التألُّه: الخلاص في اللاهوت الشرقي الأرثوذكسي [1]

ربَّما تدور الفكرة المحوريَّة للَّاهوت الأرثوذكسيِّ الشرقيِّ حول مفهوم التألُّه (theosis). يستخدم الكُتَّاب الأرثوذكسيُّون هذه الكلمة اليونانيَّة للإشارة إلى كلٍّ من وظيفة البشر الأولى (أي المهمَّة التي أوكلها الله لآدم وحواء عند الخلق)، وكذلك إلى الخلاص. كلمة theosis تُترجَم إلى “deification” في اللغة الإنجليزيَّة (بمعنى “تأليه” أو “تألُّه”)، ولهذا هي تمثِّل مصدر إزعاج لغالبيَّة الإنجيليِّين الغربيِّين. لكن ينبغي أن ندرك أنَّ التألُّه لا يوحي ضمنًا بأنَّ البشر يصيرون بالفعل آلهة بأيِّ معنًى وجوديٍّ على الإطلاق. بل يؤكِّد الأرثوذكسيُّون أنَّ الله متفرِّد ومتسامٍ، مثلما يؤكِّد الإنجيليُّون تمامًا. لكن من خلال كلمة theosis، يقصد الأرثوذكسيُّون عمليَّة اكتساب الصفات والخصائص الإلهيَّة، ونوال عدم الموت وعدم الفساد، واختبار الشركة مع الله. ونتيجةً لذلك، يتعلَّق التأليه نوعًا ما بمفاهيم يصفها الإنجيليُّون مستخدمين مصطلحات من قبيل التقديس والحياة الأبديَّة والشركة أو العلاقة مع الله.

يؤمن الأرثوذكسيُّون بأنَّ نوال هذه البركات كان المهمَّة التي وضعها الله أمام البشر عند خلقه إيَّاهم، وهي المهمَّة التي بسبب السقوط فقدَ البشر القدرة على تحقيقها، ثمَّ جعلها تجسُّد المسيح وعمله ممكنةً مرَّةً أخرى. نتيجةً لذلك، من أكثر جوانب اللاهوت الأرثوذكسيِّ صلةً بأولئك الإنجيليِّين المهتمِّين بالمسيحيَّة الشرقيَّة هو مفهوم هذا اللاهوت عن الوسائل التي يخضع بها البشر الساقطون لعمليَّة التألُّه (أو بحسب المصطلحات الغربيَّة، وسائل الخلاص). وذلك موضوع هذه المقالة.

الخلاص بالنعمة بواسطة عمل الروح القدس

يرى الأرثوذكسيُّون أنَّ التألُّه، في المقام الأوَّل، نتاج عمل الروح القدس في البشر. كتبَ فلاديمير لوسكي (Vladimir Lossky): “صار الابن مثلَنا بالتجسُّد، ونحن نصير مثله بالتألُّه عن طريق الاشتراك في الطبيعة الإلهيَّة بالروح القدس”.[1] وبالمثل، أكَّد كريستوفوروس ستافروبولوس (Christophoros Stavropoulos) أنَّ المسيح هو مَن يمنح التألُّه، لكن هذا التألُّه لا يتحقَّق إلَّا بالروح القدس: “فقط في الروح القدس يمكن أن نصير آلهة، على شبه الله”.[2] وهكذا، فإنَّ الروح القدس هو مَن يمكِّننا مِن اكتساب تلك السمات التي تربطها المسيحيَّة الشرقيَّة بالتألُّه.

هذا العمل الذي يجريه الروح القدس، والمتمثِّل في منح البشر التألُّه، هو عمل نعمة الله. كتب ليونيد أوسبنسكي (Leonid Ouspensky):

“يصرُّ اللاهوت الأرثوذكسيُّ على الطبيعة غير المخلوقة للنعمة، ويعرِّفها بأنَّها الانبعاثات الطبيعيَّة، أو الطاقة التي تميِّز الطبيعة المشتركة للأقانيم الثلاثة في اللاهوت. وبهذه الطاقات، يتعدَّى الإنسان حدود المخلوق، ويصير “شريكًا في الطبيعة الإلهيَّة”.[3]

ويبدو التأكيد أنَّ الروح القدس يؤلِّه البشر بالنعمة متوافقًا مع فهم الإنجيليِّين لعمل الله في حياة البشر. لكن تصريح أوسبنسكي يكشف عن فهمٍ لطبيعة النعمة مختلف نوعًا ما عن الفهم الذي يتبنَّاه البروتستانتيُّون. قدَّم لوسكي توضيحًا إضافيًّا قائلًا: “النعمة ليست مخلوقة، وهي بحُكم طبيعتها إلهيَّة. فهي الطاقة أو الانبعاث من الطبيعة الواحدة، أي اللاهوت، وذلك لكونها مميَّزة تمامًا عن الجوهر، ولكونها تنتقل إلى الكائنات المخلوقة مؤلِّهة إيَّاهم”.[4] تؤكِّد الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة أنَّه لا يمكن معرفة الله في جوهره (أي أنَّه غير قابل للمعرفة في ذاته)، وتميِّز بين جوهره والطاقات المنبعثة منه (التي تتعلَّق تقريبًا بما يمكن أن نسمِّيه أعمال الله أو حضوره الفاعل في العالم). وفي هذا الشأن، يدلُّ تصريحا أوسبنسكي ولوسكي على أنَّ هذه الطاقات (التي بإمكاننا معرفتها) تمثِّل النعمة.

ولذلك، فبحسب الفهم الشرقيِّ، يعني التأكيد أنَّ الخلاص بالنعمة أنَّ البشر يؤلَّهون نتيجةً لنقل الله طاقاته إلينا، ومنحه إيَّانا تلك الجوانب من ذاته التي يختار أن يُشرِك البشر معه فيها. وهذا الاعتقاد، بأنَّ النعمة هي طاقات الله التي يمكن أن تُنقَل إلى البشر مؤدِّية إلى تأليههم، يتعارض مع الفهم البروتستانتيِّ المعتاد. فعندما نستخدم كلمة “نعمة”، نقصد عادةً موقفًا من الله تجاه البشر، بناءً عليه يمنح الخلاص كعطيَّة مجَّانيَّة للذين لا يستحقُّونه. ونتيجةً لذلك، يتعلَّق فهمنا الغربيُّ للنعمة في المقام الأوَّل بالغفران، في حين يتعلَّق المفهوم الشرقيُّ بالقوَّة أو الطاقة بقدر أكبر. وسأتناول دلالة وأهميَّة هذا الاختلاف في جزء لاحق من هذه المقالة.

وسائل التألُّه

بحسب الأرثوذكسيِّين، الوسائل الرئيسيَّة التي يعمل بها الروح القدس ليعطي البشر نعمة ويؤلِّههم هي أسرار الكنيسة والجهد البشريُّ. كتب ستافروبولوس قائلًا إنَّ التألُّه يحدث طوال الحياة المسيحيَّة، وإنَّ “الحياة المسيحيَّة تنشأ بواسطة الأسرار والأعمال المقدَّسة، تلك الأعمال الفاضلة التي تُصنَع بدوافع نقيَّة ومقدَّسة، وباسم المسيح”.[5] وكتب أيضًا قائلًا إنَّ النعمة الإلهيَّة تشدِّد البشر حتَّى يسيروا في الطريق إلى التألُّه، وإنَّ هذه النعمة تنتقل وتتحقَّق من خلال الأسرار، ولا سيَّما المعموديَّة والتوبة والاعتراف والإفخارستيا.[6] فالمعموديَّة هي الوسيلة التي بها يبدأ الله عمليَّة التأليه في المؤمن، لأنَّها هي التي تُدخِله إلى حياة المسيح، تلك الحياة التي للكنيسة. أمَّا سرُّ التوبة والاعتراف، فهو العمل المستمرُّ الذي من خلاله يعود الشخص إلى تلك الحياة بعدما يكون قد غادرها وتركها بسبب الخطيَّة. والإفخارستيا هي الوسيلة الأسمى للتألُّه، لأنَّها هي السرُّ الذي من خلاله يصير البشر جسد المسيح، ويتحقَّق اتِّحادهم برأس الكنيسة. يشدِّد الأرثوذكسيُّون على وجود صلة بين تصريح يسوع في العشاء الأخير بأنَّ خبز الإفخارستيا هو جسده، وتصريحات بولس بأنَّ المؤمنين هم جسد المسيح. ويقولون إنَّه بواسطة الإفخارستيا والاشتراك في الخبز الذي هو جسد المسيح، يصير المؤمنون الأفراد جسد المسيح، أي الكنيسة. وهكذا، فإنَّنا، من خلال الإفخارستيا، نخضع لعمليَّة الاتِّحاد بالمسيح، أو التألُّه.

يجب ألَّا نفسِّر هذا التركيز على الأسرار بأنَّه يشير إلى إيمان الأرثوذكسيِّين بأنَّ الكنيسة هي التي تتحكَّم في الروح القدس، أو هي التي توزِّع النعمة. يصوِّب جون مييندروف (John Meyendroff) سوء الفهم المحتمَل هذا بقوله: “ليست الكنيسة هي التي، بواسطة ممارساتها، تمنح الروح القدس، بل الروح القدس هو الذي يؤيِّد ويصادق على كلِّ جانب من جوانب حياة الكنيسة، بما في ذلك ممارساتها”.[7] وهذا الإيمان، بأنَّ الروح القدس هو الذي يؤيِّد حياة الكنيسة، نابع بشكل مباشر من الفهم الأرثوذكسيِّ عن الكنيسة. تؤكِّد المسيحيَّة الشرقيَّة أنَّ الكنيسة، بحُكم تعريفها، هي عمل الروح القدس بين البشر. ومن ثَمَّ، فحتَّى وإن لم تكن الكنيسة نفسها هي التي تعطي النعمة، نستطيع أن نتحلَّى بالثقة في أنَّنا ننال النعمة بواسطة الأسرار، تحديدًا لأنَّه بواسطة الكنيسة يعمل الروح القدس. أكَّد سيرجي بولجاكوف (Sergei Bulgakov) هذا الاعتقاد عندما كتب قائلًا إنَّ وسيلة انتقال الروح القدس هي الأسرار التي يقدِّمها كاهنٌ من النسل الرسوليِّ.[8]

علاوةً على ذلك، التشديد الشرقيُّ على الأسرار باعتبارها وسائل التألُّه متَّصل بالفكرة التي مفادها أنَّ الكنيسة هي في المقام الأوَّل مجتمع سرِّيٌّ ومقدَّس. فالغرض من وجود البشر هو أن يصيروا مؤلَّهين، والكنيسة موجودة في المقام الأوَّل بغرض ممارسة الأسرار. ومن ثَمَّ، فمن المنطقيِّ أن تكون الكنيسة، بواسطة الأسرار، هي الوسيلة التي ينقل بها الروح القدس عمل التأليه إلى البشر. وبموجب ذلك، فإنَّ المفاهيم الأرثوذكسيَّة عن الكنيسة وعن التألُّه تعتمد بشدَّة بعضها على بعض. والتركيز الشرقيُّ على الكنيسة بصفتها وسيلة الخلاص نابع من هذا التداخل بين الأفكار.

بالإضافة إلى الأسرار، الوسيلة الأخرى التي يؤلِّه بها الروح القدس البشرَ هي الجهد البشريُّ. ففي القول المقتبَس أعلاه، أوضح ستافروبولوس أنَّ الحياة المسيحيَّة تنشأ ليس فقط من خلال الأسرار، بل أيضًا من خلال “الأعمال المقدَّسة”. ثمَّ استطرد مؤكِّدًا أنَّ الغرض الحقيقيَّ من الحياة المسيحيَّة هو نوال الروح القدس، الذي يؤلِّه البشر. فالصلاة والصوم والأعمال الأخرى ليست هي هدف الحياة، لكنَّها “الوسائل اللازمة لبلوغ الهدف”.[9] لا يعني ذلك أنَّ الأعمال الصالحة تمكِّن البشر من استحقاق التألُّه، لكنَّ ستافروبولوس شدَّد هنا على أنَّ الروح القدس نفسه هو الذي يؤلِّه البشر بواسطة الأعمال. وبالمثل، شدَّد بولجاكوف على أنَّ الأعمال الصالحة لا تربح التألُّه بالاستحقاق: “فالأعمال الصالحة لا تشكِّل استحقاقًا -فلا أحد يستحقُّ أو يمكن أن يستحقَّ الخلاص بالأعمال البشريَّة، لكنَّ هذه الأعمال تمثِّل الاشتراك الشخصيَّ للإنسان في بلوغ الخلاص، بعيدًا عن أيِّ محاسبة أو تعويض”.[10]

قدَّم لوسكي السبب اللاهوتيَّ لهذا التشديد الأرثوذكسيِّ على الجهد البشريِّ في التألُّه بقوله: “يصير الله بلا قوَّة أمام حريَّة البشر. فهو عاجز عن انتهاك هذه الحريَّة لأنَّها نابعة من قدرته الكليَّة. فمن المؤكَّد أنَّ الإنسان خُلِق بمشيئة الله وحده، لكن لا يمكن أن يؤلَّه بتلك المشيئة وحدها”.[11] يعكس هذا التصريح التركيز ذاته على حريَّة الإنسان الذي يدفع اللاهوتيِّين الأرثوذكسيِّين أيضًا إلى رفض الفكرة القائلة إنَّ البشر كانوا في الأصل في شركة كاملة مع الله. فبحسب اللاهوت الشرقيِّ، احترام الله لحريَّة الإنسان دفعه إلى خلق آدم وحواء فقط بإمكانيَّة أن يتَّحدوا به بدلًا من أن يرغمهم على الدخول في شركة معه ربَّما لم يكونوا راغبين فيها. وبالمثل، تؤكِّد الأرثوذكسيَّة على أنَّ الله يتخلَّى عن قوَّته وسلطانه أمام حريَّة الإنسان، رافضًا تأليه البشر دون قبولهم واشتراكهم الإيجابيِّ في الأمر. يوافق جورج فلوروفسكي (Georges Florovsky) على هذا التركيز على المشاركة البشريَّة في عمليَّة التأليه، قائلًا: “أراد الله بإرادته الحرَّة سبيلًا تآزريًّا إلى الفداء، فيه يجب أن يشترك الإنسان معه روحيًّا”.[12] (يركِّز اللاهوت الشرقيُّ على حريَّة الإنسان بقدر أكبر من تركيز الفروع المصلَحة من اللاهوت الغربيِّ عليها، وعلى سيادة الله بقدر أقل من تركيز هذه الفروع عليها، مع أنَّ بعض فروع الإنجيليَّة الغربيَّة، مثل اللاهوت الويسليِّ، تتبنَّى رأيًّا عن حريَّة إرادة الإنسان قريبًا من الرأي الأرثوذكسيِّ).

من خلال حديثنا هذا، يتبيَّن لنا أنَّ عملية التألُّه هي نتاج كلٍّ من عمل الروح القدس، الذي يُجرَى بواسطة أسرار الكنيسة، وكذلك نتاج الجهد البشريِّ في سبيل اكتساب الفضيلة. فبحسب الأرثوذكسيِّين، لا يوجد انفصال بين النعمة والأعمال. والسؤال المتعلِّق بما إن كان الخلاص بالإيمان أم بالأعمال لا يثار من الأساس. والسبب في ذلك هو أنَّ المسيحيِّين الشرقيِّين ينظرون إلى النعمة ليس على أنَّها تعبيرٌ عن الطبيعة غير المستحَقَّة للخلاص، بل على أنَّها الطاقة المنبعثة من الله، التي يمكن نقلها إلى البشر.

التألُّه عمليَّة

يجب أن يكون قد صار واضحًا لنا أنَّه بحسب الفهم الشرقيِّ للخلاص، ينصبُّ التركيز على العمليَّة التي نصير بها متَّحدين بالله بواسطة التألُّه. ونتيجةً لذلك، يصبُّ اللاهوت الأرثوذكسيُّ تركيزًا ضئيلًا جدًّا على ذلك الجانب من الخلاص الذي يشدِّد عليه الإنجيليُّون بقوَّة، ألا وهو التغيير الذي يقع في مقام الشخص أمام الله عند إيمانه. ففي حقيقة الأمر، إذا أردنا استخدام المصطلحات الغربيَّة، يمكن أن نعمِّم قائلين إنَّ الفهم الأرثوذكسيَّ للخلاص يشمل بشكل يكاد يكون حصريًّا العناصرَ المتَّصلة بعمليَّة التقديس (أي صيرورتنا مشابهين صورة المسيح)، في حين يشمل الفهم الإنجيليُّ إلى حدٍّ كبير العناصرَ المتَّصلة بالتبرير (أي عمل الله المتمثِّل في الحُكم ببرِّ أحدهم، وقبوله أمامه بفضل برِّ المسيح).

أوضح مكسيموس المعترف هذا الاختلاف في بؤرة التركيز عن طريق تأكيده أنَّه عندما ميَّز بولس في رومية 8: 28-30 بين التعيين المسبق والدعوة والتبرير والتمجيد، كانت هذه جميعها مراحل من عمليَّة واحدة، وهي عمليَّة التألُّه أو التقديس. ثمَّ استطرد قائلًا: “بتعبير آخر، ليس التبرير عملًا منفصلًا يجريه الله، لكنَّه يمثِّل الجانب السلبيَّ من الخلاص في المسيح، وهو جانب التحرُّر من الخطيَّة والموت وإبليس؛ في حين أنَّ التقديس هو الجانب الإيجابيُّ من عمل الله الخلاصيِّ، وهو جانب النموِّ الروحيِّ في الحياة الجديدة في المسيح، الذي يتحقَّق بواسطة روح الله القدوس”.[13] هذا التفسير يبيِّن أنَّ التركيز في الأرثوذكسيَّة منصبٌّ على عمليَّة النموِّ الروحيِّ. وفي حقيقة الأمر، لم يتضمَّن تعريف مكسيموس للتبرير حتَّى فكرة الحُكم ببرِّ أحدهم في بداية إيمانه، وهي الفكرة المحوريَّة في أيِّ فكر إنجيليٍّ تقريبًا. أوضح فلوروفسكي ذلك بأكثر تفصيل عندما انتقد وجهة نظر لوثر عن التبرير (وهي وجهة النظر التي يتبنَّاها غالبيَّة الإنجيليِّين)، فكتب: “بحسب لوثر، الفعل “يبرِّر” معناه الحُكم ببرِّ أحدهم، وليس “جعله” بارًّا -فهو احتكام إلى عدالة غير حقيقية، الأمر الذي يُعَدُّ في الواقع خيالًا ووهمًا روحيًّا”.[14]

من خلال هذه التصريحات، نستطيع أن ندرك الفرق الشاسع بين بؤرتي التركيز الشرقيَّة والغربيَّة في الخلاص. فبالنسبة للغربيِّين، تُعَدُّ مسألة مقام الشخص أمام الله من أهمِّ المسائل على الإطلاق. أمَّا بالنسبة للشرقيِّين، فهذه المسألة لا تثار على الإطلاق تقريبًا، وذلك في ضوء التركيز الغالب على العمليَّة التي يصير بها الشخص بالفعل بارًّا عن طريق التألُّه. ونتيجةً لذلك، فإنَّ المفهوم الشرقيَّ عن الحياة المسيحيَّة يختلف جوهريًّا عن المفهوم الدارج في الغرب. فبحسب الإنجيليِّين الغربيِّين، أهمُّ عنصر في الخلاص هو القبول أمام الله (أو الحكم ببرِّ المرء). يتحقَّق ذلك في بداية الإيمان، ثمَّ تنبع عمليَّة التقديس من هذا التغيُّر في المقام أمام الله. أمَّا بحسب الأرثوذكسيِّين، فعمليَّة التقديس أو التألُّه تشكِّل الوسيلة إلى الغاية النهائيَّة، التي هي الاتِّحاد بالله.

ولأنَّ التألُّه عمليَّة وليس تغييرًا لحظيًّا، فإنَّ الفهم الشرقيَّ للخلاص يحمل في طيَّاته النتيجة المباشرة المترتِّبة عليه، وهي أنَّ البشر لن يكونوا مؤلَّهين بالكامل عند موتهم. وبموجب ذلك، يؤكِّد اللاهوت الأرثوذكسيُّ استمرار التدرُّج في التألُّه حتَّى بعد موت الإنسان. يؤكِّد نيكولاس زيرنوف (Nicolas Zernov) أنَّ مكافآت المؤمن لا تُمنَح له بعد موته مباشرةً، بل في نهاية الزمان، وأنَّه نتيجة لذلك، يصير مزيدٌ من التغيُّر إلى الأفضل ممكنًا.[15] وبحسب الفكر الأرثوذكسيِّ، لا تؤدِّي هذه الفكرة إلى تكوُّن مفهوم عن المطهر مشابه لمفهوم الكاثوليكيَّة الرومانيَّة القديمة. فقد نوَّه بولجاكوف بأنَّ الأرثوذكسيِّين لا يعترفون بوجود مكان تطهير، لكنَّهم يقرُّون بإمكانيَّة استمرار حالة التطهير والتنقية إلى ما بعد الموت.[16] وبالطبيعة، هذه القناعة بإمكانيَّة استمرار إحراز الإنسان تقدُّمًا حتَّى بعد موته تؤدِّي إلى الاعتقاد بأنَّ الصلوات التي تُرفَع لأجل المؤمنين الذين ماتوا يمكن أن تساعدهم على استكمال عمليَّة التألُّه. ومثل هذه الصلوات هي جزء رئيسيٌّ من الممارسات الدينيَّة الأرثوذكسيَّة الشائعة، وهي تشغل مكانة مهمَّة في العبادة الجماعيَّة الليتورجيَّة.


[1] V. Lossky. In the Image and Likeness of God, ed. J.H. Erickson (Crestwood. NY: St. Vladimir’s Seminary Press, 1974), p. 109.

[2] C. Stavropoulos, Partakers of the Divine Nature, tr. S. Harakas (Minneapolis; Light and Life Publishing Co., 1976), p. 29.

[3] L. Ouspensky, Theology of the Icon (Crestwood, NY: St. Vladimir’s Seminary Press, 1978), p. 215.

[4] V. Lossky, The Mystical Theology of the Eastern Church (Greenwood, South Carolina: Attic Press, 1973), p. 172.

[5] C. Stavropoulos, p. 32.

[6] Ibid., pp. 37–38.

[7] J. Meyendorff, Catholicity and the Church (Crestwood, NY: St. Vladimir’s Seminary Press, 1983), p. 28.

[8] S.N. Bulgakov, The Orthodox Church (London: Centenary Press, 1935), pp. 55–56.

[9] C. Stavropoulos, p. 33.

[10] S.N. Bulgakov, p. 127.

[11] V. Lossky, Orthodox Theology: An Introduction, tr. 1. & I. Kasarcodi-Watson (Crestwood. NY: St. Vladimir’s Seminary Press, 1978), p. 73.

[12] G.V. Florovsky, Collected Works, Vol. X: The Byzantine Ascetic and Spiritual Fathers (Vadez, Germany: Buechervertriesbanstalt, 1987), p. 31.

[13] M. Aghiorgoussis, ‘Orthodox Soteriology’, in J. Meyendorff & R. Tobias, eds., Salvation in Christ: A Lutheran-Orthodox Dialogue (Minneapolis: Fortress, 1992), pp. 48–49.

[14] G.V. Florovsky, The Byzantine Ascetic and Spiritual Fathers, p. 30.

[15] N. Zernov, Eastern Christendom: A Study of the Origin and Development of the Eastern Orthodox Church(London: Weidenfeld & Nicolson, 1961), p. 235.

[16] S.N. Bulgakov, pp. 208–209.

شارك مع أصدقائك

أستاذ المسيحيّة المبكرة بكليّة جوردون كونويل للاهوت. خدم د. فيربايرن ما بين إقليم دونتسك في أوكرانيا وجمهورية جورجيا لأكثر من سبعة أعوام. بعد حصوله على درجة الدكتوراة عام 1999، قام بتدريس تاريخ الكنيسة واللغات اليونانية واللاتينية بكليّة إرسكين للاهوت بولاية ساوث كارولاينا.