التعريف
إنَّ العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة ولاهوت العهد الجديد هما نظامان كتابيَّان لاهوتيَّان إنجيليَّان يَسْعَيَان إلى فهم كيفيَّة تَكَشُّف كامِل خطة الله الفدائيَّة من الخلق إلى المسيح، وبشكل أكثر تحديدًا، هُما يَسْعَيَان إلى فهم كيف يتم إزاحة الستار والإعلان عن خطة الله الواحِدة الأزليَّة تدريجيًّا من خلال العهود الكتابيَّة، وكيف تتم كل وعود الله في المسيح، وتنطبق على الكنيسة باعتبارها شعب الله للعهد الجديد؛ وهكذا يسمحان لنا بالخروج باستنتاجات لاهوتيَّة صحيحة من الكتاب المقدس لمجد الله وخيرنا.
الموجَز
سَيَصِف هذا المقال سمات العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة المُمَيِّزَة، وسيفعل ذلك بوضعها إزاء اللاهوت التدبيري ولاهوت العهد؛ وبذلك يُسَلِّط الضوء على مواضِع اختلافها في تَدَرُّج العهود، والعلاقة بين إسرائيل والكنيسة، والتَّدَفُّق العام لقصة الكتاب المقدَّس الكبيرة المُتَمَركِز في المسيح يسوع.
يَتَّفق جميع المسيحيِّين على مركزيَّة “العهود” في قصة الكتاب المقدَّس، وعلى أنَّ خطة الله الفدائيَّة تتكشَّف بمرور الوقت وصولًا إلى إتمامها في المسيح. ويقبل جميع المسيحيِّين أيضًا شكلًا من أشكال الحِقَب الفدائيَّة أو التدابير الفدائيَّة عبر التاريخ والتي ترسم العهود الكتابيَّة حدودها، وأنَّ إتمام مقاصد الله الخلاصيَّة في المسيح قد أحدث نوعًا من التغيير عن العصور الماضية. غير أنَّ المسيحيِّين يختلفون حول الشكل الدقيق للعلاقات بين هذه العهود. وليس هذا بجدالٍ جديدٍ. فقد صارع الرُّسُل في الكنيسة الأولى مع تداعيات عمل المسيح في العهد الجديد (اُنْظُرْ: أعمال الرسل 10-11، 15؛ غلاطية 3-4؛ أفسس 2: 11-22).
ولا يزال المسيحيُّون اليوم يختلفون حول الشكل الدقيق للعلاقات بين العهود، وهو الأمر الذي يحمل تداعيات على النزاعات اللاهوتيَّة الأخرى، مثل: الجدالات حول جِدَّة ما حقَّقه المسيح؛ وما هي المطالب الأخلاقيَّة التي تنطبق على المسيحيِّين اليوم، كما ينعكس في الخلافات حول الوصايا العشر؛ وحفظ السبت/ يوم الرب؛ وكيف أنَّ وعود العهد القديم السابقة مُتَمَّمَةٌ الآن في المسيح والكنيسة، وهي المسألة المرتبطة بالنقاش الأوسع حول العلاقة بين إسرائيل والكنيسة، وحول دور أُمَّة إسرائيل في خطة الله. في الواقِع، يميل الناس داخل اللاهوت الإنجيلي إلى التفكير في هذه القضايا إمَّا من وجهة نظر اللاهوت التدبيري أو من وجهة نظر لاهوت العهد، بينما تُعَدُّ العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة ولاهوت العهد الجديد وجهتي نظر وسيطَتَيْنِ، ولكي نستوعب وجهتي النظر الأخيرتين بشكلٍ أفضل، دعونا أوَّلًا نَصِف بإيجاز النقاط الأساسيَّة في وجهتي النظر الأُولَيَيْنِ.
لمحة عن اللاهوت التدبيري
بدأت التدبيريَّة كحركةٍ في أوائل القرن التاسع عشر بين الإخوة الپلِيمَث في إنجلترا،[1] وسُرعان ما انتشرت في بُلْدانٍ أخرى. وقد خضع اللاهوت التدبيري لتنقيحات مختلفة تُوصَف الآن بأنَّها التدبيريَّة الكلاسيكيَّة، والتدبيريَّة التقليديَّة/ المُنَقَّحَة، والتدبيريَّة التَّدَرُّجِيَّة.
تُقَسِّم التدبيريَّة تاريخ الفداء إلى تدابير مختلفة تعكس تنظيم الله لخطته الفدائيَّة. لقد قَسَّمَت التدبيريَّة الكلاسيكيَّة التاريخ إلى سبعة تدابير بينما عَدَّل التدبيريُّون اللاحِقون التدابير وبَسَّطوها. إلَّا أنَّ ما يُمَيِّز جميع أشكال التدبيريَّة هو التمييز بين إسرائيل والكنيسة، والذي يرتبط إلى حَدٍّ كبير بفَهْم التدبيريَّة للعهود الكتابيَّة وعلاقاتها ببعضها البعض. فبالنسبة لكُلِّ التيّارات التدبيريَّة، تُشير إسرائيل إلى شعبٍ عِرقِيٍّ قَوْمِيٍّ (المقصود بِقَوْمِيّ أنَّه شعب أُمَّة/ دَوْلَة إسرائيل)، وأن الكنيسة لا يمكن أن تكون أبدًا إسرائيل المُجَدَّدَة المُستَرَدَّة الأُخرَوِيَّة في خطة الله. فخلاص الأمم لا يُمَثِّل جزءًا من إتمام الوعود التي وَعَدَ الله بها إسرائيل كَأُمَّةٍ وتجد تحقيقها الآن في الكنيسة. وإنَّما وَعَدَ الله أُمَّة إسرائيل -أوَّلًا من خلال العهد الإبراهيمي ثم من خلال تأكيدات الأنبياء– بامتلاك أرض المَوعِد تحت حُكْم المسيح، وهو الأمر الذي لا يزال يتطلَّب إتمامًا مستقبليًّا في عودة المسيح قبل المُلْك الألفي، والاكتمال النهائي.
فالكنيسة إذًا، بحسب الرأي التدبيريّ، جديدة على نحوٍ مُمَيَّزٍ في مقاصد الله، ومختلفة وجوديًّا عن إسرائيل. فعلى الرغم من أنَّ الكنيسة في تدبيرنا الحالي تتألَّف من المؤمنين من اليهود والأمم، فإنَّ الكنيسة تستقبل فقط بركات الروح القدس الروحيَّة التي وعد الله بها إسرائيل. ولكن في المستقبل سيحكم المسيح على أمم مَفْدِيَّة، لا على الكنيسة باعتبارها “شعبًا” آخر. “فالكنيسة” كجماعة عهد في الوقت الحاضر وكحقيقة لاهوتيَّة أبدية، لن تستقبل كل وعود الله بالتساوي وبالكامل في المسيح، أو تستمر في شكلها الحالي. بل سينضم المؤمنون من اليهود والأمم، الذين يُؤَلِّفون الكنيسة الآن، إلى المفديين من أُمَّة إسرائيل والأمم غير اليهوديَّة ليعيشوا تحت حُكْم المسيح بحسب هُوِيَّة كُلٍّ منهما القوميَّة والوعود الخاصَّة بِكُلٍّ منهما. وبهذه الطريقة يحافظ اللاهوت التدبيري على تمييز واضح بين إسرائيل كأُمَّةٍ وبين الكنيسة كشعبٍ يُعطي (في الوقت الحاضر، وبشكلٍ افتتاحي) مثالًا توضيحيًّا لِمَا سيأتي بعد ذلك. غير أنَّ الكنيسة في الوقت الحاضر مُشَكَّلَة كمُجتَمَعٍ مُجَدَّدٍ؛ مِمَّا يعني أنَّ علامة المعموديَّة يجب أن تُطَبَّق فقط على أولئك الذين يعترفون بالإيمان بالمسيح. فالمعموديَّة لا تعني ما عناه الختان لإسرائيل تحت العهد القديم. وبناءً على ذلك، وباستثناءٍ غريب، يُؤكِّد اللاهوت التدبيري على معموديَّة المؤمنين بدلًا من معموديَّة الأطفال.
لمحة عن لاهوت العهد
من الناحية الأخرى، تعود جذور لاهوت العهد إلى عصر الإصلاح وما بعد الإصلاح، ويَنظِم إقرار إيمان وستمنستر (1643-1649)، إلى جانب إقرارات إيمان مُصلَحة أخرى، لاهوت العهد على أفضل ما يكون. يُنَظِّم لاهوت العهد خطة الله في التاريخ من خلال تعامُلات الله العهديَّة مع البشر، وكما هو الحال في اللاهوت التدبيري، لا يُمَثِّل لاهوت العهد وحدة واحدة، ولكن بشكل عام يتحدث لاهوت العهد عن ثلاثة عهود، هي: “عهد الفداء” أو خطة الله الأزليَّة؛ “عهد الأعمال” المقطوع مع آدم نيابةً عن الجنس البشري بِأَسْرِهِ، والذي أدَّى، للأسف، بسبب عصيان آدم إلى الخطيَّة والموت؛ وأخيرًا، “عهد النعمة” المقطوع في المسيح من أجل خلاص شعب الله، والذي يَتَكَشَّف بمرور الوقت من خلال إدارات عهديَّة مختلفة.
بينما يعترف لاهوت العهد بوجود عهود كتابيَّة، فإنَّه يميل إلى إدراج مجموعة العهود من آدم إلى المسيح تحت الفئة العامَّة: عهد النعمة. ومن خلال قيام لاهوت العهد بذلك فإنَّه، بخلاف اللاهوت التدبيري، يُشَدَّد على الاستمراريَّة بين إسرائيل والكنيسة بحيث يكون الاثنان بالطبيعة ذات الشيء جوهريًّا، ولكن يُدَارَان بشكل مختلف. ولهذا السبب يُجادِل لاهوت العهد بوجود استمراريَّة بين إسرائيل والكنيسة بطريقتين على الأقل: (1) يتألَّف كلا الجماعتين من مؤمنين وغير مؤمنين (أي شعب مُختَلَط داخل مُجتَمَع العهد)؛ (2) وعلامة العهد الخاصَّة بكُلٍّ منهما (أي الختان والمعموديَّة) تُشير إلى نَفْس الحقيقة الروحيَّة. وهذا ما يُمَثِّل الأساس المنطقي لتطبيق المعموديَّة على الأطفال في الكنيسة.
العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة وسِماتها المُمَيِّزَة
لا ينتمي الجميع في اللاهوت الإنجيلي إلى المُعَسكَر التدبيري أو المُعَسكَر العهدي، ففي السنوات الأخيرة سعى البعض إلى تقديم موقف وسيط بين وجهتي النظر السائدتين، كما يَتَّضِح في وجهة نظر العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة ولاهوت العهد الجديد.
على الرغم من أنَّه غالبًا ما يتم المُطابَقة بين هاتين النظرتين (العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة ولاهوت العهد الجديد)، فإنَّ هناك ما يكفي من الاختلافات بينهما لجَعْلنا نُفَرِّق بينهما. فعلى سبيل المثال، يُنكِر البعض داخل تيار “لاهوت العهد الجديد” وجود عهد خَلْق (أو عهد مع الخليقة). ويُنكِر البعض الآخر طاعة المسيح الإيجابيَّة؛ والبعض الآخر غير دقيقين في فهمهم لناموس الله الأخلاقي فيما يتعلَّق بالوصايا العشر. في حين أنَّ “العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة” من الناحية الأخرى تُؤَكِّد بِقُوَّةٍ على وجود عهد خَلْق؛ وعلى مُطالَبَة الله آدم (وكل البشريَّة) بالطاعة الكاملة (مِمَّا يستلزم طاعة المسيح الإيجابيَّة لتبريرنا أمام الله)؛ وعلى أنَّ الوصايا العشر هي انعكاس لناموس الله الأخلاقي بالنسبة للمسيحيِّين، وتنطبق علينا الآن في المسيح. إلَّا أنَّ القَاسِم المشترك بين النظرتين هو رؤية كيف أنَّ كُلَّ خطة الله ووعود العهد تتم في المسيح والعهد الجديد. لكن ما يلي هو على نحوٍ أكبر وَصْفٌ للعهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة في ثلاث نقاط مُوجَزَة.
(1) تُكشَف خطة الله الواحِدة من خلال مجموعة من العهود تَبلُغ ذُرْوَتها في المسيح.
على غِرَار لاهوت العهد، ترى “العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة” العهود الكتابيَّة باعتبارها الطريقة المركزيَّة التي بها كَشَفَ الله عن خطته الفدائيَّة عبر التاريخ. غير أنَّها تُجادِل بأنَّ الكتاب المقدس يُقَدِّم مجموعة من العهود تكشف تدريجيًّا خطة الله الفدائيَّة الواحِدة لشعبه الواحِد؛ والتي تَبلُغ إتمامها، وغايتها، ومَحَطَّتها الأخيرة في المسيح والعهد الجديد. يُساهِم كل عهد كتابي في خطة الله المُوَحَّدة، ولمعرفة الخطة بأكملها يجب أن نفهم كل عهد في السياق الخاص به من خلال تحديد موقع هذا العهد بالارتباط بما يسبقه وما يليه قبل أن نستنتج تطبيقه علينا اليوم. ومن خلال تَدَرُّج العهود نَصِل إلى معرفة خطة الله، وكيف تتم كل وعود الله في المسيح وتنطبق على الكنيسة باعتبارها شعب الله للعهد الجديد (عبرانيين 1: 1-3؛ راجِعْ أفسس 1: 9-10)، وكيف يجب علينا أن نعيش كشعب الله اليوم.
(2) العهود أكثر من مُجَرَّد موضوع مُوَحِّد للكتاب المقدَّس، بل إنَّها العمود الفقري لحَبْكَة الكتاب المقدَّس الفدائيَّة، وتبدأ هذه العهود في الخَلْق وتَبلُغ إتمامها في المسيح.
تُجادِل العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة بأنَّ العهود أكثر من مُجَرَّد موضوع مُوَحِّد للكتاب المقدَّس، وإنَّما هي كاشِفَة لخطة الله، ونبويَّة في تَطَلُّعها إلى المسيح، ومُهِمَّة لاهوتيًّا لأنَّها تقوم بوظيفة العمود الفقري لحَبْكَة الكتاب المقدَّس. غير أنَّ العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة، بخلاف معظم المُدافِعين عن لاهوت العهد، لا تُقَسِّم العهود الكتابيَّة إلى مُجَرَّد فئتين: “عهد الأعمال” (الناموس) و”عهد النعمة” (الإنجيل). على الرغم من أنَّ الحفاظ على حقيقة “الناموس” و”الإنجيل” كمفهومَيْن لاهوتِيَّيْن هو أمرٌ حيويٌّ. وكذلك لا تُصَنِّف العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة العهود على أنَّها إمَّا عهود غير مشروطة/أُحادِيَّة (هِبَة مَلَكِيَّة)، أو عهود مشروطة/ثُنائِيَّة (معاهدات بين الملك الأعظم والخادم أو التابِع). كما يميل كُلٌّ من لاهوت العهد واللاهوت التدبيري إلى فِعْل ذلك.
لماذا؟ للسبب الآتي: يحتوي كل عهد على كلا العنصرين، ولكن مع تمييز واضح بين العهد في الخليقة قبل السقوط وبعده، ومع تمييز أنَّ الفداء مبنيٌّ على المسيح وحده. في الواقِع، إنَّه بسبب هذا المزيج من كلا العنصرين ينشأ تَوَتُّرٌ مُتَعَمَّدٌ في حَبْكَة الكتاب المقدس العهديَّة الآخِذة في التَّكَشُّف -تَوَتُّرٌ تزداد حِدَّته مع تَكَشُّف خطة الله- ولا يجد هذا التَّوَتُّر حَلَّه إلَّا في حياة المسيح وموته الطائِعَيْن الكامِلَيْن لأجلنا.
فمن ناحية، تكشف العهود عن إلهنا الثالوث الخالِق وربِّ العهد الذي يقطع وعوده ويحفظها، فعندما يبدأ الله علاقات عهديَّة مع مخلوقاته يكون هو دائمًا الطرف الأمين (عبرانيين 6: 17-18). وبِغَضِّ النظر عن عدم أمانتنا، فإنَّ وعود الله التي تبدأ في تكوين 3: 15 هي أكيدة، إلَّا أنَّ الله يُطالِبنا بالطاعة الكاملة؛ مِمَّا يُفَسِّر الجانب الثُّنائي للعهود. غير أنَّه مع تَدَرُّج العهود يتصاعد التَّوَتُّر بين أمانة الله لوعوده وعدم طاعتنا. فالطاعة ليست خِيارًا مطروحًا بالنسبة لنا، والله قدوسٌ وعادِلٌ. هو المعيار الأخلاقي للكون؛ لكنَّنا أخطأنا إليه. وفي ضوء تكوين 3: 15 فإنَّ وعود الله مرتبطة بتدبير ابنٍ مُطيعٍ سَيُبطِل مفعول خِيار آدم الكارثي. ولكن أين هذا الابن الذي يُطيع بالكامل ويُلَبِّي بالتمام مَطلَب الله الأخلاقي؟ كيف يمكن أن يبقى الله في علاقةٍ معنا ما لم تُمحَ خطيتنا؟ إنَّه من خلال العهود يزداد هذا التَّوَتُّر، وكذلك من خلال العهود يُعطَى الجواب: الله نفسه -إلهنا الذي يقطع العهد ويحفظه- سيعمل على نحوٍ أُحادِيٍّ ليحفظ وعده من خلال تدبير شريك عهدٍ مُطيعٍ، ألا وهو المسيح.
وهكذا فمن خلال مجموعة العهود المترابطة فيما بينها، والتي تبدأ مع آدم والخليقة وتَبلُغ ذُرْوَتها في المسيح والعهد الجديد، تُكشَف خطة الله الواحِدة الأزليَّة في الزمن. في الواقِع، يُعَدُّ البدء بعهد خَلْقٍ أمرًا مِحوَرِيًّا لسببين:
أوَّلًا- يُمَثِّل عهد الخلق أساسًا لجميع العهود المستقبليَّة؛ إذ إنَّ جميع العهود اللاحِقة تشرح دور آدم في العالم، فآدم -وكل البشريَّة- مخلوق كابن الله الذي هو صورته، مَلِكٍ كاهِنٍ ليتسلَّط على الخليقة (تكوين 1: 26-28؛ راجِعْ مزمور 8). فهو مخلوق في علاقةٍ مع الله ليكون الوسيط الذي ينقل حُكْم الله وتَسَلُّطه إلى العالم. إلَّا أنَّ الله يُطالِب شريكه في العهد بالطاعة الكاملة، وهو الأمر الذي، للأسف، يفشل آدم في القيام به (تكوين 2: 16-17؛ راجِعْ تكوين 3). ولكنَّ الله في نعمته يَعِد بأنَّ “نسلًا من المرأة” سيأتي (تكوين 3: 15). آدم أعظم، والذي سيُبطِل آثار الخطيَّة والموت. في الحقيقة، ستعمل جميع الرؤوس العهديَّة اللاحِقة كمجموعات فرعيَّة من آدم، والتي، بِحَسَب خطة الله، لن تكون آدم الأعظم، وإنَّما ستُشير مُقَدَّمًا إلى المسيح. إنَّ دور آدم كالرأس المُمَثِّل للخليقة يُعَرِّف ما يأتي بعده، أي عمل المسيح بأكمله (عبرانيين 2: 5-18).
ثانيًا- يُمَثِّل عهد الخلق أساسًا لإرساء نماذج تمثيليَّة (تيبولوجيّة) مختلفة تَبلُغ غايتها أخيرًا في المسيح والعهد الجديد (على سبيل المثال: راحة اليوم السابع [تكوين 2: 1-3؛ خروج 20: 8-11] وراحة الخلاص في المسيح [عبرانيين 3: 7-4: 13]؛ جَنَّة عَدْن كَمَقدِس [حَرَم] أو هَيْكَلٍ، والتي تُتَمَّم في المسيح كالهيكل الجديد؛ الزواج، والذي يُشير إلى حقيقة أعظم، أي علاقة المسيح بشعبه [تكوين 2: 24-25؛ أفسس 5: 32]). سَتَبلُغ جميع هذه النماذج أُخرَوِيًّا مَحَطَّتها الأخيرة في المسيح وشعب الله للعهد الجديد، أي الكنيسة.
وعلى هذا النحو يضع عهد الخلق الأساس الذي يستمر في جميع العهود. وهو، إلى جانب جميع العهود، يتم في المسيح. فبينما تُمَثَّل خطة الله الأزليَّة على مسرح التاريخ البشري، تتحرَّك من الخلق في آدم إلى الاكتمال النهائي في المسيح.
غير أنَّه في العهد الجديد تتم جميع العهود السابِقة. فحيث إنَّ جميع العهود هي جزء من خطة الله الواحِدة، ما مِنْ عهد غير مرتبط بما سَبَقَه؛ وما مِنْ عهد يبدو مفهومًا بِمَعزِلٍ عن إتمامه في المسيح. لا شَكَّ أنَّ الإتمام الذي يحمله العهد الجديد يصفه اللاهوتيون بمصطلح “الآن، ولكن ليس بعد”. إلَّا أنَّ ما كَشَفَتْه العهود السابقة وتَطَلَّعَتْ إليه وتَنَبَّأتْ به هو “الآن” هنا. فهذا هو السبب في أنَّ يسوع هو آدم الأخير ورأس الخليقة الجديدة (رومية 5: 12-21؛ 1كورنثوس 15: 21-22؛ عبرانيين 2: 5-18)؛ وهو نسل إبراهيم الحقيقي الذي يجلب البركات للأمم (غلاطية 3: 16)؛ وهو إسرائيل الحقيقي المُتَمِّم كُلَّ ما فشلت إسرائيل في أن تكونه (متَّى 2: 15؛ يوحنا 15: 1-6)؛ وهو ابن داود الأعظم الذي يَحكُم الأمم والخليقة كلها كَرَبٍّ (أعمال الرسل 2: 32-36؛ رومية 1: 3-4؛ راجِعْ مزمور 2، 45، 110).
ولكنَّ إتمام العهود السابقة لا يعني أنَّ هذه العهود لا قيمة لها بالنسبة لنا اليوم، فالعهود السابقة هي للأبد جزء من الكتاب المقدَّس الذي هو لتعليمنا ونُمُوِّنا (2تيموثاوس 3: 16-17). إلَّا أنَّ الآن، وبعد أن جاء المسيح، لم يَعُد المسيحيُّون تحت العهود السابقة كعهود (باستثناء العهد مع نوح الذي يستمر حتَّى الاكتمال النهائي). بصفتنا الكنيسة، نحن نُطيع كل الكتاب المقدَّس، بما في ذلك الوصايا العشر، ولكن الآن في ضوء إتمامه في المسيح والعهد الجديد (1كورنثوس 9: 19-21).
(3) العلاقة بين إسرائيل والمسيح والكنيسة عَبْر تاريخ الفداء.
فيما يتعلَّق بالعلاقة بين إسرائيل والكنيسة تُشَدِّد العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة على نقطتين: أوَّلًا- لدى الله شعبٌ واحِدٌ، ولكن هناك تمييز بين إسرائيل والكنيسة بسبب العهد الخاص بكُلٍّ منهما. فالكنيسة جديدة من ناحية تاريخ الفداء، إذ إنَّها مُجتَمَع العهد الجديد. ثانيًا- يجب أن نُفَكِّر في العلاقة بين إسرائيل والكنيسة كريستولوچِيًّا (أي من خلال المسيح). فالكنيسة ليست بِطَرِيقٍ مُباشِرٍ “إسرائيل الجديدة” أو بديل لها. وإنَّما، في المسيح يسوع، الكنيسة هي خليقة الله الجديدة وتتألَّف من المؤمنين من اليهود والأمم. لأنَّ يسوع هو آدم الأخير وإسرائيل الحقيقي، نَسْل إبراهيم الأمين الذي يَرِث الوعود بِعَمَلِهِ (غلاطية 3: 16؛ أفسس 2: 11-22). وهكذا فالكنيسة، بالاتِّحاد بالمسيح، هي شعب الله للعهد الجديد في استمراريَّة مع المختارين من كل العصور، ولكنَّها مختلفة عن إسرائيل في طبيعتها وبِنْيَتها. الآن، في المسيح، يقف المؤمنون من كلٍّ من اليهود العرقيِّين والأمم معًا بالتساوي، ويَرِثان كُلِّ وعود الله في المسيح (غلاطية 3: 26-4: 7). وعلاوةً على ذلك، فإنَّ العلاقة بين المسيح وشعبه غير قابِلة للفصل؛ ولذا تستقبل الكنيسة كل وعود الله في المسيح.
تختلف هذه النظرة عن العلاقة بين إسرائيل والمسيح والكنيسة عن اللاهوت التدبيري ولاهوت العهد في مِنطَقَتَيْن على الأقل: أوَّلًا- بِخِلاف التدبيريَّة، يسوع هو الإتمام لإسرائيل وآدم. وفيه كل وعود الله تتم لأجل شعبه، الكنيسة، المُكَوَّنة من المؤمنين المُجَدَّدين من اليهود والأمم. بالإضافة إلى ذلك، يجد وعد الأرض أيضًا إتمامه واكتماله النهائي في المسيح باعتباره الشخص الذي يربح الخليقة الجديدة بِعَمَلِهِ، والذي عندما يأتي ثانيةً سيُعلِن عن بدء الخليقة الجديدة (رومية 4: 13؛ أفسس 6: 3؛ عبرانيين 11: 10، 16؛ راجِعْ متَّى 5: 5؛ رؤيا 21-22). ففي المسيح باعتباره آدم الأخير وإسرائيل الحقيقي، يكون هو الإنسان الأول في الخليقة الجديدة، وبعَمَلِهِ يربح الخليقة الجديدة من خلال إخضاع كل شيء تحت قَدَمَيْه بِغَلَبَةٍ وانتصارٍ في صليبه وفي قيامته المجيدة (عبرانيين 2: 5-18). وعلى هذا تُرَى الأرض كمثال أو نموذج تيبولوجيّ لا ينظر فقط خلفه إلى جَنَّة عَدْن والخليقة، بل ينظر أيضًا أمامه إلى المسيح والخليقة الجديدة.
ثانيًا- بِخِلاف لاهوت العهد، شعب الرب يسوع للعهد الجديد مختلف عن إسرائيل العهد القديم؛ حيث كانت إسرائيل تحت العهد القديم في طبيعتها وبِنْيَتها مُجتَمَعًا مُختَلَطًا من المؤمنين وغير المؤمنين (رومية 9: 6). أمَّا الكنيسة فتَتَشَكَّل من أُناسٍ مُتَّحِدين بالمسيح بالإيمان وشركاء في العهد الجديد؛ مِمَّا يَتَضَمَّن على أقل تقدير مغفرة الخطايا، وعطية الروح القدس، وختان القلب. وهكذا، وبِخِلاف إسرائيل، فإنَّ الكنيسة مُشَكَّلَة ومُؤَسَّسَة كشعبٍ مؤمنٍ مُجَدَّدٍ على الرغم من أنَّنا ننتظر اكتمال ما افتتحه المسيح عند عودته المجيدة. لهذا السبب تُطَبَّق المُعموديَّة، علامة العهد الجديد، فقط على أولئك الذين يعترفون بالإيمان ويُظهِرون بالدليل المُقنِع أنَّهم لم يعودوا في آدم، بل في المسيح، ولهذا السبب أيضًا لا يُشير الختان والمعموديَّة إلى نفس الحقائق؛ بسبب اختلاف العهد الخاص بكُلٍّ منهما. في الواقع، إنَّ الاعتقاد بأنَّ الختان والمعموديَّة يُشيران إلى نفس الحقيقة يُعَدُّ خَطَأً في تحديد فِئَة العهد.
هذه هي العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة بشكلٍ مُوجَزٍ. فيما يتعلَّق بقضايا الإنجيل. على الرغم من وجود اتِّفاق أكثر من عَدَمِهِ مع اللاهوت التدبيري ولاهوت العهد، تُجادِل العهدِيَّة التَّدَرُّجِيَّة بأنَّ مركز كل خطط الله ومقاصده هو المسيح يسوع، ففيه كل مَوَاعِيد اللهِ هي “نَعَمْ وَآمِين” (2كورنثوس 1: 20). وبالنعمة نحن، الكنيسة، المستفيدون من عَمَلِهِ الانتصاري المجيد الآن وإلى الأبد.
[1] نسبةً إلى مدينة پلِيمَث في إنجلترا.