اللاهوت بَعد الحداثيِّ

التعريف

يدلُّ اللاهوت بَعد الحداثيِّ على مَنحى الفكر المسيحيِّ المعاصر المُوَلِّي للافتراضات والمنهجيَّات النقديَّة النظريَّة بَعد الحداثيَّة لتبيين منظورات لاهوتيَّة مختلفة ضمن أُطر اللاهوتيَّات القويمة والأخرى المتحرِّرة.

المُوجَز

لقد سقطت الثقافة الغربيَّة في براثِن حركات وأهواء بَعد حداثيَّة منذ ستينيَّات القرن العشرين. واليوم، يؤثِّرون في مناحٍ شتَّى بين الرياضيَّات والأدب. في مقالتنا هذه نتقصَّى تأثير المذهب بَعد الحداثيِّ في الحقل اللاهوتيِّ من ثلاثة مناحٍ. المنحى الأوَّل، يتضمَّن نظرة عامَّة واسعة لبَعد الحداثيَّة الفلسفيَّة واللاهوتيَّة؛ والمنحى الثاني، يستكشف بعض الخواصِّ الشائعة للاَّهوت بَعد الحداثيِّ إزاء خمس عقائد كتابيَّة وهي الكتاب المقدَّس والله والبشر والمسيح والكنيسة؛ والمنحى الثالث، يعرض مفهومًا موجزًا لكن دقيقًا عن اللاهوت بَعد الحداثيِّ.


نظرة عامَّة لبَعد الحداثية الفلسفيَّة واللاهوتيَّة

عَرَّفَ وأذاع چان فرَنسوا لوتار (1924-1998) مذهب ما بعد الحداثة بأنَّه “شكوكيَّة في السرديَّات الأصليَّة”. وأكمَلَ لوتار بأنَّ ما بَعد الحداثيَّة تُقبِع شكوكيَّة دائمة في كلِّ السرديَّات الكُبرى (السرديَّات الأولى الأصليَّة الشارحة لكلِّ شيء آخر). وعليه، تُمثِّل ما بَعد الحداثيَّة ردَّ فعلٍ ناقِدًا للحداثة وافتراضاتها التنويريَّة مثل استقلاليَّة العقل البشريِّ وكفايته، ويقينيَّة المعرفة وموضوعيَّتها، وكذلك أَوَّلِيَّة العلم. والأنكى خصِّيصًا أنَّ ما بَعد الحداثيَّة تتنصَّل من حداثيَّة الركون إلى اليقين والوحدة والقصَّة الأصليَّة والحقيقة؛ وعوضًا عن ذلك تُبَجِّل الشكوكيَّة والغموض والتعدُّديَّة السرديَّة والحقيقيَّة.

قد بزغ الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة تدريجيًّا بإسهامات مصادر عِدَّة. فقد تتبَّع بِست (Best) وكِلنِر (Kellner) مُسببات “التحوُّل إلى ما بعد الحداثة” إلى الاضطرابات الثقافيَّة الفُجائيَّة في فرنسا ستينيَّات القرن العشرين. وعوامل أخرى، على شاكلة تحقيقات هيدِجر في الظواهر فوق الطبيعيَّة، ودراسات ڤِتنكِستِن في اللغويَّات، روَّجت لظهور مذهب ما بعد الحداثة. مع ذلك، فقد خَصَّ الباحثون الفيلسوف الوجوديَّ فريدرِك نِيتشه (1844-1900) بأنَّه “أبو” مذهب ما بعد الحداثة. إذ كان المُعارِضَ الأشدَّ للحداثة وأنَّه من ادَّعى، على سبيل المثال، بأنَّ اللغة لا تنقل الحقيقة الكاملة مُعلنًا: إنَّ “ما من حقائق، إنَّما مجرَّد تفسيرات”.

وعاد تفسير نيتشه للشكِّ إلى الظهور في الأعمال اللاحقة للمنظِّرين الفرنسيِّين الروَّاد أمثال ميشِل فوكو (1926-1984) وچاك دِريدا (1930-2004). هاجم فوكو الاعتقاد التنويريَّ بالمعرفة الموضوعيَّة مُحاججًا بأنَّ كيانات المعرفة ليست بِنيات مستقلَّة، إنَّما مرتبطة بنظام سيطرة اجتماعيَّة. وعليه، إنَّ إماطة اللثام عن القوَّة القابعة خلف النصوص -بدلاً من طلب الحقيقة الموضوعيَّة- تمثِّل سيادة التفسير. وفي هذا المنحى، حاول دِريدا (أبو مذهب التفكيكيَّة) إحلال المركزيَّة اللغويَّة (الافتراضات فوق الطبيعيَّة الكامنة في النصوص). فأسقط من الاعتبار مفهوم أنَّ الكلمات تنقل معنى، وسَكَّ مُصطَلَح (differance) ليوضِّح أنَّ الكلمات تنطوي على الإرجاء والخلاف والإخلاف بعضهم بين بعض. بإيجاز، رفض دِريدا الاعتقاد بالحقيقة التأسيسيَّة وإمكانيَّة التفسير الموضوعيِّ، وإيجاد معنى في الحوار بين المُفَسِّر والنصِّ.

وعن تفكيكيَّة دِريدا، فهي تؤثِّر في كثيرٍ من السياقات، بما في ذلك السياق اللاهوتيُّ. فكان من أوائل المفكِّرين لاستنباط “وسائل جاذبة” في مذهب ما بعد الحداثة لتوظيفها في المهام اللاهوتيَّة هم لاهوتيُّو “موت الإله”. فقد نشر كارل راشكه كتابه “كيمياء الكلمة” (The Alchemy of the Word)، ونشر توماس آلتيِزِر وآخرون كتاب “التفكيك واللاهوت” (Deconstruction and Theology) في سبعينيَّات وثمانينيَّات القرن العشرين. لكنَّ كتاب مارك تايلُر -بعنوان “إخفاق: اللاهوت البَعد الحداثيّ” (Erring: A Postmodern A/Theology)- أوَّل ما أشار صراحةً إلى اللاهوت بَعد الحداثيِّ في عنوانه. واليوم، لاهوتيُّون كثيرون يعتنقون ما بعد الحداثيَّة اللاهوتيَّة. فليس كلُّهم، بالتأكيد، لاهوتيِّين تفكيكيِّين. فقد عَدَّدَ ديڤيد راي كرِڤِن خمسة أنماط للاَّهوت بَعد الحداثيِّ وهم التفكيكيُّ (أو الإقصائيُّ)، والبنائيُّ (أو الرؤيويُّ)، والتحرُّريُّ، والمُحافِظ (أو الاسترداديُّ). كما يسرد كيڤِن ڤَنهوزَر سبعة أنماط وهم ما بَعد الحداثية الأنكلو-أمريكيَّة، ولاهوت ما بعد التحرُّريَّة، ولاهوت ما بعد فوق الطبيعيَّة، واللاهوت التفكيكيُّ، واللاهوت البنائيُّ، واللاهوت النسويُّ، والأرثوذكسيَّة الأصوليَّة.

إنَّ اللاهوتيِّين بَعد الحداثيِّين (أمثال لاهوتيِّي “موت الإله” في الماضي) لا يدفعون كلِّيًّا بقناعات جدِّيَّة إنَّما عادةً ما يُلبسون أفكارًا تحرُّريَّة غابرة حُللاً جديدة. فتأمَّل اللاهوتيِّين التفكيكيِّين على سبيل المثال، نقلهم لأفكار دقيقة متناسخة من التي لأفكار لاهوت صيرورة ألفريد نورث وايتهِد. وبالمثل، لاهوتيُّو النسويَّة بَعد الحداثيَّة يُعَدُّون ورثة الحركة النسويَّة للجيل السابق. حتَّى إنَّ كلِّيَّة كامبريدچ المُحافِظة الأصوليَّة ذائعة الصيت والإبداع -التابعة لچون مِلبَنك (مع جراهام وارد، وجرارد لوكلين، وكاثرين بيكستوك)- تحتلُّ موضعًا داخل الضِمام اللاهوتيِّ للاَّهوت الآبائيِّ.

إنَّ المساقات اللاهوتيَّة بعد الحداثيَّة المذكورة أعلاه تفترض عدم التجانس فيما بينهم، إنَّما هيئات مختلفة -بل حتَّى متصارعة- كلِّيًّا. فلماذا إذًا لاهوت بَعد حداثيٍّ وليس لاهوتيَّات بَعد حداثيَّة؟ إنَّ المُصطَلح الأوَّل “لاهوت ما بَعد حداثيٍّ” يعني ضمنيًّا أنَّ وجهات النظر المغايرة ظاهريًّا تتشارك في تشابه وراثيٍّ وهو مقاومة اللاهوت الحداثيِّ (Modern theology) ومبحثه عن اليقين. لكنَّ هذه المقالة لن تستطيع تقديم شرح وافٍ للاَّهوت بَعد الحداثيِّ؛ لكنَّها في المقابل تركِّز على بعض خواصِّه الشائعة إزاء العقائد الكتابيَّة الخمس التي ذكرناها في المقدِّمة وهي الكتاب المقدَّس، والله، والبشر، والمسيح، والكنيسة.

بعض خواصِّ اللاهوت بَعد الحداثيِّ حيال

عقيدة الكتاب المقدَّس

أوَّلاً، إنَّ المذهب الإنجيليَّ يؤكِّد بكلِّ يقين أنَّ الكتاب المقدَّس هو كلمة الله الموحى بها المعصومة وذات السُلطان. لكن، بَعد الحداثيَّة اللاهوتيَّة تُفشي شكوكيَّة دقيقة حيال وحي الكتاب المقدَّس ومقتضياته. والأنكى أنَّ اللاهوتيِّين بَعد الحداثيِّين يزعمون بأنَّ المفسِّرين المتأقلمين ثقافيًّا والمثقَّلين بالافتراضات المُسبَّقة والتحيُّزات لا يقدرون تفسير النصوص بموضوعيَّة. وبما أنَّ كلَّ نصٍّ ينطوي على طبقات من المعنى من دون حقيقة واحدة، فهم، أي المفسِّرون، ينوِّهون بأنَّ العمل التفسيريَّ يتطلَّب اتِّضاعًا معرفيًّا. بالإضافة إلى مطالبتهم الاستشاريَّة للقرَّاء بالبحث عن التبصُّرات الروحيَّة من النصِّ، وليس عن الحقِّ الموضوعيِّ. ومن أجل تحقيق المنفعة من السرديَّات الكتابيَّة (يفترض بعضهم أنَّ كلَّ ما هو خارج السرديَّات مجرَّد طنين)، يقترح اللاهوتيُّون بَعد الحداثيِّين تنحية وسائل النقد التاريخيِّ المهترئة للحداثة، واستبدالهم، بثناء منهم، بقراءة الكتاب المقدَّس بعدسات جديدة متعدِّدة الأبعاد. ممَّا ينطوي على انخراط في سجالات لا تنضب حيال المادَّة الكتابيَّة، وتطبيق التفسير الشكوكيِّ لتفكيك بِنيات السُلطة الكامنة داخل النصوص، والإنصات إلى “أصوات المهمَّشين” أمثال الأصوات النسويَّة وبعد الاستعماريَّة والتحليليَّة النفسيَّة، إلخ.

العقيدة عن الله

ثانيًا، يُخضِع اللاهوت بَعد الحداثيِّ عقيدة الله لإعادة تفسير شاملة. فاللاهوتيُّ التفكيكيُّ چان لوك ماريون، ينفي لاهوت الوجود (الأنطولوچيا) في حين، متناقضًا، يفترض وجود الله. فهو يحطُّ من لاهوت الوجود لأنَّه يؤمن بأنَّ لغة الوجود تحدُّ الله. ونتيجة ذلك، يُصَنِّف الله غير المحدود وغير المرئيِّ وغير المتغيِّر -الإله التقليديُّ- معبودًا إدراكيًّا. فكيف إذًا ينبغي للمرء إدراك الله؟ يدركه بأنَّه محبَّة وعطيَّة غنيَّة فيَّاضة. لكن مع ذلك يُقَيِّد ماريون ذلك قائلاً بأنَّه على الرغم من أنَّ الله يهب نفسه بحرِّيَّة منه ومجَّانًا لنا، فالبشر ليس بمقدورهم التحكُّم في الهبة. يتَّفق چون كابوتو مع ضِدِّيَّة ماريون للإدراك فوق الطبيعيِّ لله، كما يتبنَّى لغة المبالغة لإيمانويل لِڤينا في وصف الله. فهو يُطلق مصطلح “مستحيل” على الله ويوجز قائلاً بأنَّه في حين أنَّ الأفراد قد يختبرون الله، لكنَّهم ليس بمقدورهم معرفته: “فنحن لا نعرف ما نؤمن به أو إلى من نُصلِّي”.

ومن جانب آخر، يتَّسم اللاهوتيُّون الأقلُّ أصوليَّة بالتفاعل اليَقِظ الحَذِر حيال لاهوت الوجود، لكن يبدون أكثر ثباتًا ويقينًا في المناقشات حيال طبيعة الله العلائقيَّة. إذ يصفون العلاقة الثالوثيَّة بالثالوث الاجتماعيِّ (تماثُل غير تراتبيٍّ ومتساوٍ وتبادليٌّ). كما أنَّهم، هؤلاء المفكِّرون، يقلِّلون من السموِّ الإلهيِّ، في حين يشدِّدون على الحلول الإلهيِّ. فبالنسبة إليهم، الله الضعيف العُرضَة لأيِّ شيء كائن في علاقة مواكلة ونشطة ووحدانيَّة الوجود مع الخليقة.

عقيدة الهُويَّة البشريَّة

ثالثًا، تُظهِر بَعد الحداثيَّة اللاهوتيَّة اهتمامًا شديدًا بالهويَّة البشريَّة. فهي تُنكِر الذات الديكارتيَّة المستقرَّة المركزيَّة الثابتة، مفسِّرة إيَّاها بأنَّها بنية اجتماعيَّة داخل شبكة علائقيَّة. فهي تُعَبِّر عن الذات العلائقيَّة بالذات السرديَّة أو النصِّ الحيِّ مرتدية ظاهريًّا هويَّتها النحويَّة واللغويَّة الخاصَّة. وإنَّ المنظور القائل بأنَّ الذات تكمن بالأساس في علاقات اجتماعيَّة يقتلع على ما يبدو الهويَّة البشريَّة من علاقتها العهديَّة الأساسيَّة مع الله. لكن ليس كلُّ اللاهوتيِّين بَعد الحداثيِّين يفصلون البشر عن الخالق. فنجد ستانلي كرِنز، على سبيل المثال، يُقَدِّر حقًّا خلقة الرجل والمرأة على صورة الله (إيماكو دي) -المفهوم الذي لا يزال يعكِّر صفو مفسِّري الكتاب المقدَّس بَعد الحداثيِّين. لكن كرِنز يصيغ صورة الله هذه (وإن لم تكن حصريَّة) في عبارة عامَّة مُعَلِّقَّا: “صورة الله ليست مُطَبَّقة على الفرد في حدِّ ذاته، إنَّما على علائقيَّة الأشخاص في الجماعة”. في المُجمَل، نجد أنَّ اللاهوت بَعد الحداثيِّ يموضع الهويَّة البشريَّة في علاقات اجتماعيَّة، وهذا الواقع يُرسي الفرائض الأخلاقيَّة تجاه الآخر “المُهَمَّش”.

عقيدة المسيح

رابعًا، يبرز إسهام اللاهوت بَعد الحداثيِّ في المناقشات المستمرَّة حيال شخص المسيح وعمله. للتوضيح، فيما يتعلَّق بالرغبة والهبة والاعتراف، يبرز جان أُلاف هِندرِكسِن التغيير النحويَّ الذي يتبنَّاه اللاهوتيُّون حاليًّا لوصف المسيح. فيعتمد هِندرِكسِن مجازات بارزة دوَّنها كُتَّاب بَعد حداثيِّين (لا سيَّما إيمانويل لِڤينا وچان لوك ماريون) لتقديم مسيحٍ جديدٍ. والأكثر أهمِّيَّة هو أنَّ هؤلاء اللاهوتيِّين فهموا ألوهيَّة المسيح إنَّها رمزيَّة وليست جوهريَّة. فهذه النظرة إلى شخص المسيح هي بكلِّ وضوح نظرة دونيَّة وليست سماويَّة. وعليه، فإنَّ العقيدة الخلقِدونيَّة لطبيعتي الربِّ يسوع (إله كامل وإنسان كامل متَّحدان في شخص واحد) لا صلة لها بيسوع بَعد الحداثيِّ الذي يُظهِر بجلاء ضعف الإله.

لكن يتعاظم تأثير بَعد الحداثيَّة اللاهوتيَّة كثيرًا في عقيدة الكفَّارة. إذ يفصح عدد من الباحثين عن مقتِهم من المنظور التاريخيِّ السائد للبدليَّة العقابيَّة. نجد أنَّ جويل جرين ومارك بيكِر في كتابهما “ردُّ عار الصليب” (Recovering the Scandal of the Cross) يجادلان من أجل منظورات أخرى صالحة للكفَّارة. إذ إنَّ المأخذ الرئيس في البدليَّة العقابيَّة يكمن في إنَّها تربط الله، على نحو غير مقبول، بالعنف. ولاحقًا ما لبث هؤلاء الباحثون إلى تسمية عمل الله على الصليب بالعمل غير العنيف. وهذا من ابتداع رينيه جِرارد الذي سَوَّق لفكرة الموت القربانيِّ للربِّ يسوع بأنَّها خطأ في قراءة الأناجيل. فيقول: إنَّ المسيح لم يَسترض غضب الله؛ إذ قد مات موتًا ليس بالقربانيِّ، “موت مُدار نحو اللاعُنف، لا يمكن تصوُّر أيِّ طريقة فاعلة أخرى”. يتَّفق جِرارد على الكفَّارة غير العنيفة مع دِني ويفر الرافض للبدليَّة العقابيَّة على أساس أنَّها تتَّهم الله بالإساءة الأبويَّة لابنه. فيقترح ويفر أنَّ نظريَّة “المسيح المنتصر” هي أفضل شرح لموت المسيح. في النهاية، تسقط نظريَّات الصليب بَعد الحداثيَّة في فئتين رئيسيَّتين: المسيح المنتصر أو منظور التأثير الأخلاقيِّ. إنَّ نظريتي الكفَّارة هاتين مقبولتان على نحو كبير في السياق بَعد الحداثيِّ لأنهما يتحاشان كلَّ أطياف الشرور المُتَخَيَّلة -من خزي الخصوصيَّة (سبب يسوع تحديدًا وليس أيّ شخص آخر) إلى الترابطات السببيَّة غير المنطقيَّة (الفجوة المنطقيَّة (الجسور غير المنطقيَّة) بين حقائق التاريخ العارضة وحقائق المنطق المُلِحَّة).

عقيدة الكنيسة

خامسًا، مُنقادون بقوَّة بالاهتمام بتسييق الرسالة المسيحيَّة، يدعو اللاهوتيُّون بَعد الحداثيِّين الكنيسةَ إلى إعادة تقويم إيمانيَّاتها وممارساتها. فمن جانب، يحثُّون نحو تحوُّل من الثبات الحداثيِّ بالحقائق الافتراضيَّة؛ ومن جانب آخر، ينصحون الكنيسة بتولية المظاهر الشعبويَّة والعمليَّة والمسكونيَّة للإيمان المسيحيِّ الأولويَّة. وبحسب ذلك، يشدِّد هؤلاء اللاهوتيُّون على الطبيعة المحلِّيَّة الملموسة للكنيسة في مقابل سِمَتيها العالميَّة وغير المنظورة. وآخرون يشدِّدون على أنَّ حياة الإيمان تُظهِر نفسها في “الاختبار المُعاش”. تصيغ كَثلين نورِس الارتقاء الحاليَّ بالاختبار الشخصيِّ للمؤمن أعلى الحقِّ قائلة: “نحن نذهب إلى الكنيسة لكي نرنِّم، من ثمَّ يأتي اللاهوت (الله)”. ويدفع كرِنز بدوره إلى الانتقال من الحقِّ الافتراضيِّ إلى الممارسة العمليّة. فالحياة الاختباريَّة التي يرتئيها اللاهوتيُّون بَعد الحداثيِّين يسفر عنها ثلاثة موضوعات: “قبول بالغموض، وتشديد على الرحلة الشخصيَّة، وتشديد على النقاش والحوار”. كما تنطوي على تعبيرات دينيَّة مختلفة، أبرزها السيرَّانيَّة الكاثوليكيَّة لمِلبَنك (الإفخارستيا والاستحالة). والأنكى أنَّ هؤلاء اللاهوتيِّين يتحاججون بأنَّ ميل الكنيسة للتقهقر نحو طوائف مذهبيَّة خانقة يعيق أعمالها اللاهوتيَّة. وعليه، من دون حلّ كلِّ الفروقات -في النهاية، تظلُّ الكنيسة جماعة “البحث عن الحقِّ”- ينبغي للمؤمنين السلوك “بإيمان قويم سخيٍّ” يعمل على تخطِّي القطبيَّة بين التحرُّريِّين والمحافظين. إنَّ الكنيسة الناشئة والتي في طور النشوء بتشديدها على المشاركة والاختبار واللاطائفيَّة والانتقائيَّة، تُظهِر اليوم وجه الكنيسة بَعد الحداثيَّة.

ختام

وأخيرًا، يطبِّق اللاهوت بَعد الحداثيِّ التفسير الشكوكيَّ على الكتاب المقدَّس ودائمًا ما يُعارِض وحيه وتماسكه واتِّساقه، ويدفع بالله غير المعروف، ويتنصَّل من فرادة شخص الربِّ يسوع وعمله، ويفترض أنَّ نهضة الكنيسة تعتمد على قدرتها على تسييق العقيدة والواقع التاريخيِّ المسيحيَّين. إنَّ هذه النُهُج تجاه عقائد مسيحيَّة أساسيَّة تُرضي مناصري مذهب ما بعد الحداثة، لكنَّها تتعارض مع رسالة الكتاب المقدَّس وتُخِلُّ بالخبر السارِّ الذي للربِّ يسوع المسيح ليصل إلى اللاخبر على الإطلاق. وعلى النقيض التامِّ، يعترف الإنجيليُّون الكتابيُّون بكلٍّ من استحالة معرفة الله كلِّيًّا، وإمكانيَّة معرفة حقيقته من خلال الكلمة (المبدأ الأساسيُّ في اللاهوت)، وذروتها في المسيح المتجسِّد المصلوب القائم من الموت. فهو، بحسب الكتاب المقدَّس، “هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ” (يوحنَّا 14: 6)، وبعيدًا عنه ليس لنا مخلِّص (راجع أعمال الرسل 4: 12). فضلاً عن أنَّ الكنيسة (الساحة الفُضلى للروح القدس) يعود أصلها ونشأتها ووجودها إلى قوَّة الروح القدس. وعن اللاهوتيِّين بَعد الحداثيِّين سيعترضون على أن تكون خطَّة الخلاص هذه السرديَّة الأعظم. لكنَّ اللاهوت التفكيكيَّ بَعد الحداثيِّ نفسه وادِّعاءات الشموليَّة يقرُّون بوجود سرديَّة أولى أصليَّة مجهولة إلى الآن. لذا، فالاختلاف بين السرديَّتين الأصليَّتين، الكتابيَّة وبَعد الحداثيَّة، بلغ مداه في أنَّ إحداهما إلهيَّة حقًّا، والأخرى مجرَّد نثر على ورق.

شارك مع أصدقائك

حاصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة من جامعة بوتشيفستروم، وبعمل كرئيس قسم اللاهوت النظاميّ في كليّة تورنتو المعمدانية للاهوت.