المحمول والمزمور

محمول 23 

محمولي راعيّ فلا يعوزني شيء. أبكّرُ إليه صباحاً، عيني عليه، حتى المساء لا يفارقني. يأخذني من عائلتي – منزوياً الى كرسيٍّ مريحٍ يربضني. بعيدًا عن جوهر الحق والخير يقودني. يُدّمِرُ نفسي، يُهديني الى سُبُل محبة المال والشهوة من أجل اسمه. أيضاً اذ أسير في وادي ظل الموت، فهو معي وكفايتي. بريق ألوانه، كاميرته، رنّته، محتوياته، تعليقات وتقييمات شبكاته الاجتماعية يٌعزّونني. يُرّتبُ قدّامي مائدة من المظاهر السطحية الكاذبة، يُدهن بالماديّات رأسي. خمر كأسي الأنا، لا أرتوي منها. إنمّا غيرة وحسد وطمع أتبع في كل أيام حياتي. وأسكن بيتي مع محمولي، مفتوناً بقداسته، لا أفارقه إلى مَدى الأيّام.

مزمور 23

ما أحوجنا اليوم أن نبتعد لدقائق معدودة عن شاشات هواتفنا، والواحنا الذكية، وأخبار عالمنا المضطرب، ونأخذ قسطًا من الراحة على ضفاف كلمات مزمور٢٣ الأصليّة لداود حيث يقول:

اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ الرَّاحَةِ يُورِدُنِي. يَرُدُّ نَفْسِي. يَهْدِينِي إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ. أَيْضاً إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرّاً لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي. تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ. مَسَحْتَ بِالدُّهْنِ رَأْسِي. كَأْسِي رَيَّا. إِنَّمَا خَيْرٌ وَرَحْمَةٌ يَتْبَعَانِنِي كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي وَأَسْكُنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى مَدَى الأَيَّامِ.

لعل مزمور ٢٣، هو أحد تلك المزامير التي نحاول أن نجد بعض الراحة الحقيقة عند قراءته، لا سيّما في الظروف والاوقات الصعبة والمضطربة. والحقيقة أن كلمات المزمور هي كلمات بسيطة، ولكن سرعان ما يشعر الإنسان عند التأمل فيها أنها ليست كلمات أدبية صيغت بلغة شعرية رائعة فقط، بل لها عمقها وتأثيرها الكبير على النفس والقلب.

وربما يرجع السبب الرئيسي في ذلك الى إحساس الكاتب اخيراً بالشبع والراحة والأمان كنتيجة لثقته في الراعي الإلهيّ. لقد عبّر القديس أوغسطينوس في اعترافاته عن هذه الحقيقة بالقول “يا الله قد خلقتنا لذاتك ونفوسنا لن تجد راحتها الا فيك”.

إن السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن بعض القرّاء هو: هل يمكننا اليوم، وبالرغم من تحديات الحياة وقسوتها، وآلامها، وما نمر فيه من تهديدات وأمراض وحروب واضطرابات سياسية واقتصادية، ومشاكل اغتراب وهجرة، أن نثق بالله مثل داود؟

في هذه المقالة القصيرة سنحاول وبنعمة الله ان نجيب على هذا السؤال، ولكن قبل ان نجيب على السؤال لابد لنا ان نتأمل اولا وباختصار في فقرات المزمور ونُبيّن علاقة المزمور بالعهد الجديد. فالعهد الجديد مخبأ في العهد القديم، والعهد القديم معلن في العهد الجديد.

لمحة عن المزمور

يبدأ المزمور باسم الرب إذ يقول: اَلرَّبُّ رَاعِيَّ  יְהוָ֥ה רֹ֝עִ֗י. فكاتب المزمور يريد ان ينقلنا الى صورة تتعدى صورة الراعي المجردة.  فالراعي الحقيقي لداود هو الرب الاله الملك الذي يقوم بقيادة خرافه الخاصة الى مراعٍ خصبة، وجداولَ وعيون مياه هادئة لتنهل منها. وهو أيضا من يهتم بخلاصها، إذ يرُدّها ويهديها الي سبل البر، لا بسبب صلاح في الخراف. بل من اجل اسمه (آية 3).

لا يفصل داود نفسه عن واقع الحياة، ففي آية ٤ يعلن صراحةً بأنه على الرغم من أن الرب يرعاه ويقوده إلى تلك المراعي الخضراء، إلا أنه حتما سيجتاز في وادي ظل الموت وسيتعرّض للعديد من الأخطار والشرور المصائب وكل الالام التي تصيب البشر عموما، والتي من ضمنها الموت.

ولكن ثقة وإيمان وعزاء داود تَكمن في حضور الراعي-الملك الإله الحي الذي يحميه بعصاه وعكازه ليحافظ عليه وينتشله من الأخطار، بينما يقوده في وادي ظل الموت. وهذا يأتي بنا إلى حقيقة مفادها أن المؤمنين الحقيقيين على الرغم من أنهم في حماية الله وأمانه، إلا أنهم معرضون لكل المحن والآلام والأخطار التي تصيب البشر عمومًا.

ينقلنا داود في الآيات ٥، ٦ إلى حقيقة الراحة النهائية في بيت الرب، من خلال تصويره عادات وتقاليد الضيافة في المجتمع العبرانيّ آنذاك، والتي استمرت لقرون من بعده. تلك التقاليد التي كانت تستوجب علي المضيف أن يدهن رأس ضيفه بزيت مُعطّر، ومن ثم يهم بتقديم الوليمة له، ويوفر الحماية له بأي ثمن إذا ما تعرّض لمضايقات أو اعتداء.

والمضيف هنا هو الرب الراعي نفسه، اذ نرى صورة كرم وضيافة الرب الراعي والملك لشعبه وحمايته لهم من الشرور. وأخيرا كما بدأ داود باسم الرب، نراه يختتم المزمور برحمة وخير الرب اللذان يلاحقانه كل أيام حياته، واخيرا سكناه الدائمة في بيت الرب الراعي إلى مدى الأيام.

هل يمكننا اليوم أن نثق بالله مثل داود؟

عندما تأخذنا ومضات الذاكرة لنتذكر شتى الصعوبات التي اجتاز فيها داود، ومعاناته الشخصية والعائلية والسياسية، يمكننا أن نجيب وبكل ثقة على هذا السؤال بنعم! نحن أيضاً يُمكننا أن نثق في الله ونجد كفايتنا الكاملة، وراحتنا وطمأنينتنا فيه، تمامًا كما كان داود. لأن هذا المزمور لم يُكتب لداود وحده فقط، بل كُتب لكل من يؤمن إيماناً حقيقياً بعمل وخلاص المسيح. فالحقيقة التأريخية التي لا مفر منها هي أن الملك والراعي الإلهي في مزمور ٢٣ حلّ بيننا في الجسد، وصار معنا في شخص المسيح الذي أعلن ذلك بنفسه قائلاً:

أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ … أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي. كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ … فَيَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا وَالْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ…  وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا، وَالْخِرَافُ تَتْبَعُهُ، لأَنَّهَا تَعْرِفُ صَوْتَهُ. (يوحنا ١٠)

إن علاقة السيد المسيح الراعي الصالح بخرافه هي علاقة عهد محبة حتى الموت. فالخراف تسمع صوته وتتبعهُ، لأنه أحب خرافهُ أولاً، وجاء ليبحث عنها ويردها، ووضع نفسه ومات من اجلها ليعطيها حياة ابدية، ودعاها بأسمائها لتتبعه، وتكون في حمايته. فوجدت كفايتها وشبعها وسلامها وطمأنينتها فيه.

“خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي، وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي.” (يوحنا ١٠: ٢٧-٢٨)

وهو سيُكمّل قيادته لخرافه ويحفظها، ويعمل بروحه فيها، ويردها إلي سُبُل البر، ليصنعوا مشيئته من أجل كلمة عهدهِ واسمهِ الذي دُعي عليهم.

ويذكرنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين بذلك قائلاً: “وإِلَهُ السَّلاَمِ الَّذِي أَقَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ رَاعِيَ الْخِرَافِ الْعَظِيمَ، رَبَّنَا يَسُوعَ، بِدَمِ الْعَهْدِ الأَبَدِيِّ، لِيُكَمِّلْكُمْ فِي كُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ لِتَصْنَعُوا مَشِيئَتَهُ، عَامِلاً فِيكُمْ مَا يُرْضِي أَمَامَهُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.” (عبرانيين 13: 20-21)

سيظل الإنسان يبحث عن أشياء في هذا العالم يعتقد أنها قد تكون كافية لملء ذلك الفراغ الذي يشعر به في قلبه لتعطيه الأمان والسلام، ولن يتوقف في بحثه عن تلك الاشياء إلاّ عند سماعهِ وتمييزه واستجابته لصوت الراعي الصالح، ابن الله، يسوع المسيح القائل: “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ، وَمَنْ يُرِدْ فَلْيَأْخُذْ مَاءَ حَيَاةٍ مَجَّاناً.” (متى ١١: ٢٨، يوحنا ٧: ٣٧-٣٨، رؤية ٢٢: ١٧). وعندما يستجيب الإنسان لذلك الصوت بالإيمان، ويجد كفايته وراحته الحقيقية في المسيح سيقول واثقاً وبلا تردد: اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ.

شارك مع أصدقائك