المسيح وذبائح العهد القديم

التعريف

تتعلَّق الفكرة الكتابيَّة للذبيحة بطريقة التقرُّب من الله، وإيجاد القبول أمامه عن طريق بديل مقبول يُقدَّم نيابةً عن الخاطئ ويحمل لعنة الخطيَّة.

المُوجز

تستعرض هذه المقالة فكرة الذبيحة في العهد القديم لتحديد المغزى المقصود منها، ثم تستعرض المقالة أهمِّيَّة موت المسيح الخلاصيِّ كما قدَّمته هذه الأنواع من الذبائح، مع التركيز على عبرانيِّين 9-10.


فكرة الذبيحة وطريقة ممارسة تقديمها فكرة بارزة في جميع مواضع القصَّة الكتابيَّة. يوجد في الأقلِّ تلميح واحد لتلك الفكرة يعود إلى تكوين 3: 21، إذ قدَّم الله أقمصة من جلد لآدم وحوَّاء. نقرأ في تكوين 4: 2-5 عن الذبيحتين اللتين قدَّمهما قايين وهابيل، واللذان يُفترَض أنَّهما تعلَّما هذه الممارسة من آدم وحوَّاء. ثمَّ نقرأ عن الذبائح التي قدَّمها نوح (تكوين 8: 20)، وإبراهيم (تكوين 12: 7-8؛ 13: 4، 18؛ 22: 13)، وإسحاق (تكوين 26: 25)، ويعقوب (31: 54؛ 33: 20؛ 35: 1-7؛ 46: 1)، وأيُّوب (1: 5؛ 42: 8). ثمَّ تظهر فكرة الذبائح بالطبع في سفر الخروج واللاويِّين بكلِّ وضوحٍ. يخلِّص الله شعب إسرائيل من مصر حتَّى يخرجوا ويقدِّموا له ذبيحة (خروج ٣: ١٨؛ ٥: ٣، إلخ؛ راجع ١٧: ١٥)، وفي الواقع يكون خلاصهم بهذه الذبيحة (خروج 12).

وفي خروج 20 وما يليه، وفي سفر اللاويِّين، يعطي الله لموسى وصايا مُفصَّلة لتأسيس وممارسة نظام الذبائح الذي كان يميِّز عبادة إسرائيل بحسب شروط العهد القديم. كان يجب تقديم أنواع مختلفة من الذبائح (ذبيحة المحرقة، ذبيحة الإثم، ذبيحة الخطيَّة، ذبيحة السلامة) في أوقات مختلفة ولأغراض مختلفة محدَّدة. ثمَّ أمست ممارسة تقديم الذبائح في العهد الجديد أقلَّ وضوحًا، لكنَّ التعبيرات المُستخدَمة لوصف الذبائح تتَّضح في الإشارة إلى موت المسيح. هدفنا هنا الكشف عن معنى وأهمِّيَّة الذبيحة في العهد القديم لكي ندرك بصورة أفضل القيمة الخلاصيَّة لموت المسيح كما أوضحها كُتَّاب العهد الجديد.

الذبيحة في العهد القديم

كما لاحظنا من قبل، فإنَّ فكرة الذبيحة تبدأ في الإصحاحات الأولى من سفر التكوين في فجر التاريخ. لا تتَّضح الأهمِّيَّة المرتبطة بالأقمصة الجلديَّة المقدَّمة لآدم وحوَّاء (تكوين 3: 21) على الفور، ولا يمكن فهمها فهمًا كاملاً إلاَّ برؤيتها بالعودة إلى الوراء والنظر من خلال الإعلان اللاحق. كلُّ ما يمكننا قوله في هذه المرحلة هو إنَّ الله ستر عارهم بطريقة تنطوي على موت.

وبالمثل، فإنَّ أهمِّيَّة الذبيحتين اللتين قدَّمهما قايين وهابيل (تكوين ٤: ٢- ٥) ليست واضحة على الفور. كلُّ ما يخبرنا الكتاب المقدَّس به هو أنَّ تقدمة قايين كانت “مِنْ أَثْمَارِ الأَرْضِ” (الآية ٣)، أمَّا تقدمة هابيل فكانت “مِنْ أَبْكَارِ غَنَمِهِ” (الآية ٤)، وأنَّ الربَّ “نظر” (أي قَبِلَ) تقدمة هابيل لكنَّه رفض تقدمة قايين (الآيات ٤-٥). بافتراض أنَّ قايين وهابيل تعلَّما فكرة التقدمة لله وواجبها من والديهما (تكوين 3: 21)، يمكننا أن نفترض أيضًا أنَّ تقدمة قايين كانت خروجًا عن القاعدة، ولكن لعدم توافر معلومات أكثر ممَّا لدينا في هذه المرحلة، يبقى هذا مجرَّد تخمين. يكرِّر كاتب الرسالة إلى العبرانيِّين أنَّ ذبيحة هابيل قد قُبلت، ويضيف أنَّها قُدِّمت “بالإيمان” وبهذا الإيمان “شُهِدَ لَهُ أَنَّهُ بَارٌّ” (عبرانيِّين 11: 4). يبدو أنَّه توجد معانٍ كثيرة ضمنيَّة في رواية سفر التكوين، لكن يجب علينا أن نفحص المزيد من الإعلان لنرى حقيقة الأمر.

لم يُذكَر بوضوحٍ الغرض المحدَّد من ذبيحة نوح (تكوين 8: 20-21)، بل كلُّ ما ذُكر كان: “فَتَنَسَّمَ الرَّبُّ رَائِحَةَ الرِّضَا”، ووعدَ بمواصلة البركة. من المؤكَّد أنَّ فكرة “رَائِحَةَ الرِّضَا” لا تشير إلى أنَّ اللحم المدخَّن كانت “رائحته طيِّبة”، بل إلى أنَّ الله كان مسرورًا بما تعنيه الذبيحة، وعلى هذا الأساس وعد بالبركة. وفكرة الرضا ليست فكرة مستبعدة، لكنَّنا سنحتاج إلى مزيد من الإعلان لتأكيدها.

في تكوين 22، أمر الله إبراهيم أن يقدِّم ابنه إسحاق ذبيحةً. ولكن قبل تنفيذ عمليَّة الذبح فعليًّا، أعدَّ الله كبشًا ليموت بدلاً من إسحاق. وهنا تبرز فكرة البديل الذي قدَّمه الله (راجع يوحنَّا ٣: ١٦؛ رومية ٨: ٣٢).

مع أنَّ ذبائح أيُّوب (1: 5) ليست محدَّدة بدقَّة، فقد قيل لنا إنَّها قُدِّمت لله بسبب الخطيَّة. وبالمثل، بسبب خطايا أصدقاء أيُّوب وغضب الله عليهم، أُمروا بتقديم ذبيحة (42: 7-8). ومن الواضح هنا أنَّ الذبيحة هي لغرض تهدئة الغضب الإلهيِّ المُعلَن على الخطاة.

يُفترض في وصيَّة ذبح خروف الفصح (خروج 12) وجود فكرة الخطيَّة، وفكرة البديل (الآيات 3، 13)، والخلاص من الدينونة الإلهيَّة (الآيات 12، 23)، كما تبرز فكرة ضرورة الدم. فبواسطة ذبيحة خروف بلا عيب يُرشُّ دمه بطريقة صحيحة، نجا كلُّ بيتٍ إسرائيليٍّ من حكم الله بالموت.

ومع وصايا الله المتعلِّقة بالذبيحة الواردة في سفر اللاويِّين، يتَّخذ الموضوع تعريفًا أكثر وضوحًا. إنَّ تكرار وقوع “الخطيَّة” وعبارات مثل “إذا أخطأ أحد” (أو ما شابه ذلك) و”من أجل الخطيَّة” عشرات المرَّات في جميع أنحاء السفر واشتراط “الاعتراف بالخطيَّة” مع تقديم الذبائح كلِّها تحدِّد أنَّ الخطيَّة هي السبب في تقديم الذبائح وهي التي استدعت ظهورها. إنَّ المصطلحات الوصفيَّة مثل “ذبيحة الإثم” و”ذبيحة الخطيَّة” ومتطلَّبات أن تكون الذبيحة نفسها “بلا عيب” تعكس الشيء نفسه.

وبالمثل، فإنَّ المفردات المتكرِّرة كثيرًا مثل “الكفَّارة” (kaphar/exilaskomai، التي تشير إلى الكفَّارة، والاسترضاء) و”المغفرة” تحدِّد الغرض من تلك الذبائح. يلخِّص النصُّ في لاويِّين 5: 10 الفكرة: “فَيُكَفِّرُ عَنْهُ الْكَاهِنُ مِنْ خَطِيَّتِهِ الَّتِي أَخْطَأَ، فَيُصْفَحُ عَنْهُ”. كان على الكاهن في يوم الكفَّارة أن “يَضَعُ هَارُونُ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِ التَّيْسِ الْحَيِّ وَيُقِرُّ عَلَيْهِ بِكُلِّ ذُنُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَكُلِّ سَيِّئَاتِهِمْ مَعَ كُلِّ خَطَايَاهُمْ، وَيَجْعَلُهَا عَلَى رَأْسِ التَّيْسِ، وَيُرْسِلُهُ بِيَدِ مَنْ يُلَاقِيهِ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، لِيَحْمِلَ التَّيْسُ عَلَيْهِ كُلَّ ذُنُوبِهِمْ إِلَى أَرْضٍ مُقْفِرَةٍ، فَيُطْلِقُ التَّيْسَ فِي الْبَرِّيَّةِ” (16: 21-22). كان هذا العمل الرمزيُّ يدلُّ على انتقال الخطيَّة إلى الحيوان الذي بدوره “لِيَحْمِلَ التَّيْسُ عَلَيْهِ كُلَّ ذُنُوبِهِمْ [شعب إسرائيل]”.

وفي موضعٍ آخر من سفر اللاويِّين، يشير هذا التعبير المتكرِّر “حمل الخطيَّة” باستمرار إلى المسؤوليَّة عن الخطيَّة والمسؤوليَّة عن الدينونة (5: 1، 17؛ 7: 18؛ 10: 17، وغيرها؛ راجع إشعياء 53: 12؛ 1 بطرس 2: 24). ومن ثمَّ، فإنَّ قتل الحيوان يدلُّ على الدينونة الإلهيَّة التي تستحقُّها الخطيَّة. إنَّ رمزيَّة وضع الأيدي على الذبيحة، والاعتراف بالخطيَّة، ومن ثمَّ طقوس ذبح الحيوان، تنقل فكرة الخلاص عن طريق البديل، فيصير الغفران مضمونًا عن طريق الذبيحة البديلة. وأخيرًا، فإنَّ التأكيد المتكرِّر على أنَّ الذبيحة كانت “رائحة سرور للربِّ” يرمز إلى رضا الله عن الذبيحة وقبول الخاطئ.

ملاحظات

كان المقصود من ذبيحة العهد القديم أن تعني أكثر من مجرَّد توقير الربِّ. فكانت الأهمِّيَّة هي ضمان المغفرة، والتكفير عن الخطيَّة، بتقديم بديل. لم يُصوَّر مُقدِّم الذبيحة على أنَّه مجرَّد مخلوق، بل على أنَّه خاطئ على وجه التحديد، مخلوق خاطئ يحتاج إلى الغفران. كان مُقدِّم الذبيحة يأتي وهو شاعر بالخطيَّة وراغب في استعادة رضا الله عن طريق الذبيحة المقبولة. فالذبيحة نفسها هي وسيط، أي بديل يقدِّم كفَّارةً. إنَّها تحمل خطيَّة العابد الذي ينال المغفرة بحمل البديل لخطيَّته.

كلُّ هذا يعني أنَّ من طبيعة الذبيحة أنَّها موجَّهة أوَّلاً إلى الله. أي إنَّها تهدف إلى التأثير في الله، واسترضائه، وإرضاء سعيه إلى الدينونة، ولا يجد العابد المغفرة إلاَّ بتحقيق هذا الرضا.

إنَّ الأفكار البارزة في ذبيحة العهد القديم هي الخطيَّة والذنب والدينونة من ناحية، والرضا والتكفير والغفران والمصالحة من ناحية أخرى.

الذبيحة في سياق العهد القديم

في السياق التاريخيِّ لفكرة الذبيحة، كانت هذه الذبائح تُقدَّم للإجابة عن السؤال: كيف يمكن لإله قدُّوس أن يعيش وسط شعب خاطئ؟ لقد جعل الله شعب إسرائيل شعبه بخلاصهم من مصر وتأسيسهم أمَّةً إلهيَّةً في سيناء (العهد القديم)، وتعهَّد تبعًا لذلك بأن يكون إلههم وأن يسكن معهم. ولكن كيف يمكن تأسيس حضوره المقدَّس بين الخطاة؟ لذا جاء نظام تقديم الذبيحة لحلِّ هذه المشكلة.

بالطبع تبقى أسئلة تحتاج إلى إجابة. هل يمكن للحيوان أن يحلَّ محلَّ رجل أو امرأة؟ هل يمكن لدم حيوان أن يكفِّر فعلاً عن خطيَّة أمَّة؟ وإذا كانت الذبائح تقود بالفعل إلى رضا الله وغفرانه، فلماذا يجب تكرارها؟

يتناول العهد الجديد هذه النوعيَّة من الأسئلة، لكن يمكننا على الأقلِّ أن نقول إنَّ نظام الذبائح في العهد القديم أسَّس البنية المرجعيَّة والإطار المرجعيَّ في ما يتعلَّق بهدف الله الفدائيِّ: يمكن للخطاة أن ينالوا رضا الله إذا وُجد بديل مقبول يقدِّم ذبيحةً لله.

موت المسيح ذبيحةً

كلُّ هذا يُعطي خلفيَّة للوصف المتكرِّر في العهد الجديد لموت المسيح بعبارات فدائيَّة؛ ولا يمكن في الواقع فهم تلك العبارات بأيِّ طريقة أخرى. عندما يستخدم يسوع نفسه وكُتَّاب العهد الجديد تعبيرات مثل “لِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً”، “فدية بدمه”، “بدمه”، “دم صليبه”، “دَمِي الَّذِي لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا”، “عَامِلاً الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ”، “مُتَبَرِّرُونَ الْآنَ بِدَمِهِ”، “كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ”، “بِالْمَوْتِ”، “يُصَالِحَ بِهِ الْكُلَّ لِنَفْسِهِ”، “فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا”، “أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً للهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً”، “الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ”، “حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ”، “حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا”، “جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا”، “اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا”، وغيرها، فإنَّ هذه التعبيرات توجِّهنا إلى فهم موت ربِّنا في أنواع الذبائح. وهكذا مصطلحات الكفَّارة والفدية والفداء والغفران والمصالحة تجد كلُّها معناها في ضوء ذبيحة العهد القديم.

كلُّ هذا يعلِّمنا كيف أثَّر موت الربِّ يسوع في خلاصنا. لقد كان موت ربِّنا موتَ ذبيحٍ ذُبح لأجلنا. وعلى الصليب قدَّم نفسه لله بدلاً منَّا، حاملاً خطيَّتنا ودينونتها المستحقَّة. وهكذا يُرضي مطالب الله العادلة ضدَّنا ويحرِّرنا من خطيَّتنا ويصالحنا مع الله. لقد حقَّق الربُّ يسوع بالفعل في عمله الخلاصيِّ كلَّ ما كانت ذبائح العهد القديم ترمز إليه، إذ كانت الذبائح السابقة رمزيَّة واستباقيَّة لما كان سيتحقَّق فعليًّا في تقديم المسيح نفسه نيابةً عنَّا. وكما كانت ذبائح العهد القديم موجَّهة أوَّلاً إلى الله (الكفَّارة) لكي تُحدث التكفير لاحقًا، كذلك فإنَّ موت ربِّنا قد قُدِّم لله (أفسس 5: 2؛ عبرانيِّين 9: 14). لقد كان بذله نفسه من أجل شعبه في نظر الله “رَائِحَةً طَيِّبَةً” (أفسس 5: 2) ينتج عنها كفَّارة (رومية 3: 24؛ عبرانيِّين 2: 17؛ 1 يوحنَّا 2: 2؛ 4: 10)، تُرضي مطالبه العادلة ومن ثمَّ تهدِّئ غضبه، وتكفِّر عن الخطيَّة. وكما كان بذبيحة يوم الكفَّارة يحضر شعب إسرائيل في شخص الكاهن الذي يمثِّلهم خلف الحجاب المؤدِّي إلى قدس الأقداس، هكذا أيضًا بموت المسيح نأتي إلى محضر الله ذاته (عبرانيِّين 10: 19-20؛ راجع متَّى 27: 51؛ يوحنَّا 2: 19-21).

يمكننا من ناحية أن نتحدَّث عن ذبائح العهد القديم باعتبارها ذبائح مستقبليَّة، تستبق العمل الخلاصيَّ الذي سيحقِّقه المسيح بالفعل في موته وترمز إليه (عبرانيِّين ٩: ٩؛ ١٠: ١؛ راجع كولوسِّي ٢: ١٧). وبمعنًى آخر، يوضِّح كاتب الرسالة إلى العبرانيِّين أنَّ الذبائح الأقدم كانت في الواقع “نسخًا” من الذبيحة “الحقيقيَّة” التي قدَّمها المسيح (عبرانيِّين 8: 2، 5؛ 9: 23-24؛ راجع 9: 11-12). وهذا يعني أنَّ ذبيحة يسوع هي “الأصل”، أي الحقيقة -وفي النهاية، لم تكن ذبيحته على غرار ذبائح العهد القديم؛ بل بالأحرى، كانت ذبائح العهد القديم نموذجًا لذبيحته القادمة– الذبيحة الحقيقيَّة التي كانت الذبائح القديمة مجرَّد ظلٍّ بعيد لها.

رسالة العبرانيِّين وذبيحة المسيح

يُسلِّط كاتب الرسالة إلى العبرانيِّين الضوء بعدَّة طرائق على كيفيَّة أنَّ ذبيحة المسيح تفوق ذبائح العهد القديم.

•        قُدِّمت ذبيحة المسيح مرَّة واحدة (6: 9-7، 11-12، 25-26، 28؛ 10: 1، 10-12، إلخ)، بينما كان لا بُدَّ من تكرار الذبائح القديمة مرَّات ومرَّات، سنة بعد سنة. وهذا من شأنه أن يترك شكوكًا تراود العابد المفكِّر حيال قيمتها الحقيقيَّة (١٠: ٢-٤)، من دون سبب للافتراض أنَّه حتَّى التقدمة المتكرِّرة للحيوان يمكن أن ترضي الله أو تزيل ذنب الإنسان؟ إنَّ الخبر السارَّ للإنجيل هو أنَّ ذبيحة المسيح كانت ذات قيمة كبيرة حتَّى إنَّه لا توجد حاجة إلاَّ إلى تقديمها مرَّة واحدة فقط وإلى الأبد. إنَّ عمل المسيح الخلاصيَّ هو عمل كامل (راجع يوحنَّا 19: 30)، تحقَّق “مرَّةً وإلى الأبد”.

•        ذبيحة المسيح حقَّقت الغفران (9: 9-10، 12؛ 10: 1، 4، 11، 18). كانت الخطيَّة هي المشكلة التي تحاول الذبيحة معالجتها، وكانت تتطلَّب محوها. إنَّ تكرار الذبائح القديمة يشهد على عدم قدرتها على معالجة الخطيَّة علاجًا نهائيًّا. فقد كانت غير كافية، إذ لم تكن لها في ذاتها قيمة كافية. لكنَّ ربَّنا قدَّم نفسه (9: 12، 13، 26)، ذبيحة ذات قيمة عظيمة (راجع عبرانيِّين 1-2)، فعَّالة في محو الخطيَّة. ومرَّة أخرى، فإنَّ ما كانت الذبائح القديمة تتنبَّأ به حقَّقته ذبيحة المسيح بالفعل، ومن ثمَّ فهي قادرة على “تطهير الضمير” (9: 14) من الذنب.

•        ذبيحة المسيح قبلتها السماء، الهيكل الحقيقيُّ (8: 2، 5؛ 9: 1، 9، 11-12، 23، 24؛ 10: 1). وهذا يعني أنَّها لم تكن ذبيحة مستقبليَّة لأيِّ شيء؛ فلم تكن ترمز إلى تحقيق الكفَّارة أو تتنبَّأ بها. وبما أنَّ الله قبلها، في الهيكل الحقيقيِّ، يصبح الغفران مضمونًا.

•        ذبيحة المسيح حقَّقت الوصول إلى الله (عبرانيِّين 9: ٩-٨؛ ١٩:١٠-٢٢). لقد تأسَّس نظام الذبائح القديم لإثبات أنَّ الطريق إلى الله ليس مفتوحًا لأيِّ شخصٍ بأيِّ حالٍ من الأحوال (الآية 8). ويجب أن يوجد كاهن مؤهَّل وذبيحة مقبولة تُقدَّم بطريقة مقبولة. ومع ذلك، يجب على الشعب عمومًا البقاء في الخلف –فقط رئيس الكهنة كان يمكنه الدخول إلى قدس الأقداس، وذلك مرَّة واحدة فقط في السنة وبطقوس محدَّدة للذبيحة. فلا توجد افتراضات. إنَّ الاقتراب من الله القدُّوس أمرٌ مخيفٌ، ولكن بذبيحة المسيح صار الطريق مفتوحًا الآن، وكلُّ الذين يأتون إليه، على أساس عمله الفدائيِّ، مقبولون (راجع متَّى 27: 51؛ يوحنَّا 2: 19-21).

بالوصول إلى ذروة هذا النقاش يستخلص الكاتب عدَّة تطبيقات، يبدأها بكلمة “فإذ”:

فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى «الأَقْدَاسِ» بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقًا كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثًا حَيًّا، بِالْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ، لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِق فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ. لِنَتَمَسَّكْ بِإِقْرَارِ الرَّجَاءِ رَاسِخًا، لأَنَّ الَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ. وَلْنُلاَحِظْ بَعْضُنَا بَعْضًا لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ (عبرانيِّين 10: 19-24).

هذا يعني أنَّه إذا كانت ذبيحة المسيح، المُقدَّمة مرَّة واحدة، مقبولة في السماء نفسها، وتحقِّق الغفران والوصول إلى الله، فليكن لنا ثقة وجرأة في الاقتراب إلى الله متيقِّنين من قبولنا. ليكن لنا يقين، مطمئنين إلى قبولنا عنده بإيمان لا يتزعزع. ولنثابر في مواجهة أيِّ صعوبات بثقة في خلاصنا النهائيِّ، ونلاحظ بعضنا بعضًا على ذلك.

أفكار ختاميَّة

إذًا، موضوع الذبيحة يأخذنا إلى قلب الإنجيل وجوهر الإيمان المسيحيِّ. يشكِّل [موضوع الذبيحة] بالمعنى الحقيقيِّ جدًّا المسيحيَّة. وهذا ما يميِّز المسيحيَّة عن الديانات الأخرى. فلم تأت المسيحيَّة إلى العالم لتعلن أخلاقًا جديدة، ولتتخلَّص من كلِّ الدعائم الخارقة للطبيعة التي اعتاد الناس عن طريقها على دعم نفوسهم المرتعشة المثقَّلة بالذنب، لتعيدهم إلى الاعتماد على أنفسهم القويَّة ليحقِّقوا انتصارًا أمام الله لأنفسهم؛ بل جاءت لتعلن الذبيحة الحقيقيَّة التي قدَّمها الله عن الخطيَّة لكي تحلَّ محلَّ كلِّ الجهود الضعيفة التي بذلها البشر وكانوا يبذلونها لتقديم ذبيحة عن الخطيَّة لأنفسهم، وترسِّخ أقدام البشر على هذا الأساس، فتعطيهم دفعة للمضي قدمًا.

شارك مع أصدقائك

فرِد زاسبيل

حاصل على درجة الدكتوراه (Ph.D.) من جامعة أمستردام، وهو راعي الكنيسة المعمداينة المُصلحة في فرانكونيا، بنسلفانيا ، وأستاذ مساعد في علم اللاهوت النظامي في كلية ساذرن بابتست أو المعمدانية الجنوبية للاهوت.