لاهوت المُصلِحين

التعريف

التعاليم المُمَيَّزة التي شَدَّدَتْ عليها الشخصيات الرائِدة في إصلاح القرن السادس عشر.

الموجَز

سَيُسَلِّط هذا المقال الضوء على السياق الفكري الذي ظَهَرَ فيه الإصلاح البروتستانتي، كما يبحث مَوَاطِن التركيز اللاهوتيَّة البارزة لهذه الحركة: الكتاب المقدس وحده، الإيمان وحده، والطريقة التي يرسمها الكتاب المقدس للعبادة، ومحبة القريب، ولاهوت العهد، وعقيدة التعيين المُسبَق. سوف يُسَلِّط هذا المقال الضوء أيضًا بإيجاز على السمات المُمَيِّزة لفِكْر إعادة المعموديَّة أو الأنابابتيزِم Anabaptism.


يعني فَهْمُ لاهوت المُصلِحين وَضْعَه داخل السياقات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والدينيَّة لأوروبا في أواخِر العصور الوُسطَى، والتي كانت فترة اكتشافٍ، وتَوَسُّعٍ، وإعادة ولادة (وهو ما تعنيه كلمة “Renaissance”، أي عصر النهضة في أوروبا)– من النواحي الجُغرافيَّة والتكنولوچيَّة واللاهوتيَّة والدراسيَّة. لقد تَلَاقَت الأفكار اللاهوتيَّة التي عَلَّم بها وجَسَّدها المُصلِحون أمثال لوثر وكالڤن وزوينجلي ومُعيدي المعموديَّة جميعها -على الرغم من تَعَدُّد أشكالها الظاهِر- حول الأدوار التي لا يمكن المساومة بشأن مركزيَّتها المُتَمَثِّلة في أدوار الكتاب المقدَّس، والتبرير بالإيمان وحده، والطبيعة المجَّانيَّة بالكامل للنعمة، وكيفية قبول المجتمع المسيحي عطية الخلاص هذه ومشاركتها فيما بينهم وخارجهم أيضًا. نَظَرَ التيار الرئيسي من المُصلِحين البروتستانت إلى مجهوداته باعتبارها محاولةً لاستعادة التقليد اللاهوتي للمسيحيَّة التاريخيَّة وتطويره، وفي هذا الصدد كان لاهوت المُصلِحين مشروعًا مسكونيًّا وإنجيليًّا عَلَى حَدِّ سَواءٍ سعى إلى فَهْم الكُتُب المقدَّسة المسيحيَّة وفقًا لأفضل جهود تقليد آباء الكنيسة وتقليد العصور الوُسطَى، وإلى جَعْل العبادة والحياة المُعاصِرتَيْنِ مُتَوافِقتَيْنِ مع الجذور الرسوليَّة للرَّبِّ يسوع والكنيسة الأولى.

يجب أن تتضمَّن الصورة الشاملة للأفكار اللاهوتيَّة التي قَدَّمها الإصلاح البروتستانتي الذي يعود إلى القرن السادس عشر السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي ظَهَرَت فيه، فحتى التركيز على جانب واحد من الإصلاح البروتستانتي، والذي هو إرثه اللاهوتي في هذه الحالة، يتطلَّب إمعان النظر في الخلفيَّة الفكريَّة للقرن السادس عشر؛ فلم يعمل مارتن لوثر الشهير أو زملاؤه من عصر الإصلاح بِمَعزِلٍ عن العالم.

نَهْج حركة الإصلاح في اللاهوت

ومن أجل أن نفهم إرثه اللاهوتي يَجدُر تسليط الضوء على جانبين على الأقل من الخلفيَّة الفكريَّة للإصلاح البروتستانتي. أولًا- شَهِدَتْ فترة الإصلاح صعود الاتجاهات الإنسانيَّة [التابعة للمَذهَب الإنساني] في المعرفة، والتي ثَمَّنَت فَحْص المصادر الأوَّلِيَّة بِلُغاتها الأصليَّة، وقد اعتَنَق المُصلِحون نداء الإنسانيِّين الشهير بالعودة ad fontes، [وهو التعبير اللاتيني] الذي يعني “إلى المصادر”، وطَبَّقوا نَفْس هذه المناهج الإنسانيَّة على الكتاب المقدَّس نفسه، مُفَتِّشين عن أفضل المخطوطات للنصوص الكتابيَّة، ومُتَرجِمين إيَّاها من لُغَتَيْها الأصليَّتَيْن، العبريَّة واليونانيَّة، بدلًا من الاعتماد على ترجمة الڤولجاتا اللاتينيَّة الشائِعة الاستخدام في يومهم، وقد تَزَامَنَتْ هذه الحركة من العبريَّة المسيحيَّة[1] مع حركات تأسيس مناصب أُستاذِيَّة جامِعيَّة في اللغة العبريَّة ومع أوقاف ماليَّة مُخَصَّصَة لهذا الأمر في عدد من الجامعات في أوروبا. طَبَّق المُصلِحون أيضًا نَهْجًا مُمَاثِلًا على التقاليد اللاهوتيَّة التي ورثوها، فقد استعاد المُصلِحون وضخَّموا أصوات الأعمال اللاهوتيَّة الهامة وأفكار اللاهوتيِّين المسيحيِّين السابِقين، كأُوغسطينوس وكبريانوس ويوحنا ذهبيّ الفم والآباء الكَبَّادوكيِّين[2]، وفي هذا الصدد لم تَكُنْ معتقدات المُصلِحين جديدةً أو مُستَحدَثَةً؛ حيث حرص المُصلِحون بِشِدَّة على تأكيد استمراريَّتهم مع أفضل الموروثات اللاهوتيَّة المسيحيَّة وأكثرها صِحَّةً، والتي تتوافق جميعها مع الكتاب المقدَّس.

ثانيًا- استعملت الجامعات الأوروبيَّة في فترة الإصلاح الطُّرُق السكولاستيَّة (أو المدرسيَّة أو الجداليَّة) بهدف توصيل الأفكار بوضوحٍ ودِقَّةٍ، وتم تدريس واستخدام مَنطِق أرسطو وخَطَابته بطُرُقٍ متنوعة سعيًا وراء هذا الهدف. على الرغم من تنديد مارتن لوثر بأخطاء لاهوتيِّي العصور الوسطى بعبارات طَنَّانة في “Disputation on Scholastic Theology” (أو نقاش/جدال حول اللاهوت السكولاستيّ) الذي طَرَحَه عام 1517، فقد تَدَرَّب لوثر أيضًا على هذه الطُّرُق نفسها، واستخدمها في جِدَاله الشهير مع إيراسموس حول حرية الإرادة خلال نفس الفترة. لعبت هذه الطُّرُق السكولاستيَّة، كما سنرى أدناه، دورًا هامًّا في تلخيص آراء الإصلاح وهيكلتها نظاميًّا لاحقًا في القرنَيْنِ السادس عشر والسابع عشر.

فيما يتعلَّق بلوثر، سيكون من الصعب المبالغة في التشديد على أهمية دوره في السنوات الأولى من الإصلاح البروتستانتي في ألمانيا أو دور چون كالڤن في سويسرا، وتشكيل “رابطة” دوليَّة لاحقًا بين اللوثريِّين والكالڤينيِّين، ولكن قد شَدَّدت في الوقت ذاته دراسة حركة الإصلاح في السنوات الأخيرة على أنَّ لوثر وكالڤن تَشَكَّلا من قِبَل أسلافهما، وعَمِلا بالتعاون مع مجموعة واسعة من مُعاصِريهم المُهِمِّين الآخرين في كافة أنحاء أوروبا (بل وخارج أوروبا في الواقع كما يظهر، على سبيل المثال، في العمل الحديث لديڤيد دانيِلز عن تفاعُل لوثر مع الشَّمَّاس مايكل من أثيوبيا)؛ وعليه فَمِن المُهِم لكي نفهم لاهوت الإصلاح ألَّا نأخذ في الاعتبار فقط أعمال لوثر وكالڤن، ولكن أن نأخذ في اعتبارنا أيضًا أعمال زوينجلي، بوتسر، بولينجر، ڤِرميلي، زانكي، پِركِنز، ميلانكثون، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. من الناحية العمليَّة، يُؤكِّد إبراز اتِّسَاع إطار شخصيات الإصلاح ومناطقه على الوحدة المتنوعة اللافِتة التي نراها في لاهوته، فقد سمح لاهوت الإصلاح بِقَدْرٍ كبير من التنوع حول القضايا التي تأتي في المرتَبَتَيْنِ الثانية والثالثة من حيث الأهميَّة، وسمح كذلك بِقَدْرٍ كبير من التنوع في تطبيق لاهوته في سياقات وطنيَّة مُتَخَالِفَة، ولكن في الوقت ذاته وَجَدَ المُصلِحون تَقارُبًا قويًّا حول عقائد الإيمان المركزيَّة، وفي هذا الاتفاق وجدوا كذلك استمراريَّة قويَّة مع تقليد الكنيسة.

الكتاب المقدس وحده

يمكن القول إنَّ الإيمان بأنَّ الكتاب المقدَّس وحده يجب أن يكون السُّلطَة النهائيَّة للاهوت الكنيسة هو الالتزام اللاهوتي الأهم في التقليد المُصلَح. غالبًا ما يُشار إلى هذا الالتزام بعقيدة الكتاب المقدَّس وحده Sola Scriptura على أنَّه العِلَّة الصُّوريَّة[3] لحركة الإصلاح لأنَّ كُلَّ جزء آخر في لاهوت الإصلاح يَنْبُعُ من هذا الالتزام بكلمة الله باعتبارها الـ principium (وهي كلمة لاتينيَّة تعني بداية، أصل، مصدر) أو المبدأ الأساسي للتفكير اللاهوتي (مزمور 119؛ تيموثاوس الثانية 3: 16-17؛ بطرس الثانية 1: 16-21).

لذلك يتضمَّن لاهوت الإصلاح بالضرورة التزامًا بوحي كلمة الله وكفايتها ووضوحها وسلطانها وضرورتها، فكلمات الكتاب المقدَّس أوحى بها الله، وهي كل ما يَلزَم للإيمان ولِعَيْش حياةٍ تُرضي الله، ويُمكِن فهمها بوضوح فيما يتعلَّق بالأمور الجوهريَّة للخلاص، وتتطلَّب الخضوع من جانب الشخص المؤمن، وعلى هذا النحو فهي ضروريَّة لصحة شعب الله وحياتهم؛ ومن هنا نَجِد في كُلٍّ من لاهوت وليتورچِيَّة التقاليد الكنسيَّة التي خرجت من رَحِم الإصلاح البروتستانتي مبدأ الكتاب المقدَّس وحده Sola Scriptura منسوجًا في جميع منسوجاتهم.

ولكن هناك تنبيه واحد مُهِمّ تَجدُر الإشارة إليه بالإضافة إلى هذه الالتزامات المُصلَحة المُهِمَّة بشأن أولويَّة الكتاب المقدَّس، وهو أنَّه على الرغم من أنَّ لاهوت الإصلاح يُعَرِّف الكتاب المقدَّس وحده باعتباره السُّلطَة النهائيَّة للإيمان والحياة، فإنَّه يُؤَكِّد أيضًا أنَّ التقليد اللاهوتي يمكن أن يكون مُسَاعَدَةً مفيدة في فَهْم كلمة الله، فالتفكير اللاهوتي يتضمَّن قراءة الكتاب المقدَّس، والاستقاء من أفضل بَصَائِر تأمُّلات الماضي، والعودة باستمرار إلى النَّصِّ بِنَمَطٍ دائري في ضوء ما يَجِدُّ من أسئلة وخبرات. إنَّ التقليد مُفيدٌ إلى حَدِّ أنَّه هو أيضًا يضع نفسه تحت سُلطَة الكتاب المقدَّس (تسالونيكي الثانية 2: 15؛ 3: 6). لقد قاد هذا الموضوع الشائك الخاص باستخدام التقليد الكاثوليك والبروتستانت إلى الدخول في جدالاتٍ مُحتَدِمَةٍ حول الحق في العبادة وحول إثبات صحة اللاهوت والتطبيق العملي البروتستانتِيَّيْنِ.

الإيمان وحده

يُحارِب لاهوت الإصلاح أيضًا من أجل عقيدة خلاص تُشَدِّد على نعمة الله ورحمته بدلًا من الاستحقاق البشري (رومية 4: 3-5)، وذلك من وحي تَدَفُّق هذه العقيدة من كل جزء في الكتاب المقدَّس. إنَّ العِلَّة الماديَّة لحركة الإصلاح هي الإيمان بأنَّ البشر يتبرَّرون بنعمة الله عن طريق الإيمان وحده، وليس بالتزامنا الشخصي بأعمال الناموس (رومية 3: 20-25؛ أفسس 2: 8-9).

يقع هذا الالتزام بعقيدة الإيمان وحده sola fide على مَقرُبَةٍ من قلب التعليم الكتابي، فعندما يتوب الشخص عن خطاياه ويبدأ في الاعتماد على المسيح وحده كابن الله ومُخَلِّص الخُطاة، فهو لا يدخل فقط في علاقة مع المسيح كأخٍ، بل يدخل أيضًا في علاقة مع الله كأبٍ (رومية 8: 10-17)، وهذا الاتحاد بالمسيح هو مصدر كل الفوائد الخلاصيَّة التي يمنحها الله، ويُمَثِّل التبرير الأساس القانوني لهذا الاتحاد (فيلبي 3: 8-11). نحن نَقبَل ونستند إلى العمل البار للمسيح وحده من أجل الخلاص (غلاطية 2: 20)، فتُحسَب أعمال يسوع البارَّة على أنَّها بِرُّنا، ويُحسَب الموت البار ليسوع على أنَّه عقاب إثمنا (1كورنثوس 1: 30؛ 2كورنثوس 5: 21)، تُحسَب خطايانا ليسوع، ويُحسَب بر يسوع لنا (رومية 5: 1-21). إنَّ الخلاص هو علاقة مع الله يعطي الله شعبَه إيَّاها كعطيَّةٍ، ولا يمكن استحقاقها بالمجهود البشري.

لذلك فإنَّ الرجاء الوحيد الذي يملكه الشخص المسيحي يُلَخِّصه على نحوٍ جميل السؤال الستون في دليل أسئلة وأجوبة هايدِلبِرج للإيمان المسيحي، وهذا الدليل هو صِيغَةٌ مُصلَحةٌ للإيمان المسيحي تعود لِعَام 1563:

س: كيف أنت بارٌّ أمام الله؟

ج: فقط بالإيمان الحقيقي بيسوع المسيح. على الرغم من أنَّ ضميري يتَّهمني بأنِّي قد أخطأتُ بشكلٍ فادِحٍ إلى كل وصايا الله، وبأنِّي لم أحفظ قَطُّ أيًّا منها، وبأنِّي ما زِلتُ أميل إلى كُلِّ الشر، فإنَّ الله، وبدون أي استحقاقٍ من جهتي، ولكن انطلاقًا من نعمةٍ بَحْتَةٍ، يمنحني ويضع في حسابي الإرضاء الكامل الذي أرضى به المسيحُ الآبَ، وبرَّه الكامل، وقداستَه الكاملة، كما لو أنِّي لم أُخطِئ قَطُّ ولا كنتُ يومًا شخصًا خاطِئًا، وكما لو كنتُ طائِعًا بالكامل مثلما كان المسيح طائِعًا من أجلي. كُلُّ ما عليَّ فِعْله هو قبول هذه العطيَّة بقلبٍ مؤمنٍ [تَمَّت إضافة التنسيق العريض لبعض الكلمات].

تُسَلِّط الأجزاء ذات التنسيق العريض الضوء على الموضوعات اللاهوتيَّة التي أحدثت شرخًا بين الكاثوليك والبروتستانت، فقد شَكَّل التشديد البروتستانتي على الإيمان وحده sola fide والنعمة وحدها sola gratia (“انطلاقًا من نعمةٍ بَحْتَةٍ”، و”قبول… بقلبٍ مؤمنٍ”)، كما يستطيع المرء أن يرى، جوهر عقيدة التبرير بالإيمان وحده بالنسبة للبروتستانت، وجاء هذا التشديد مدعومًا بتشديدٍ آخر مُصاحِبٍ على أمرَيْنِ، هُمَا “الاتحاد بالمسيح” كعطيَّةٍ، والتَّوَحُّد والحُسبان الكُلِّيَّانِ بالمسيح وبرِّه وللمسيح وبرِّه، وهُمَا الأمران اللذان جُعِلا فاعِلَيْنِ ومُخَلِّصَيْنِ من خلال عمل الروح القدس، وبشكل أساسي من خلال الدور الفعَّال لوسائط النعمة والشَّرِكَة مع الله الثالوث، والتي تشمل: الوعظ، والأسرار المقدَّسة، والصلاة.

العبادة بحسب الكتاب المقدَّس

يُعَدُّ لاهوت العبادة أيضًا مسألةً مُهِمَّة جدًّا لتقليد المُصلِحين، حيث يُشَدِّد لاهوت الإصلاح على أنَّ الوصايا العشر لا تُطالِب فقط بعبادة الإله الواحد الحقيقي (خروج 20: 3)، ولكنَّها تُطالِب أيضًا بعبادة الله عبادة حقيقيَّة (خروج 20: 4-6)، فبينما كانت كنيسة العصور الوُسطَى قد طَوَّرَتْ خدمة عبادة مُتَزَايِدَة التعقيد ومشحونة بالبِدَع والطقوس، أشار المُصلِحون إلى خطر عبادة الأصنام في أي عنصرٍ من عناصر العبادة أوجده تصميمٌ بشريٌّ بِمَنْأى عن الإعلان الإلهي الخاص.

رَدًّا على أولئك الذين يُضيفون اختراعاتٍ بشريَّة إلى توجيهات الله بشأن العبادة، يتذكَّر لاهوت الإصلاح ردَّ الرب يسوع على الفريسيِّين في أيامه: “وَبَاطِلًا يَعْبُدُونَني وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ” (مَتَّى 15: 9). يتمجَّد الله من خلال العبادة التي تتبع تعليم الكتاب المقدَّس ونَمَطَه الصريحَيْن، والتي تشمل قراءة كلمة الله والوعظ بها، والصلوات المنطوقة والمُرَنَّمة، وممارسة سِرَّي المعموديَّة وعشاء الرَّبِّ اللذَيْنِ أسَّسهما الرَّبُّ يسوع نفسه. أن تعبد كما أوصى الله هو أن تعبد بالروح والحق (يوحنا 4: 23-24).

محبة القريب والاهتمام بالمُهَمَّشين

لقد شَدَّد لاهوت الإصلاح تاريخيًّا أيضًا على التقوى والأخلاقيَّات الشخصيَّة بالإضافة إلى الالتزامات والواجبات الجماعيَّة لجسد المسيح. يُعَدُّ موضوع “محبة القريب” ومسألة الاهتمام بالفقراء واليتامى والأرامل تطبيقَيْنِ عَمَلِيَّيْنِ مَركَزِيَّيْنِ لمعتقدات الإصلاح (غلاطية 2: 10؛ يعقوب 1: 27؛ 2: 14-16)، فقد جادلت أطروحات مارتن لوثر الـ 95 الشهيرة بأنَّ الإساءات التي ارتكبتها كنيسة العصور الوُسطَى -ولا سِيَّما مسألة بيع صكوك الغفران- لم تَكُن خاطِئة فقط لأنَّها افتقرت إلى الأساس الكتابي، بل أيضًا لأنَّها رَفَّعَت الثروة الأرضيَّة على نحوٍ خاطئ لِتَحُلَّ مَحَلَّ التقوى الحقيقيَّة والاهتمام الأصيل بالفقراء. وعلى نفس المنوال اشتهرت مدينة چِنيڤ في عهد كالڤن برعايتها النظاميَّة للفقراء واللاجئين، ولا يزال فَهْم كالڤن لدور الشَّمَّاس ذا تأثيرٍ رئيسيٍّ في التفكير المُصلَح حتى يومنا هذا.

لاهوت العهد

غالبًا ما يَقتَرِن لاهوت العهد باللاهوت المُصلَح كطريقةٍ لربط هذه الموضوعات الأربعة المُتعلِّقة بالكتاب المقدس، وعقيدة الخلاص، ولاهوت العبادة، والاهتمام بالقريب. كلاسيكيًّا، طَوَّر المُصلِحون عقيدة عهد الله مع البشريَّة من أجل التشديد على كُلٍّ من سيادة الله المُنعِمَة في الخلاص، والاستجابة المُناسِبة المُتَوَقَّعَة من الشخص المُخَلَّص بالنعمة. صنع الله عهدًا مع آدم وقت الخلق وَعَدَه فيه بالحياة طالما استمر آدم في حالةٍ من الطاعة الشخصيَّة والدائِمة (تكوين 2: 15-17)، وبعد السقوط وَعَدَ الله بأنَّ واحِدًا من نَسْل آدم وحواء سيسحق رأس الحيَّة (تكوين 3: 15)، وعادةً ما يُفهَم هذا الوعد على أنَّه أول إعلان بالإنجيل، وعلى أنَّه تأسيس عهد النعمة، وهو العهد الذي سيُشَكِّل لاحِقًا الأساس لعمل الله الخلاصي عَبْر كُلِّ العهد القديم والعهد الجديد (تكوين 12: 1-3؛ غلاطية 2: 7-3: 29).

ولكن ما علاقة هذه التَّعَهُّدات بالموضوعات الأربعة التي حَدَّدناها سابِقًا؟ والرَّدُّ هو أنَّ الكتاب المقدَّس هو سِجِلّ علاقة الله العهديَّة مع البشريَّة، ويسوع هو النسل الموعود به الذي أحضرت حياته وموته البارَّانِ الخلاص الموعود به إلى شعب الله من خلال تبريرهم أمام الله (غلاطية 3: 16)، والعبادة هي اجتماع شعب الله العهدي للاحتفال بعلاقتهم مع إلههم الصانِع العهد (ويُرَى هذا ضِمنِيًّا في الكتاب المقدَّس بطُرُقٍ مختلفة، ولكنَّه يُصبِح في غاية الوضوح في ممارسة سِرِّ العشاء الرَّبَّاني في 1كورنثوس 11: 23-26)، وكَمَنْ قَبِلوا علاقة العهد هذه شاكِرين، فإنَّ شعب الله مَدعُوُّون للرَّدِّ على ذلك بحياةٍ أمينة يحيونها بالتوافُق مع التزامهم العهديّ بأنْ يُحِبُّوا الله مِنْ كُلِّ قَلْبِهم، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِهم، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِهم، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِهم، وَبأنْ يُحِبُّوا أقرباءهم مِثْلَ نفوسهم (لوقا 10: 27).

التعيين المُسبَق

أخيرًا، وبالارتباط الوثيق بهذه الموضوعات العهديَّة، يُؤَكِّد اللاهوت المُصلَح عقيدة التعيين المُسبَق الكتابيَّة. تَتَمَثَّل الأهداف الأساسيَّة لعقيدة التعيين المُسبَق في جَعْل المؤمنين مُمتَنِّين، ومُتَوَاضِعين، وجريئين في مشاركة الإنجيل، فينبغي أن يكون مَنْ قَبِلوا نعمة الله مُمتَنِّين لأنَّ الله اختار أن يُعطيهم خلاصَه كعطيَّةٍ (2تيموثاوس 1: 9)، وينبغي أن يكون مَنْ قَبِلوا نعمة الله متواضعين لأنَّ الخلاص يعتمد في النهاية على مشيئة الله لا على الاستحقاق البشري (رومية 8: 28-30؛ أفسس 1: 3-14)، وأولئك الذين يعلمون أنَّ الخلاص يعتمد على رحمة الله السياديَّة يَتَحَرَّرون ليُعلِنوا الخبر السار بِجُرْأَةٍ مُتَوَقِّعين أن يُحضِر الله جميع أولئك المُختارين للخلاص إلى الفرح النابِع من الحياة الأبديَّة في حضور الله (1بطرس 2: 4-10).

إنَّ التأكيد على أنَّ إرادة الله أساسيَّة ومُتَسَيِّدة في عمل التعيين المُسبَق لا يعني إنكار أنَّ البشر لديهم إرادة أو لديهم وكالة حقيقيَّة، وذلك على الرغم من أنَّ بعض المعالجات الشائعة لعقيدة التعيين المُسبَق على مَرِّ السنين بَدَت أنَّها تفعل ذلك. يُؤكِّد اللاهوت المُصلَح أنَّ قرار الثقة بالله يتم اختباره كقرارٍ بشريّ، وأنَّ قرار رفض الله يتم اتِّخاذه كَفِعْلٍ حقيقيّ تقوم به الإرادة البشريَّة (يوحنا 5: 40). عندما يتعلَّق الأمر بالإيمان بالله، يُحَدِّد اللاهوت المُصلَح الكلاسيكي علاقةً تَزَامُنِيَّة بين إرادة الله وإرادة الإنسان بدلًا من تَصَوُّر الإرادتين في تَبَارٍ (يوحنا 6: 44)؛ فإرادة الإنسان تتوقَّف في النهاية على إرادة الله (فيلبّي 2: 13)، ومع ذلك فإرادة الإنسان بِحُرِّيَّةٍ تؤمن بالله (رومية 6: 16-23).

هناك جدلٌ كبير بين اللاهوتيِّين المُصلَحين المُعاصِرين حول أفضل المصطلحات التي يجب استخدامها في التعبير عن تَوَافُق إرادة الله وإرادة الإنسان، ولكن النقطة المُهِمَّة هو أنَّ إقرار إيمان وستمنستر، والذي رُبَّما يكون الإقرار الإيماني الأكثر اكتمالًا في تكوينه بعد حركة الإصلاح، والذي يحتوي على عقيدة تعيين مُسبَق شديدة القُوَّة، تَضَمَّن فصلًا كاملًا يُجمِل طبيعة حُرِّيَّة إرادة الإنسان. يُعَلِّمنا الكتاب المقدَّس بوضوح أنَّنا “نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلًا” (1يوحنا 4: 19)، وفي الوقت ذاته يُعَلِّمنا الكتاب المقدَّس بوضوح أيضًا أنَّ الروح القدس يُمَكِّن الإنسان من أن يُحِب الله بِشكلٍ حُرٍّ كعملٍ حقيقيٍّ تقوم به الإرادة.

لقد كان من الصعب منذ فترة الإصلاح فَصْل التفكير في عقيدة التعيين المُسبَق عن اسم چون كالڤن. للأسف، كثيرًا ما خَالَفَت المعالجات اللاهوتيَّة لهذه العقيدة تحذير كالڤن بتجنُّب التَّكَهُّن بشأن أشياء لم يُعلِنها الله، حيث كَتَبَ كالڤن في عمله الشهير أُسُس الدِّين المسيحي (الكتاب الثالث، الفصل الحادي والعشرون، 1-2) أنَّ “الفضول البشريّ يُصَيِّر مناقشة الاختيار السابق [التعيين المُسبَق]، وهو موضوعٌ صعبٌ نوعًا ما في حدِّ ذاته، أمرًا مُحَيِّرًا بل خَطِرًا”. لقد شَدَّد كالڤن بثباتٍ مستمر على أنَّ الله لا يُعلِن لنا مَنْ هُم المُعَيَّنين سابقًا للحياة؛ ولذا فالتَّكَهُّن بِهُوِيَّة مُختَارِي الله ليس فقط أمرًا غير لائِقٍ، ولكنَّه أيضًا أمرٌ “غبيٌّ وخَطِرٌ، لا بل مُميتٌ”. يجب أن تنحصر عقيدة التعيين المُسبَق الكتابيَّة فيما هو مُعلَن في الكتاب المقدَّس، ألا وهو أنَّ الله مُتَسَيِّدٌ، وأنَّ الخلاص عطيَّةٌ. بالنسبة إلى كالڤن “متى تجاوزنا حدود الكلمة، انحرف سبيلنا عن الدرب القويم وتُهنا في غياهب الظلام”، وهنالك “لا بُدَّ من أنَّنا مِرارًا سَنَشرُد وننزلق ونتعثَّر”. يجب أن تجعلنا عقيدة التعيين المُسبَق شاكِرين، ومُتَوَاضِعين، وجريئين في مشاركة الإنجيل، ويجب التعامُل معها بِحَذَرٍ شديد.

لاهوت الإصلاح والأنابابتيست

لا بُدَّ من أن تشمل أيّ مناقشةٍ لحركة التجديد في المسيحيَّة الغربيَّة، والتي ندعوها الآن حركة الإصلاح البروتستانتي، الحديث عن مُعيدي المعموديَّة أو الأنابابتيست Anabaptists. غالبًا ما أشارت الدراسات القديمة إلى مُعيدي المعموديَّة بأسماءٍ غير مناسبة، مثل “الإصلاح الراديكالي” أو “المُصلِحين الراديكاليِّين”، وبالنسبة للبعض، فإنَّ كلمة “راديكالي” في حد ذاتها تَستَبعِد مُعيدي المعموديَّة من أن يُنظَر إليهم نظرةً جِدِّيَّةً، إلَّا أنَّ مثل هذه الألقاب تعكس في الواقع أحكامًا لاهوتيَّة واضحة؛ ومن ثَمَّ ينبغي تصحيح هذا الاتجاه التأريخيّ خاصًّةً في ضوء التأثير المستمر لآراء مُعيدي المعموديَّة داخل التقاليد الأوسع للإصلاح. هناك ثلاثة جوانب من تركيز مُعيدي المعموديَّة على الرجوع إلى الإيمان “الأول والرسولي” للرَّبِّ يسوع والكنيسة الأولى تستحق التضمين هنا، ولا سِيَّما لأنَّها تُلقي بظلالٍ مُؤثِّرة ومُمْتَدَّة على الطريقة التي صاغ بها المعمدانيُّون اللاحِقون، بما في ذلك أولئك الذين في السياقات الإنجليزيَّة والأمريكيَّة، ما يَخصُّهم من لاهوت الأسرار المقدَّسة، وعلم الكنيسة، واللاهوت السياسي. يُعتَبَر The Schleitheim Confession (أو اعتراف إيمان شِلايتهايم) أحد الوثائق الرئيسيَّة للاهوت مُعيدي المعموديَّة، وقد تم إعداد هذا الاعتراف عام 1527 بين الإخوة السويسريِّين[4] الذين سعوا إلى “مزيد من الإصلاح” في الكنيسة تحت قيادة ميشائيل زاتلَر، فقد كانت حركة إعادة المعموديَّة حركةً مُستوحاة في الأصل من أعمال مارتن لوثر وهولدريش زوينجلي، وهُما اللذان انتهى بهما الأمر مُهاجِمين بشدَّة التجاوزات المُتَصَوَّرَة والفِعْلِيَّة لمُعيدي المعموديَّة. لقد جَحَدَت البنود السبعة الوارِدة في The Schleitheim Confession (أو اعتراف إيمان شِلايتهايم) ممارسة معموديَّة الأطفال مُعتَنِقَةً بدلًا منها معموديَّة المؤمن (البند الأول)؛ وعَبَّرت عن رؤيةٍ تذكاريَّة للعشاء الرَّبَّاني مُنتَقِدَةً بقسوة عقيدة استحالة الجوهر الكاثوليكيَّة باعتبارها اشتراكًا في “مائدة” و”كأس شياطين” (البند 3)؛ وأكَّدت على الفصل الراديكالي بين الكنيسة والدولة، إلى جانب الدفاع عن النزعة السلميَّة الراديكاليَّة [عدم المقاومة، عدم استخدام السلاح، اللاحرب، اللاعنف] (البندان 4 و6).

الخَاتِمَة

سيكون من الجيِّد للمُهتَمِّين بالتَّعَمُّق أكثر في دراسة لاهوت المُصلِحين أن يبدأوا بإقرارات الإيمان وأدِلَّة الأسئلة والأجوبة للإيمان المسيحي من القرنين السادس عشر والسابع عشر، فبالإضافة إلى دليل أسئلة وأجوبة هايدِلبِرج للإيمان المسيحي وإقرار إيمان وستمنستر واعتراف إيمان شِلايتهايم المذكورين أعلاه، يَظَلُّ اعتراف إيمان أوجسبورج the Augsburg Confession (1530) إلى جانب الوثائق الأخرى المجموعة معًا في كتاب الوِفَاق the Book of Concord (1580) أساسيِّين لفَهْم اللوثريَّة التاريخيَّة، ولا يزال اعتراف الإيمان البلچيكي the Belgic Confession (1561) يَبسُط نفوذه على الكنائس المُصلَحة[5]، ويعمل اعتراف إيمان لندن المعمداني the London Baptist Confession (1644) كدليلٍ مستمر للكنائس المعمدانيَّة التي تسعى إلى رَبْط نفسها بلاهوت المُصلِحين.


[1] أي دراسة المسيحيِّين للُّغَة العبريَّة.

[2] الآباء الكَبَّادوكيُّون هم: باسيليوس الكبير أسقف قيصريَّة، غريغوريوس أسقف نيصص، غريغوريوس النِّزْيَنْزِي.

[3] يُشير إلى نظرية السببيَّة عند أرسطو، والذي يُحَدِّد فيها أرسطو أربعة أنواع من العِلَل التي يُمكن تقديمها في جواب عن سؤال يبدأ بـ “لماذا”:

  • العِلَّة الماديَّة: المادة، ما يُصنَع بواسطته الشيء، مثل معدن البرونز بالنسبة لتمثال.
  • العِلَّة الصوريَّة: الصورة، هيئة ما ستكون عليه المادة، الفكرة والتصوُّر الذي يحمله الصانع أو المُصَمِّم في ذهنه بأبعاد وقياسات ومواصفات تُكسِب هذه المادة شكلًا خاصًّا ومُعَيَّنًا يخضع لأهداف محددة، مثل الشكل الذي سيكون عليه التمثال.
  • العِلَّة الفاعِليَّة: المصدر الأَوَّلي للتغيير أو السكون، مثل النحَّات، أو فن النحت، أو الشخص الذي يُسدي نصيحة، أو الأب بالنسبة إلى ولادة طفله.
  • العِلَّة الغائيَّة: الغاية، ما من أجله يُفعَل الشيء، مثل أن تكون الصحة غاية المشي، أو فقدان الوزن، أو العقاقير، أو المُعِدَّات الجراحيَّة.

[4] الإخوة السويسريُّون هُمْ فرع من الأنابابتيزِم Anabaptism بدأ في زيورِخ، وانتشر في المدن والبلدات المجاورة، ثم تم تصديره إلى البلدان المجاورة.

[5] وهي كل الكنائس التي تتبع التقليد المُصلَح أو الكالڤيني، وذلك بخلاف اللوثريين أو الكنائس اللوثريَّة التي تتبع التقليد اللوثري، وأساس الاختلاف بين التقليدَيْنِ هو حول عشاء الرب.

شارك مع أصدقائك

حاصل على درجة الدكتوراة من جامعة كامبردج، ويعمل كأستاذ للتاريخ المسيحيّ بجامعة فاندربيلت.