمة، وإمساك كل طرفٍ بجزء من الفيل والتعبير عن خبرته لما أمسكه من هذا الفيل على أنه كل الفيل.[8] وبالتالي، يكون الحل الذي يطرحونه هو إذابة الحواجز الشكليَّة بين هذه الأديان، ومحاولة تعلُّم أبعاد أخرى عن الإيمان وعن الله من الأديان الأخرى. لكن الصورة التي يُقدِّمها لنا الكتاب المقدَّس عن الله ليست كهذا الفيل. يقول عالم مقارنات الأديان، جورج مارتن، إنَّ حقيقتين هما ما يُشكِّل معرفتنا بالله والأديان: (1) أن الله موجود، (2) وأنه أعلن عن نفسه.[9]

فكون الله موجود، هذا يدحض تأثُّر علم مُقارنة الأديان بنظريَّة التطوُّر، أي بأن كافَّة الأديان هي صناعة بشرية ناجمة عن خوف الإنسان البدائيّ من الظواهر، التي لم يقوَ على تفسيرها آنذاك، وأنها قد مرَّت بعدَّة مراحل من التطوُّر (من الإيمان بتعدُّد الآلهة وصولًا إلى الإيمان بإله واحد). لكن ما حدث هو عكس ذلك تمامًا. في كتابه عن أديان العالم، يدحض وينفريد كوردوان هذه النظريَّة مُحاجًا بأن الدراسة الدقيقة لتطوُّر كل الأديان تقودنا إلى استنتاج أن جذور الأديان قد بدأت بالوحدانيَّة ثم آلت إلى تعدُّد الآلهة.[10]

كما أن الإيمان بأن الله عامل في التاريخ وقد أعلن عن ذاته، ينسف فكرة أن البشر هم من يحاولون تخمين ماهيَّة هذا الإله بلغاتهم وتعبيراتهم واختباراتهم القاصرة والمحدودة. بينما الحقيقة هي أن الله أعلن عن نفسه لنا في المسيح من خلال كلمته المكتوبة والمعصومة. تأمَّل ما قاله تيننت ردًّا على هذه الفرضيَّة الخاطئة:

لم أرَ دليلًا مقنعًا قط على وجود جذور مُشتركة أو أهداف مشتركة لأديان العالم… فإمَّا أن يكون الله شخصًا [كما تقول المسيحيَّة] أو لا [كما تقول الهندوسيَّة]. إمَّا أن يكون الله قد تجسَّد في يسوع المسيح، أو لم يفعل. إمَّا أن يكون الله قد تكلَّم إلى مُحمَّد من خلال جبريل، أو لم يفعل.[11]

في الواقع، إن حوار الأديان ليس مكانًا للمساومة وإنَّما محاولة للإصغاء إلى الآخر، إلى جانب حُسن استغلال مثل هذه الفُرص لتقديم الحجج والبراهين للآخر عن سبب الرجاء الذي فينا، مع احتفاظه بحق القبول أو الرفض لما نُقدِّمه له.

3. الكرازة والتبشير

وهذا يقودنا إلى النقطة الثالثة، وهي أن الكرازة والتبشير ليست ضمن أجندة المسيحيِّين الليبراليِّين. يُشخِّص تيننت حوارات الأديان اليوم بأنه قد غاب عنها العُنصر اللاهوتيّ، وأصبحت مُجرَّد حوارات أنثروبولوجيّة–مركزها ومحورها الإنسان.[12] تبنَّى المسيحيُّون من كاثوليك وبروتستانت، منذ مجمع الفاتيكان الثاني، الاعتقاد بأن ثمَّة وحيًّا إلهيًّا في الأديان الأخرى.

وها نحن اليوم، نقرأ بين الحين والآخر عن توابع مثل هذه الفكرة، بدءًا من حركة الاهتداء السريّ (The insider Movement)، ووصولًا إلى المحاولات المتصوِّفة المختلفة، وإمكانيَّة الخلاص “بالجهل” لمن لم يسمع رسالة الإنجيل! وأنا لست هُنا لمناقشة ما إذا كان بإمكان الله أن يستخدم التصوُّف أو الأحلام أو الرؤى كجسر ليأتي بأبناء كثيرين ليُملِّكوا المسيح على قلوبهم ربًّا وسيِّدًا. ولكنِّي فقط أردت أن أسجِّل هنا نقطة وهي أننا حوَّلنا الجسور إلى أراضٍ صُلبة يمكن للخلاص أن يُبنى عليها، ونسينا أنها مجرَّد جسور!

إن مثل هذه الأفكار تقتل الكرازة في مهدها. فلمَ المعاناة، ولمَ الشقاء، طالما أن بإمكان من لم يسمع أن يخلُص إن كان له إيمان حسن؟ وهذا هو لُب القضيَّة. لقد أعاد الليبراليُّون تعريف الإيمان ليُصبح مدى تصديقك لشيء أو لفكرة ما. فكلَّما كنت صادقًا ومخلصًا لما تؤمن به، أيًّا كان ما هو، فهذا يمكنه أن يُخلِّصك. ولكن هذا منافيًا تمامًا لما يُعلنه الكتاب المقدَّس، الذي يؤكِّد أن العبرة ليست بمقدار الإيمان (فقد تحدَّث يسوع عن أن إيمانًا مثل حبة خردل قادر على نقل جبل)، ولكن العبرة بمن هو موضوع إيمانك. يقول الرسول بولس: “لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ” (تيموثاوس الثانية 12:1). إن موضوع إيماننا، شخص المسيح وعمله الكفاريّ، هو ما يُخلِّصنا، وليس قوَّة إيماننا.

بولس في أثينا

لقد قدَّم الرسول بولس في أريوس باغوس، في أثينا، نموذجًا رائعًا لحوار الأديان (أعمال الرسل 15:17–34). فقد استخدم المُصطلحات والأطروحات الفكريَّة التي يفهمها مستمعوه، دون أن يُساوم على جوهر الرسالة التي يُقدِّمها. لذا، فليس هدف المقالة أن نصُم آذاننا عن الخلفيَّة الدينيَّة والثقافيَّة لمن نُشاركهم رسالة الإنجيل، وإنَّما دعوة لتصحيح بعض الافتراضات الخاطئة غير الكتابيَّة والتي تُساوم على الحق.

إن دور الكنيسة هو أن تُرشد الآخرين للطريق بالمصطلحات والمفردات التي يفهمونها. ولكن أبدًا ليس دورها أن تقوم برصف وتوسيع ذلك الطريق الكرب والضيِّق الذي دشنه المسيح! ليس دورها أن تنزع سراج الكلمة، وأن تضع عوض عنه أعمدة إنارة من إبداعات كلام حكمتها المنطقيّ. ليس دورها أن تقوم بتحييد الحق، ظنًّا منها بأنها ستجني من وراء ذلك تدفُّقًا رهيبًا لأعداد مهولة في الطريق السلس الجديد. لأن المفاجأة ستكون مدوية: أنها ستجد أن لا المعاندين دخلوا، ولا الساجدين الحقيقيِّين بقوا. وإنما سيُهجر ذلك الطريق الجديد، وستتحوَّل الكنائس إلى متاحف فارغة، وستترك بيوتهم لهم خرابًا، كما هو الحال اليوم في الكنائس الليبراليَّة في أمريكا وأوروبا.


[1] Mina Yousef, “Severus ibn al-Muqaffaʿ (d. after 987): A Coptic Apologist, Defending Christianity in Arabic,” in Medieval Encounters: Arabic-speaking Christians and Islam, ed. Ayman S. Ibrahim (Piscataway: Gorgias Press, 2022), 309–348.

[2] D.D. Pani, “Fatal Hindu Gospel Stumbling Blocks,” In International Journal of Frontier Missions: 24, https://www.ijfm.org/PDFs_IJFM/18_1_PDFs/dp_stumbling_blocks.pdf

[3] Timothy Paul Jones, “What is Apologitics?” unpublished class notes for 28700WW (The Southern Baptist Theological Seminary, Fall 2021).

[4] Timothy C. Tennent, Christianity at the Religious Roundtable: Evangelicalism in Conversation with Hinduism, Buddhism, and Islam (Grand Rapids: Baker Academic, 2002), 14.

[5] Ibid., 14.

[6] Ibid., 14.

[7] Ibid., 14–15.

[8] George Martin, “What is Religion: The Present Context,” unpublished class notes for 32980WW (The Southern Baptist Theological Seminary, Fall 2022).

[9] George Martin, “Worldviews and its Importance,” unpublished class notes for 32980WW (The Southern Baptist Theological Seminary, Fall 2022).

[10] Winfried Corduan, Neighboring Faiths: A Christian Introduction to World Religions (InterVarsity Press, 1998), 19–280.

[11] Tennent, Christianity at the Religious Roundtable, 15.

[12] Ibid., 15.

شارك مع أصدقائك

مينا م. يوسف

يدرس حاليًا درجة الدكتوراة (Ph.D) في الإرساليات والأديان المقارنة في الكليّة المعمدانيّة الجنوبيّة، بولاية كنتاكي الأمريكيّة. كما حصل على درجة الماجستير (M.A) في الدراسات الإسلاميّة من جامعة كولومبيا الدوليّة، بولاية ساوث كارولاينا الأمريكيّة. ويعمل كمدير مشروعات الشرق الأوسط في خدمات الألفيّة الثالثة، وكمساعد أستاذ للدراسات العربيّة والإسلامية بالكليّة المعمدانية الجنوبية. كما شارك في تأليف كتاب Medieval Encounters باللغة الإنجليزيّة.