لماذا يجب على المسلمين أن يدافعوا عن عِصمة الكتاب المقدَّس؟!

في أيَّة محادثة بين مسيحيٍّ ومسلم، تُعتَبَر صحَّة الكتاب المقدَّس من أولى الموضوعات المُتَنَازَع عليها. عادةً ما يُقال للمسيحيِّين أنَّ لديهم كتابًا مقدَّسًا مزيَّفًا أو محرَّفًا، أو أنَّ الكتاب المقدَّس الذي يمتلكونه اليوم ليس في الواقع هو النصُّ الأصليُّ والموحى به؛ فقد تمَّ تغييره واستبداله بنصٍّ مزوَّر.

يستمرُّ الادِّعاء في التأكيد على أنَّ المسيحيِّين لا يستطيعون الاعتماد على الكتاب المقدَّس الحاليّ، والذي يوجد بمئات اللغات والترجمات، لكن عليهم أن يسعوا للحصول على معرفة الإله الحقيقيِّ من النصِّ الإلهيِّ الوحيد المحفوظ؛ ألا وهو القرآن. علاوة على ذلك، يشير بعض المسلمين المتعلِّمين عادة إلى العديد من العلماء الذين يتبنُّون الأسلوبَ التاريخيَّ النقديَّ أو النقد الأعلى الذين يقوِّضون سلطة الكتاب المقدَّس.

تترك هذه المحادثة المسيحيِّين في الغالب مُحبطين وغير واثقين ومحيَّرين، بينما يشعر المسلمون بالتفوُّق. وينهي هذا الادِّعاء أيَّة محاولة لاستخدام الكتاب المقدَّس في حوار مستمرٍّ مع المسلمين. ومع ذلك، فإنَّ ما لا يفكِّر فيه المسلمون هو أنَّ مثل هذه الحجَّة لا تنتهك فقط المنطق الواضح والأدلَّة التاريخيَّة، بل تنتهك أيضًا كتابهم المقدَّس؛ القرآن. إذا كان المسلمون يؤمنون حقًّا بالنصوص الإسلاميَّة، فعليهم أيضًا أن يؤكِّدوا ويدافعوا عن أصالة الكتاب المقدَّس وعصمته ومصداقيَّته في كلٍّ من عهديه القديم والجديد.


الإشارات القرآنيَّة للكتاب المقدَّس

يشير القرآن إلى ثلاثة كتب مقدَّسة موحاة من السماء قبل الإسلام: توراة موسى، والزبور (مزامير داوود)، وإنجيل عيسى/يسوع:

آل عمران 3-4 «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيل.»

النساء 163 «إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا.»

يستخدم القرآن لفظًا هامًّا للإشارة إلى كلِّ الآيات الإلهيَّة التي نزلت، والتي تشمل القرآن والكتب السابقة، ألا وهي «الذِكر». يعِد القرآن بأنَّ الله سوف يحفظ الذكر:

الحِجر 9 «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ.» وهذه الآية تدل على أن الله نفسه مسؤول عن حفظ الذكر وحمايته.

تؤكِّد عدد من الآيات القرآنيَّة أنَّ الذِكر يشير إلى الكتاب المقدَّس. إذ يربط القرآن بين توراة موسى والذِكر في عدَّة آيات:

غافر: 53-54 « وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ.»

الأنبياء 48 « وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ.»

تستخدم هذه الآيات صيغة الماضي «آتَيْنَا» ممَّا يبيِّن أنَّ الإشارة هنا يجب أن تكون إلى الكتاب المقدَّس وليس القرآن، حيث من المفترض أنَّ القرآن ما زال في مرحلة التنزيل في وقت هذه الآية التي هي مكيَّة بحسب رأي علماء المسلمين.

الأنبياء 105 «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ.»

تؤكِّد هذه الآية أنَّ الذكر كُتِب قبل المزامير، ممَّا يدلُّ على أنَّه يشير إلى توراة موسى.

في آيات متعدِّدة من القرآن، يحثُّ الله محمَّدًا على الذهاب إلى «أهلِ الذِكر»:

الأنبياء 7 «وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِىٓ إِلَيْهِمْ ۖ فَسْـَٔلُوٓا۟ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.»

  • في السياق، تؤكِّد هذه الآية أنَّ الذكر (أي الكتاب المقدَّس) يخص قومًا سابقين (اليهود والنصارى) وأنَّ على محمَّد أن يستفسر منهم ليتأكَّد أنَّ الله يهلك الكافرين. لماذا يُرجِع الله محمَّدًا إليهم إذا كانت كتبهم فاسدة؟

الأنبياء 43-44 «وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِىٓ إِلَيْهِمْ ۚ فَسْـَٔلُوٓا۟ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. بِٱلْبَيِّنَٰتِ وَٱلزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.»

  • يشير الله في هاتين الآيتين إلى الذِكر على أنه الكتاب المقدَّس والقرآن، ممَّا يؤكِّد أنَّ مصطلح «الذِكر» (التذكير) يعني كلَّ آيات الله.

تؤكِّد كلُّ هذه الآيات أنَّ الذِكر لا يشير فقط إلى القرآن، ولكن أيضًا إلى الكتاب المقدَّس. كما تدلُّ هذه الآيات على أنَّ الله يعتبرها موثوقة لأنَّه يُرجِع محمَّد إلى آيات سابقة ويأمره بسؤال الأشخاص الذين استقبلوها إذا كان لا يعرف الحقيقة.


 لماذا نستثني الكتاب المقدَّس إذًا؟

إذا حفظ الله القرآن فكيف لا يحفظ الكتاب المقدَّس من التزييف والفساد؟ يجب أن يكون الله قادرًا على حفظ كلاهما وفقًا للقرآن.

الأنعام 34 «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ.»

يونس 64 «لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.»

  • تؤكِّد هاتان الآيتان أنَّه لا يمكن لأحد أن يغيِّر كلام الله، والإشارة هنا ليست فقط إلى القرآن بل إلى كلِّ آيات الله.

كما يأمر الله محمَّدًا أن يحتكم إلى الآيات التي أوحيَت من قَبل ليثبت صحَّة نبوَّته:

يونس 94 « فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.»

  • على غرار سورة الأنبياء 7، يحثُّ الله محمَّدًا أن يسأل اليهود والمسيحيِّين الذين كانوا يقرؤون الكتاب المقدَّس ليصدِّقوا على نبوَّته. لماذا يرسل الله محمَّدًا إلى اليهود والمسيحيِّين ليصدِّقوا على آياته وهم يقرؤون كتابًا فاسدًا؟ بل إنَّنا نرى أنَّ الله هنا يمنح كتابهم ختم الموثوقيَّة.

يصف القرآن المؤمنين قبل الإسلام، اليهود والمسيحيِّين، بأهل الكتاب وأنَّهم قد أُعطَوا الكتاب المقدَّس:

العنكبوت 29 «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.»

  • تؤكِّد هذه العبارة أنَّه على الأقل في الوقت الذي كان يوحى فيه القرآن (القرن السابع على الأرجح) فأنَّ الكتاب المقدَّس كان هو النصّ الموحى به للمسيحيِّين واليهود وأنَّه جدير بالثقة وغير مُحرَّف لأنَّ الله يدعو المسلمين أيضًا إلى الإيمان بالكتاب المقدَّس كما يؤمنون بالقرآن.
  • كما نلاحظ أن الفعل هنا هو «أُنْزِلَ» وهو نفس الفعل المُستخدم لوصف القرآن.
  • وإن أخذنا في الاعتبار الفهمَ الإسلاميَّ للوحي الإلهيِّ على أنَّه عمليَّة تنزيل وإملاء، فبحسب ما نادى به محمَّد يكون الكتاب المُقدَّس خاليًا من الأخطاء ويتضمَّن الكلمات الدقيقة لمن أنزله.

كما يصرّ القرآن على أنّ اليهود يجب أن يتبعوا التوراة لأنَّها تحتوي على شريعة الله وحكمه وأنَّ التوراة هدى ونور:

الأنبياء 43-44 «وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ.ۚ»

  • توضِّح هاتان العبارتان صِدق التوراة وموثوقيَّتها. لذلك إذا ادَّعى المسلمون أنَّ التوراة اليهوديَّة قد أُفسِدت، فإنَّهم يسيئون إلى القرآن.

أينتهكون نصَّهم المقدَّس نفسه؟

كذلك، يجبر القرآن المسيحيِّين على اتِّباع الإنجيل الذي يصادق على العهد القديم بالإضافة إلى أنَّه يحتوي على الهَدْي الصحيح:

المائدة 46 «وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ.»

  • تشير هذه الآية إلى أنَّ الإنجيل يجب أن يكون صحيحًا لأنَّ القرآن يؤكَّد أنَّه هدى ونور.
  • استشهدنا سابقًا بسورة آل عمران 3-4 لإثبات أنَّه مثلما يؤكِّد الإنجيل على صحَّة التوراة، فإنَّ القرآن بدوره يؤكِّد صحَّة التوراة والإنجيل في زمنه.

وفقًا للقرآن، فإنَّ المسيحيِّين مأمورون بالحكم على الأشياء بناءً على ما أعلنه يسوع (عيسى) في الإنجيل وإلاَّ سيعتَبَرون آثمين:

المائدة 47 «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.»

  • يتَّضح من هذه العبارة أنَّه وفقًا للقرآن لا يمكن أن يكون الإنجيل مُحرَّفًا لأنَّ الله يأمر المسيحيِّين باتِّباع حكمه وهديه ونوره. وإلا فسيتم تصنيفهم كفاسقين.

بالإضافة إلى هذه الآية، فإنَّ الله يطلب من اليهود والمسيحيِّين أن يتمسَّكوا بآياتهم.

المائدة 68 «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۖ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.»

  • كما هو الحال في العبارة السابقة، يطلب الله من المسيحيِّين واليهود التمسُّك بكتابهم وإلاَّ فهم ليسوا على شيء.

يؤكِّد الله سلطانه المُطلق على صحَّة الكتاب المقدَّس في هذه الآيات.  وبالتالي، إذا كان المسلمون لا يزالون يصرُّون على أنَّ الكتاب المقدَّس محرَّف في ظلِّ تأكيد هذه الآيات على الحقيقة والنور الموجودين في الكتاب المقدَّس، فإنَّهم لا يؤمنون بالتصريحات الواضحة في نصوصهم المقدَّسة.

ردًّا على هذه الأدلَّة، سيدَّعي بعض المسلمين أنَّ تحريف الكتاب المقدَّس حدث بعد موت محمَّد. قد يزعمون أيضًا أنَّ القرآن يؤكِّد تحريف الكتاب المقدَّس من خلال الاستشهاد ببعض الآيات المحدَّدة:

البقرة 59 «فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ.»

آل عمران 78 «وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.»

إنَّه من الثابت تاريخيًّا أنَّ الكتاب المقدَّس قد تمَّ الاعتراف به، وتعليمه، واقتباسه، وتوثيقه، وتداوله عبر العالم القديم كله (بما في ذلك القوى العظمى للإمبراطوريَّتين الرومانيَّة والفارسيَّة) في وقت يسبق مجيء محمَّد خلال القرن السابع بكثير.

وقد تمَّت ترجمة الكتاب المقدَّس بلغات متعددة: اللاتينيَّة واليونانيَّة والسريانيَّة والقبطيَّة، وما إلى ذلك. واليوم، لدينا المخطوطات الأربعة الكبرى: السينائيَّة والفاتيكانيَّة (من القرن الرابع الميلاديِّ)، والسكندريَّة والإفرايميَّة (من القرن الخامس الميلاديِّ)؛ وجميعهم في تناغم تامٍّ واتفاق تامٍّ مع نصِّ الكتاب المقدَّس الذي لدينا اليوم. تؤكِّد هذه الحقائق التاريخيَّة أنَّ الكتاب المقدَّس المذكور في القرآن كان في الواقع لا يزال سليمًا حتَّى بعد مجيء محمَّد في القرن السابع.

من الذي حرَّف الكتاب المُقدَّس؟

إذا افترضنا جدلاً أنَّ الكتاب المقدَّس قد تعرَّض للتلف إلى حدٍّ ما، أو بطريقة ما، أو في مكان ما بعد القرن السابع، فعلينا أن نسأل:

من الذي تكبَّد عناء إفساد كلِّ نصٍّ موجود في جميع أنحاء العالم؟

هل تمكَّنوا أيضًا من السفر في الزمن إلى الوراء إلى القرن الثاني لمحو وتشويه وتلفيق مخطوطات العهد الجديد؟

أو حتَّى السبعينيَّة الموجودة منذ القرن الثالث قبل الميلاد؟

كيف تمكَّنوا من إفساد النصِّ في بيئة الاختلافات الطائفيَّة المتعدِّدة داخل المسيحيَّة نفسها، أو في ظلِّ الصراعات الفكريَّة بين اليهوديَّة والمسيحيَّة (كلاهما يعتمد على نفس النصِّ المازوريِّ الأساسيِّ للعهد القديم)؟

ما هي الأجزاء التي أُتلِفَت، وأين ذهبت الأجزاء الأصليَّة؟

هناك أيضًا أسئلة منطقيَّة:

لماذا يأذن الله بحفظ القرآن فقط من الفساد؟

إذا أصرَّ القرآن على أنَّه لا يمكن لأحد أن يغيِّر كلام الله، فكيف يترك النصَّ الإلهيَّ عُرضةً للتلف في أيدي الأشرار؟

تؤدِّي هذه الأسئلة الاستنكاريَّة إلى نتيجة واضحة واحدة: خلافًا لبعض ادِّعاءات المسلمين، فإنَّ الكتاب المقدس جدير بالثقة ولم يُحرَّف أبدًا.

أمَّا بالنسبة للافتراض الثاني للمسلمين بأنَّ القرآن يتَّهم الكتاب المقدَّس بالتحريف، فيجب قراءته بتدقيق أكثر. يشير النوع المذكور من تغيير النصِّ إلى أنَّ تفسير النصِّ كان خاطئًا ولا يشير إلى فساد أو تلفيق بالجملة. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ ادِّعاء المسلمين سيجعل القرآن متناقضًا لأنَّ آيات أخرى توضِّح أنَّ الله يحفظ كلماته ولا يقدر أحدٌّ على تغييرها.

من الجدير بالذكر، أنَّ مفسِّري القرآن الأصوليِّين الأوائل يتَّفقون مع هذا التفسير. المؤرخ المسلم الشهير الطبريُّ (توفي 923 م) في شرحه للقرآن مفسِّرًا البقرة 59، يشير إلى أنَّ الأشرار من المسيحيِّين واليهود هم الذين غيَّروا معنى الكلمات عند نطقها. كما أكَّد المفسِّرون البارزون الآخرون للقرآن أيضًا أنَّ نوع التحريف الذي تم الاستشهاد به في القرآن يتعلَّق بالمناداة أو الوعظ بالكتاب المقدَّس أو التعبير عنه، وليس في النصِّ نفسه. لسوء الحظِّ، انحرف الفقهاء والمفسِّرون المسلمون في وقت لاحق عن ذلك وأصبح التيار العقديُّ الرئيسيُّ هو الإصرار على أنَّ الفساد هو في النصِّ نفسه.

كلمة الله الموحى بها والمعصومة

لذلك، أنا أزعم أنَّه لا توجد آية في القرآن تحطُّ من قدر الكتب المقدَّسة لدى أهل الكتاب (اليهود والمسيحيِّين) أو تقوِّضها. وكذا فإنَّه من الدقيق، تاريخيًّا ونصيًّا، أن نؤكِّد على أنَّ القرآن يشهد على دقَّة التوراة أو الإنجيل ولا يهاجمهما صراحةً. هكذا، فإنَّ المسلمين الذين يزعمون أنَّ الكتاب المقدَّس محرَّف ينتهكون نصوصهم المقدَّسة ويقوِّضون مصداقيَّة القرآن. كما لم يدعم المفسِّرون المسلمون المعتبرون في الماضي هذا الادِّعاء أبدًا. وحتَّى لو غيَّر الأشرار المذكورون في القرآن تفسيرَ النصِّ الإلهيِّ، فتلك هي مشكلتهم وذلك لا يؤثِّر على النصِّ الإلهيِّ نفسه. يجب أن يكون المسيحيُّون واليهود واثقين من صحَّة وصدق وموثوقيَّة نصوصهم المقدَّسة، ليس لأنَّ القرآن يؤكِّد ذلك، ولكن لأنَّ هناك أدلَّة كثيرة ووفيرة، نصيَّة وتاريخيَّة، تدعم هذه الحقيقة.


تم نشر هذا المقال أولًا على موقع مركز جِنكنز للفَهم المسيحيّ للإسلام.

شارك مع أصدقائك

أ. س. إبراهيم

حاصل على درجتيّ الدكتوراة في الفلسفة (PhD) أحدهما من كليّة فولّر للاهوت عام 2014، والأخرى من جامعة حَيفا عام 2018. ويعمل كأستاذ الدراسات الإسلاميّة في الكليّة المعمدانيّة الجنوبيّة للاهوت، ومدير مركز جِنكِنز للفهم المسيحيِّ للإسلام، بولاية كنتاكي الأمريكيّة. وله العديد من المنشورات العلميّة والكتب باللغة الإنجليزيّة، منها كتاب عن الدوافع المؤكّدة للغزو الإسلامي، وحركات العابرين سرًا (Insider Movement).