ماذا علمتني روميّة 8 عن الضمان الذي في المسيح

في كل مرة أقف خلف المنبر وأقول شيئًا من قبيل: “كل القديسين الحقيقيين سيثابرون حتى النهاية ولن يضيع منهم أحد”، لازلت أضحك في قرارة نفسي وأفكر كيف كنت مُضادًا لهذا الفكر حين كنت شابًا.

فكما ترى، لم أكن دومًا أؤمن بالتعليم الإنجيليّ المُصلَح.

لقد نشأت أرمينيًا في كنيسةٍ أرمينيّة. وفي مرحلة المراهقة، كنت أتغذى على كتابات لاهوتيين أمثال إف. ليروي فورلاينز وماثيو بنسون، إلى جانب كبار اللاهوتيين مثل جيمس أرمينيوس وجون ويسلي. وكرجلٍ بالغ، كنت أُؤمن وأُعَلِّم بأن النعمة هي ضرورية للغاية، ولكنها أبدًا ليست (كما يقول المُصلحون الكالڤينيون) “لا يمكن أن تُقاوَم”، وبأن المسيحيين الحقيقيين يمكنهم ترك المسيح وفقدان حالة التبرير الذي نالوه.

وتكمن خلف هذه المعتقدات وجهة نظر بأن العلاقة بين الله والإنسان هي على هذا النحو: لقد خلق الله البشر ليعيشوا في علاقة حب معه. وتتطلّب طبيعة علاقة المحبة هذه استجابة حرّة من جانبنا. على حد تعبير فورلاينز: لقد رأيت الله يعمل مع الإنسان في “علاقة تأثير واستجابة” وليس في “علاقة سبب ونتيجة [حتميّة]” (كما يعتقد المُصلحون الكالڤينيون). فمن الممكن أن يؤثر الله فينا، لكنه يحترم شخصياتنا عبر تركه القرار النهائيّ لنا دائمًا. والله يفعل ذلك، ليس لكونه ضعيفًا، ولكن لأن هذا هو ما كان يعنيه أن تكونه العلاقة معه.

فإن الاختلاف بين الله صاحب التأثير والله صاحب المبادرة والمُسبب يمكن تلخيصه في كلمةٍ واحدة: الضمان. فيضعها فورلاينز في كتابه “The Quest for Truth” على هذا النحو:

أعتقد أن وصف علاقة الله بالإنسان الذي سيُقدّمه الكالڤينيون سيكون مشابه لوصف التأثير والاستجابة الذي قدمته أنا. ولكنهم يعتقدوا أن النتيجة مضمونة…. في أي وقت تكون فيه النتيجة مضمونة، فهنا نحن نتعامل مع السبب والنتيجة. فعندما يتلاشى الضمان، تتلاشى الكالڤينيّة.

وهذا صحيح. فأنا اتفق مع هذا، سواء في الماضي، أو الآن. الفارق هو أني ببساطة غيّرت وجهة نظري. فكيف حدث ذلك؟ الإجابة المختصرة هي المواجهة التي حدثت بيني وبين روميّة 28:8–30.

واعظ حماسيّ، وإشكاليّة مقطع كتابيّ

غالبًا ما يُشار إلى روميّة 28:8–30 على أنها “سلسلة الفداء الذهبيّة”–والسبب في ذلك إنما يرجع إلى “حلقاتها” الخمس: سبق المعرفة الإلهيّة، والتعيين المُسبَق، والدعوة، والتبرير، والتمجيد.

كأرمينيّ، رأيت في روميّة 28:8–30 إشكاليّة كبيرة. بالطبع كانت الآية 29 تُمثل لديّ نص رئيسيّ عن الاختيار بحسب عِلم الله السابق. لكن باقي المقطع كان صعبًا للغاية. كنت أعرف جيّدًا ما يقوله المفسرون المفضلون لديّ، لكنني لم أكن مقتنعًا تمامًا. فوضعتها في خانة الآيات العسرة. ففي النهاية، لا يوجد نظام لاهوتيّ يشرح كل شيء على أكمل وجه.

ثم بدأت استمع إلى عظات جون بايبر عن روميّة، ولم يكن عالمي مثاليًا حينها. كان ذلك في عام 2004، ولم أسمع وعظًا مثل هذا من قبل. فقد كشف تفسيره الدقيق عن جميع نقاط الضعف التي كنت أشعر بها بالفعل في تفسيري لهذا المقطع، بالإضافة إلى كشفه لي عن نقاط ضعف جديدة. لا يمكنني القول بأنني اقتنعت بالتعليم المُصلَح (الكالڤينيّ) بموجب هذه العظات. ولكن ثقتي في التفسير الذي كان لديّ قد اهتزّ بشدة. وفي النهاية أدركت بأن سلسلة الفداء الذهبيّة التي كتبها بولس هنا، شأنها شأن التعليم الأنجيليّ المُصلَح (الكالڤينيّة)، تتعلّق إلى حدٍ كبير بالضمان.

هل يمكن للسلسلة ألا تنكسر؟

دعني أضع أمام أعيننا الآيات 29–30 حتى نتصوّر الجدل القائم. (اقرأ من أعلى اليمين إلى أسفل اليسار، ولاحظ بعناية الكلمات المتطابقة.)

في الماضي، كنت اتفق بطبيعة الحال مع تفسير جوزيف بنسون لهذا المقطع: “لا يؤكّد الرسول [هنا] … أن أعداد الأشخاص الذين دعاهم، هم أنفسهم الذين بررهم ومجدهم.” فهذا يستدعي وجود ضمان، في نهاية المطاف. ولكن، كلما درست هذا المقطع أكثر، كلما بدا جليًّا كما لو كان هذا بالضبط ما كان يؤكّده بولس هنا.

أولًا، فكّر في كل حلقة على حدة. يبدأ بولس حديثه هنا بوصف مجموعة من الناس بناءً على شيء ما يعمله الله لهم (“الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ”). ثم يضيف شيئًا آخر يعمله الله لذات المجموعة من الناس “سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ [أيضًا]”. تُخبرنا كلمة “أيضًا” في كل حلقة من الحلقات الخمس أننا نتعامل مع ذات الأشخاص في شطريّ الآية. فالذين سبق وعرفهم هم أنفسهم من عينهم أيضًا. وبالتالي، أ = ب. هذا صحيح في كل حلقة من حلقات هذه السلسلة.

ولكن يمكنك أن تلاحظ أيضًا هذا التداخل بين شطريّ الآيات. إذ يُعتَبَر الفعل الثاني في كل آية هو نفسه الفعل الأول في الآية التالية. وهذا ما يربط هذه الجُمَل الخمس كحلقات السلسلة. وهذا ما دفعني في النهاية إلى استخلاص أن المُفسرون الأرمينيون أمثال بنسون مخطئون. فالرسول بولس يؤكد أن ذات العدد بالضبط من الناس–بل في الحقيقة، نفس المجموعة من البشر–قد سبق فعرفهم، وسبق وعيّنهم، ودعاهم، وبررهم، ومجّدهم. أو بلغة معادلتنا هنا: أ = ب = ج = د = هـ.

لكوني أرمينيًا، كثيرًا ما كنت أجادل بأن هذه الحلقات أو المراحل الخمس ما هي إلا تسلسل عام على جميع القديسين الحقيقيين الاجتياز فيه، بلا أي ضمان بأن الموجودين في مجموعة [أ] سوف يصلون حتى البلوغ إلى مجموعة [هـ]. في الواقع، كنت أعتقد بأنه يمكن للبعض أن يسقط في أي مرحلة من هذه العمليّة. كانت أشبه بلوحة رمي السهام (الخِزَاقَة)، كلما تحركنا إلى الداخل، صارت الدوائر أصغر.

لكن كلما درست اللغة الفعليّة لهذا النص، كلما زادت قناعتي بأن هذا الاعتقاد غير قابل للتصديق. قادني هذا في النهاية نحو الإيمان الإنجيليّ المُصلَح. ففي النهاية، إذا تم تبرير كل المدعوين، فهذا يتطلّب أن يتم ضمان الدعوة بالإيمان، إذ يسبق الإيمان التبرير (رومية 5: 1). والأكثر من ذلك، إذا ما تم تمجيد كل من تبرر، فلابد ان يكون التبرير وضعًا دائمًا ومستمرًا–حُكمًا قضائيًا لا ينقضه الله أبدًا.

غاية الضمان في السلسلة الذهبيّة

من الهام أن نُدرك السبب الذي لأجله صاغ الرسول بولس هذه السلسلة من البداية. والجواب سنجده في آية 28 الشهيرة:

وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ.

لاحظ أن بولس هنا لا يُقدّم مجرّد ادعاء واقعيّ (بأن “كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ”)، إنما يُقدّم ادعاءً بالمعرفة (“وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ”).

وهذا من شأنه أن يثير سؤالًا: “كيف نعلم؟” ما هو الضمان الذي يمكن أن يكون لدينا، أنه برغم كل العيان، ستعمل كل الأشياء معًا لخير أولئك الذين يحبون الله–الذين دعاهم الله. هنا يأتي دور السلسلة الذهبيّة التي صاغها بولس للإجابة على هذا السؤال. فلهذا السبب، تبدأ السلسلة الذهبيّة في آية 29 بكلمة “لأَنَّ”–إذ تُقدّم السبب الذي لأجله “نَعْلَمُ“. وإليك الحُجّة التي صاغها بولس باختصار:

نحن نعلم أن كل الأشياء ستعمل معًا لخير المدعوين، لأنه إذا كُنّا مدعوين، فهذا يعني بأننا معروفين ومُعينين مُسبقًا (في الماضي) لنكون مُشابهين صورة المسيح، وهذا يعني أننا الآن مُبررون (في الحاضر)، وسيتم تمجيدنا في النهاية (في المستقبل).

بهذا نعرف أنه لا كسور أو فراغات بين حلقات هذه السلسلة.

لقد كان فورلاينز مُحقًّا، فبمنطق التأثير والاستجابة الذي يطرحه الأرمينييّن، لا يمكن أن يكون هناك ضمان. ولكن هذا من شأنه أن يُبطِل هدف هذا المقطع الكتابيّ، لأن الضمان هو عين ما يسعى بولس لترسيخه هنا. إذا كان من الممكن لنا السقوط من هذه السلسلة في أي وقت، فلا يمكننا أن “نعلم” أبدًا أن كل الأشياء ستعمل معًا لخير المدعوّين. فقد ينجح الأمر أو لا ينجح–لأن النتيجة تعتمد، بحسب هذا الرأي، في النهاية على المدعوين أنفسهم. فالعديد من المدعوين لن يتبرروا ولن يتمجّدوا أبدًا.

ولكن الخبر السار هو أن هذه السلسة غير قابلة للكسر، لأن صائغها وصانعها هو الله. وهذا لا يعني بأن كرازتنا أو إيماننا غير ضروريين. ولا يعني ذلك أننا يمكن أن نكون متأكدين من جهة خلاصنا بغض النظر عن مثابرتنا من عدمها. إنما يعني ببساطة أن الله لم يترك تكوين عائلة المسيح في أيدٍ بشريّة مُتقلّبة. فالله يفعل أكثر من مُجرّد التأثير علينا–فهو قد سبق وعيّننا. هذا هو السبب في أن كل الأشياء ستعمل معًا لخير المدعوون، وأن المسيح سيكون بكرًا بين إخوة كثيرين (رومية 8: 29).

فالله هو المسؤول، والنتيجة محفوظة في يده. وهذا، يا أحبائي، هو الضمان.

شارك مع أصدقائك

حاصل على ماجستير اللاهوت (MDiv) من كليّة اللاهوت المعمدانيّة الجنوبيّة، ويرعى حاليًا كنيسة النعمة المعمدانية بولاية تينيسي الأمريكيّة.