أهمية اللاهوت وفَهم العقيدة

التعريف

اللاهوت هو دراسة الله وعلاقاته بالكون المخلوق وقصده منه وعمله فيه.

الموجَز

كما أوضحنا في التعريف، أن اللاهوت هو دراسة الله وعلاقاته بالكون المخلوق والقصد منه والعمل فيه. وبهذا، فهو يكتنف كل الواقع المخلوق من أفضليَّة مكانة الخالق صانع كل الموجودات. وليس لسبب آخر سوى إعلان الله عن نفسه، نقدر على معرفة هويَّة الله وماهيَّة مقاصده وخططه وأعماله في الخليقة التي قد صنعها هو. إن كل منحى في اللاهوت (خلقه للعالم، وخلقه للإنسان ذكرًا وأنثى على صورته، وسقوطهما في الخطيَّة، وخطته للخلاص واسترداد العالم الساقط لا سيما دعوته لإبراهيم واختياره لإسرائيل التي منها أتى لاحقًا المسيا، وأعمال عنايته لتكميل الخلاص بتجسد ابنه وحياته الكاملة بلا خطيَّة وموته البديلي وقيامته الظافرة، وتأسيسه للكنيسة، وخططه لبلوغ كل الخليقة مقاصدها لإلهية المُعَيَّنة سابقًا، وجوانب شتَّى أخرى) يرتبط مباشرة بالله وبشخصه ومشيئته وطرقه وخططه وعمل عنايته. وفقط من خلال إدراكنا لمناحي الحياة واللاهوت هذه من منظور الله وحده، يمكننا أن نُدرك بدقة هويَّة الله وهويَّتنا والكيفية المُثلي لمعيشتنا.


مقدمة وتعريفات

إن مصطلح لاهوت في الأصل اليوناني يتألَّف من شقين “theos” (الله) و “logos” (كلمة أو دراسة)، فهو بمعناه الحرفي يشير إلى “دراسة الله”. لكن هذا المصطلح يُطبَّق على دراسة الجنس البشري والخطيَّة والخلاص والكنيسة والأخرويات (ودراسات شتَّى أخرى). ويكمن سبب دقة تطبيق “اللاهوت” على هذه المناحي الأخرى في التالي: إن اللاهوت هو دراسة الله وعلاقاته بالكون المخلوق وقصده منه وعمله فيه، الذي يتضمن خلقه للعالم، وخلقه للإنسان ذكرًا وأنثى على صورته، وسقوطهما في الخطيَّة، وخطته للخلاص واسترداد العالم الساقط لا سيما دعوته لإبراهيم واختياره لإسرائيل التي منها أتى لاحقًا المسيا، وأعمال عنايته لتكميل الخلاص بتجسد ابنه وحياته الكاملة بلا خطية وموته البدليّ وقيامته الظافرة، وتأسيسه للكنيسة، وخططه لبلوغ كل الخليقة مقاصدها لإلهية المُعَيَّنة سابقًا. لذا يُعد مدى سعة اللاهوت مُبهِر ويُبيِّن لنا مدى شموليته وتأثيره الواسع في كل ما في الحياة.

فبمجرّد دراسة بضعة مجالات لاهوتيَّة سرعان ما نُدرك كيفيَّة تأثير الفهم اللاهوتي الكتابي القويم في كل جوانب حياتنا. ستجد أننا نبدأ بدراسة العقيدة عن الله، التي كثيرًا ما يشُار إليها بمصطلح “اللاهوت الأساسي (Theology Proper)”، لأن لُب مركزيَّة اللاهوت ولب أهميته تتمثل في دراسة إعلان الله عن ذاته حيال شخصه وكينونته مثلثة الأقانيم وأعمال عنايته في العالم الذي قد خلقه. في دُرَّة أعماله التي تتناول صفات الله، يبدأ أ. و. توزر A. W. Tozer الفصل الأول بهذه الكلمات المأثورة حاليًا: “ما يخطر ببالنا حين نفكر في الله، هو الأمر الأكثر أهمية تجاهنا” (توزر، معرفة الروح، نيويورك: هَربركُلِنز، 1961، 9). إن رأي توزر هنا بالغ الأهميَّة إذ يتناول مباشرة سؤالنا حيال أهميَّة اللاهوت والمعرفة اللاهوتيَّة. فلأن معرفة الله تؤثر في كل جوانب الحياة، ولأن إدراكنا لله يُشكِّل فلسفة رؤيتنا للعالم وقيمنا والتزاماتنا ومشاعرنا وأفعالنا، فما من أي منحى آخر في المعرفة الإنسانيَّة أعظم تأثيرًا في تشكيل عقولنا وقلوبنا وحيواتنا كلها.

المعرفة اللاهوتية والتمييز بين الخالق والمخلوق

إن أحد أهم خواص الرؤية الفلسفيَّة المسيحيَّة تتمثل في تأكيد ما يُسمى أحيانًا بالتمييز بين الخالق والمخلوق. فالله، كونه أبديًّا وذاتي الوجود ومُكتفٍ بنفسه وغير محدود وبسيط الهويَّة وكلي القوة، كائن سرمدي مستقل عن أي شيء مخلوق ومحدود في ملء الحياة والفرح غير المحدودين كونه الله مثلث الأقانيم. وبما أن للعالم الذي خلقه الله بداية، بخلاف الله الذي بلا بداءة، فلا بد من أن الله أزلي الوجود، قبل العالم، في ملء كمالاته الفائقة مثل أن كل شيء صالح -ماهيَّة وكينونة- كامن في الله جوهريًّا وسرمديًّا. فهو غير محتاج إلى الخليقة التي اختار بإرادته أن يجلبها إلى الوجود. وعليه، بما أن الخليقة معتمدة على الله في كل عامل من عوامل وجودها وفي كل شيء صالح فيها ويُظهرها صالحة، فالله كائن بذاته وفائق على كل صنيعة فمه ويديه. فالسماء تُخبر بمجد الله، لا بمجد السماء، لأن كل كمالة من كمالاته جليَّة في السماء نابعة من جمال الله وقوته وحكمته الأبديين ومنعكسين منهم. فإن إدراك ملء الله الفائق، الذي لا يحتاج إلينا ولا إلى أي شيء نقدمه، يجعلنا ساجدين. لكنه في الوقت ذاته، يُدهِشنا لأن الله برغم عدم احتياجه إلينا، فقد خلقنا ليملأنا بنفسه وليُعلن ذاته في حياتنا ومن خلالها. فهو كائن لا مستقل فحسب عن كل صنائعه، إنما أيضًا هو الله الحال القريب المتداخل في كل حياة ويعمل من خلالها كذلك. ومن جهة ثالوثه الأقنومي، فهو يعيش سرمديًّا في فرح شركة أقانيمه الثلاثة. وعليه، قد أقامنا بشرًا مخلوقين ومفديين لمشاركته في حياته والفرح الذي هو فيه مع كينونته مثلثة الأقانيم.

وتأمل كذلك كيف أن الإيمان بالله يتشدد ويُحفَظ بفَهم كمالات الله. فحين يدقق المرء فيما يتطلبه الإيمان بالله فحسب، سيرى مدى أهمية التحلي بثقة عميقة راسخة في كملات شخصية الله، التي من دونها لن نؤمن به أو نلتجئ إليه حين تواجهنا الصعاب. على سبيل المثال، عندما يواجه المرء بعض الصعوبات، نجد أن الثقة في الله تتطلب إدراكًا لمعرفة الله الكُليَّة وحكمته المُنزهة عن الخطأ والثقة فيه. فلماذا قد نلتجئ إلى الله ونثق به إذا كًنَّا متشككين فيما إذا كان يدرك حقًا عوامل الواقع علينا، وبإمكانه تحديد، بحكمته اللامتناهية، أفضل مسار لاتخاذه؟ لذا، فالثقة بمعرفة الله وحكمته الكاملتين أساسيان للإيمان الأصيل بالله. كما أن الثقة بالله إبان وقت الضيقة يتطلب أن نتحلى بالثقة في قوة الله التي لا تُقهر. فإذا كُنَّا نؤمن بأن الله يعرف كل شيء يمكنه معرفة حالنا وأن لديه الحكمة الكاملة ليقرر الأفضل لفعله، لكننا حين نُشكك أن باستطاعته التدخل حقًا لتحقيق الأفضل، فنحن لا نؤمن به حقًا. وعليه، الإيمان بالله-الثقة به في أوقات الألم والضيقة-يتطلب ثقة راسخة في كلا من حكمته الكاملة وقوته المنيعة. لكن أيضًا لا بد أن نتحلى بثقة لا تتزعزع في محبة الله لنا. فإذا كُنَّا نؤمن بأنه يعرف الأفضل لنا وبإمكانه فعل ما تختاره نفسه، لكننا نتشكك في حقيقة عنايته بنا، فنحن لا نزال نافرين من الثقة فيه حقًا.

علينا الإيمان بأن حكمة الله “كاملة” ولا يفوقها أي حكمة أخرى؛ وأن قوته “شديدة” وما من شيء يمكنه إعاقته عن فعل ما ترغب فيه نفسه؛ وأن محبته لأبنائه محبة “بلا عيب وأمينة” ولن تسقط أبدًا؛ عالمين أن شخصية الله تصنع كل الفارق، إذن، في معيشتنا لحياتنا أمامه.

المعرفة اللاهوتيَّة وطبيعة الخطيَّة ومداها

وأيضًا عليك تأمل بعض خواص المعرفة اللاهوتيَّة السليمة لطبيعة خطيتنا ولطبيعة خلاص الله الذي وهبنا إياه في المسيح يسوع. ومن التناقضات الصارخة هي الفرق بين منظور الشخص المسيحيّ للعالم الذي له منظور لاهوتيّ سليم، ومنظور الثقافة المحيطة بنا في تناول كل منهما لقضية الشر وأسبابه، وما موقفنا منه.

فبالنسبة لمعظم العَلمَانيين، يقع الشر لأن البشر، بالرغم من غريزتهم الصالحة، ضحايا لسوء المعاملة والانتهاك، فعليه يتمثل رد فعلهم في الإحباط والتَكَيُّف السلوكي، لكنهم حقًا في أغلب الأحوال غير مسؤولين عن الشر الذي يرتكبونه. وعلى النقيض، إن المعرفة اللاهوتيَّة والكتابيَّة لعقيدة الفساد الكُلي تعلمنا بأن كل إنسان مولود في هذا العالم بداخله استعداد متجذِّر وثابت لسلوكيات شريرة وأعمال إثم متأصلة في اتحادهم بآدم، الإنسان الأول الذي جلبت خطيته الإثم على الجنس البشري برمته (ما عدا الرب يسوع المسيح). لذا، بخلاف ثقافتنا، نحن لسنا بأخيار غريزيًا؛ إنما النقيض، نحن أشرار وأنانيون حتى النُخاع بنزعات هي في الأساس عكس ما ينبغي علينا فعله. إذ ينبغي لنا تمجيد الله وطلب الحياة على نحو يرضيه ويسره، لكن بسبب خطيتنا، نحن نتحول عنه ونسعى للزيغان عن مسار حياتنا المُتَّكِلَةِ عليه وعلى إرشاداته الأخلاقيَّة.

كما يرتبط بهذه المعرفة المتباينة للطبيعة الفطريَّة للبشر انقسام عميق فيما يتعلق بالشر والفساد الجليين في جميعنا. فثقافتنا، التي ترانا صالحين فطريًا، تحاول استرداد الصلاح الذي فينا، عبر مكتبات من كتب التنمية الذاتيَّة، والعلاجات التي تُشعِل شرارة جُزيء الإلوهية داخليًا، أو قوة الطفل الداخلي.

لكن المؤمنون يفكرون في هذه الأمور تفكيرًا مختلفًا تمامًا. فنحن ندرك أنه بسبب خطيتنا في آدم، نحن غير قادرين تمامًا، سواء على محو الخطية التي تستعبدنا من الداخل، أو محو الذنب الواقع علينا من خطيتنا أمام إله قدوس. فالخبر السار الذي للإنجيل يستند إلى الخبر السيء باستحالة الحلول البشرية. فالكتاب المقدَّس واضح في أن رجائنا الوحيد يكمن فيما قد صُنِع بدلًا عنَّا ومن أجلنا، بالعمل الذي أكمله الرب يسوع المسيح إبان حياته الكاملة بلا خطيةـ وموته البدلي وقيامته المُحررة. فنحن لا نستطيع التغلب على خطيتنا وذنبنا بأنفسنا. فالرجاء الوحيد ليس سوى في الإيمان بالله بأن يعمل فينا ومن أجلنا ما لا نقدر نحن على فعله بأنفسنا. فنحن، كما يقول مارتن لوثر، شحاذون أياديهم فارغة، لا يقدرون على تقديم أي شيء من أجل خلاصهم. فنحن مُتَّكِلون بالكُلِّيَةِ على الله في المسيح على ما قد أكمله عَنَّا ومن أجلنا. فيجب أن يفتح الروح أعيُننا ويُحي قلوبنا المائتة، لكي نؤمن بالله ونقبل نعمته المُخلّصة التي تبررنا أمام الله وتبدأ في عملية تقديسنا إبان انتظارنا للمجد الكامل.

المعرفة اللاهوتيَّة والخليقة الجديدة والدينونة الأخيرة

هناك مجالات لاهوتية عديدة يمكننا التأمل فيها بتدقيق، لكننا سنختم حديثنا هنا بنظرة على الاختلاف الذي تُحدثه المعرفة اللاهوتيَّة القويمة حيال نهاية الزمان وتأسيس الخليقة الجديدة. من المؤكد أننا نختلف حيال طبيعة المُلك الألفي وموعد عودة المسيح في مقابل زمن الضيقة. لكن تلك المناح التعليميَّة الكتابيَّة التي تُعد أعظم أهمية قد حشدت إجماعًا واسعًا عبر تاريخ الكنيسة. فنحن نؤمن بأن المسيح الذي قد تجسَّد من العذراء مريم وعاش حياة كاملة بلا خطية ومات وقام من أجل خطايانا وصعد عائدًا إلى السماء، سيأتي ثانية ليحمل كل أتباعه إليه. فعودة المسيح وقيامة المؤمنين بالجسد يعلمها الكتاب المقدَّس بوضوح وبكثرة، كما أن عليهم اتفاق واسع في الكنيسة، وعليه لا بد أن نشعر بالامتنان.

هل من المهم معرفة أن المسيح سيعود وسيقيم ملكوته بالخليقة الجديدة وينصبنا في خدمته إلى الأبد في الملكوت؟ في الحقيقة، إن هذا يُحدِث فارقًا عظيمًا حين يأخذ المرء سؤال القصد من حياتنا بعين الاعتبار. فنحن المؤمنون ندرك أكثر الجوانب أهمية في حياتنا هي تلك تترك أثرًا إلى الأبد. إن الحياة بعد الموت، والقيامة من الموت، ومشاركة المسيح في ملكوته في حُكم الخليقة الجديدة حقائق كتابيَّة لتعليمنا الآن لتُمَكِّنَّا من إعادة التفكير في منح الوقت والموارد الأولوية. للأسف، قد نخفق في التفكير بعمق في هذه الحقائق اللاهوتيَّة، وبالتالي، نفشل في العيش بطرائقٍ كانت من الممكن أن تجعل حياتنا أعظم بتعلمها. لكن حين نؤمن بهذه الحقائق، سندرك أنها تصنع كل الفارق بين أن نعيش لأهداف وملذّات أرضية، وبين أن نحيا لأجل حياة أبدية، ومن أجل الجعالة والمجد الأبديّ.

هناك دائرة أخرى تتمتع بتوافق واسع، وبتعليم كتابيّ واضح، وهي التعليم حول الدينونة الأخيرة لكل البشر. بالنسبة للمؤمنين، سيكون يوم فرح عظيم حين نُمثل أمام وجه مخلصنا الذي قد دفع ثمن كل خطية ارتكبناها من أجلنا ورفع عنَّا الدينونة، التي لولا ذلك لكنّا سنواجهها.

لكن بالنسبة لغير المؤمنين، سيكون يوم حزن دامٍ بندم أبدي حين يتقابلون وجهًا لوجه مع بشاعة شرهم ويقين دينونتهم الأبديَّة. يا لها من حكمة أن ندرك أنه في هذا اليوم ستبطل كل الذرائع، وستُفضَح كل المكائد؟ وسيواجه غير المؤمنين عقاب أبدي معلوم بناء على أعمالهم التي اقترفوها في حياتهم. هل من المهم معرفة ذلك الآن؟ في الحقيقة نعم مهم، لأنه كما نعلم أن يقين الفرح مُعَد من أجل المؤمنين، وكذلك الحزن والألم من أجل غير المؤمنين؛ وعليه يتجدد إدراكنا بأهمية مشاركة الإنجيل أو الخبر السار مع الذين لا رجاء لهم سوى في التحول عن الذات والثقة بالمسيح من أجل الخلاص الذي صنعه للخطاة التائبين والمؤمنين.

إن اللاهوت، أو دراسة الأمور التي تختص بالله وعلاقاته مع الكون ومقاصده وعمله، لهو هام للغاية! فكل منحى لاهوتي يظهر لنا أن التفكير الكتابي السليم يقودنا بتعاليم ليس إلى حقائق فحسب قد دُعينا إليها، إنما يوفر لنا آراء وإرشادات للكيفية المُثلى لنعيش حياتنا.

شارك مع أصدقائك

حاصل على درجة الدكتوراة من كليّة فولر للاهوت، ويشغل منصب أستاذ اللاهوت المسيحي في الكليّة المعمدانية الجنوبية.