لاهوت التحرير

التعريف

لاهوت التحرير هو مزيجٌ من الفلسفة الماركسيَّة وبعض الأفكار الكتابيَّة. يقول هذا الفكر اللاهوتيُّ إنَّنا ينبغي أن نعيد بناء اللاهوت المسيحيِّ بأكمله عن طريق النظر إليه من خلال “محور الظالم والمظلوم”.

الموجَز

نشأ لاهوت التحرير في ستينيَّات القرن العشرين بغرض مناصرة تحرير جماعات معيَّنة من البشر، ولا سيَّما الفقراء، والسود، والنساء من العبوديَّة الاقتصاديَّة والسياسيَّة. ويرى هؤلاء اللاهوتيُّون أنَّه لا يكفي أن ندعم المظلومين، بل على المرء أن يكرِّس نفسه للحركات الاجتماعيَّة، بل والثورات أيضًا، التي تكرِّس جهودها لإسقاط هياكل المجتمع. ولتحقيق هذا الغرض، يتبنَّى علماء لاهوت التحرير الفلسفة الماركسيَّة، بصفتها “أداة تحليليَّة”، يستخدمونها لإجراء تعديلات جذريَّة على كلِّ عقيدة مسيحيَّة تقليديَّة.


أصبح لاهوت التحرير شديد الانتشار في النصف الأخير من القرن العشرين. وكمثالٍ على ذلك، يحتوي كتاب دين و. فيرم (Deane W. Ferm)، بعنوان Contemporary American Theologies (“العلوم اللاهوتيَّة الأمريكيَّة المعاصرة”)[1] على ثمانية فصول، تناقش خمسة منها الآراء اللاهوتيَّة الدارجة في الوقت الحاليِّ. وكانت هذه الآراء الخمسة هي “اللاهوت الإنجيليّ”، واللاهوت الكاثوليكيّ الرومانيّ، وثلاثة أشكال مختلفة من لاهوت التحرير، هي: لاهوت تحرير أمريكا اللاتينيَّة، ولاهوت التحرير الأسود، ولاهوت التحرير النَّسويّ. كذلك، ظهرت بعض الشعارات، والمفاهيم، والحُجج المستمَدَّة من علماء لاهوت التحرير في كلٍّ من اللاهوت الكاثوليكيِّ الرومانيِّ، واللاهوت الإنجيليِّ. ووُجِدت أيضًا كثير من القواسم المشتركة بين لاهوت التحرير وبعض المفكِّرين الآخرين، ولا سيَّما يورجن مولتمان (Jurgen Moltmann)، وولفهارت باننبرج (Wolfhart Pannenberg)، وعلماء لاهوت الصيرورة (Process theology)، مثل جون كوب (John Cobb)، وسكوبرت أوجدن (Schubert Ogden).

أشار “فيرم” إلى أنَّ لاهوت التحرير صار اسمًا عامًّا يشير إلى عديدٍ من الحركات المختلفة، مثل الحركة الأمريكيَّة اللاتينيَّة، والحركة الأمريكيَّة الأفريقيَّة، والحركة النسويَّة.[2] ومن المفكِّرين الذي ينتمون إلى لاهوت تحرير أمريكا اللاتينيَّة: روبم ألفز (Rubem Alves)، وجوستافو جوتييريز (Gustavo Gutierrez)، وهيوجو أسمان (Hugo Assmann)، وجوسيه ميراندا (Jose Miranda)، وجوان لويس سيجاندو (Juan Luis Segundo)، وجون سوبرينو (Jon Sobrino)، وليوناردو بوف (Leonardo Boff)، وجوسيه ميجيز بونينو (Jose Miguez Bonino). ويُعتَبَر جيمس كون (James Cone) مؤسِّس “اللاهوت الأسود” [Black theology]، مع كُتَّاب آخرين أيضًا، مثل ألبرت ب. كليج (Albert B. Cleage)، وج. ديوتيس روبرتس (J. Deotis Roberts)، وميجور ج. جونز (Major J. Jones)، وو. ر. جونز (W. R. Jones).[3] ومن بين الكاتبات في اللاهوت النسويِّ: ماري دالي (Mary Daly)، وروزماري روثر (Rosemary Reuther)، وليتي راسل (Letty Russell)، وشيلا كولينز (Sheila Collins)، وبينيلوبي ووشبورن (Penelope Washbourn)، وإليزابيث جونسون (Elizabeth Johnson)، وليثا سكانزوني (Letha Scanzoni)، وفيرجينيا مولينكوت (Virginia Mollenkott)، وهيلين لونجينو (Helen Longino). سأركِّز في هذه الدراسة على الشكل الأمريكيِّ اللاتينيِّ من لاهوت التحرير، وبالأخصِّ على كتاب جوستافو جوتييريز بعنوان A Theology of Liberation (“لاهوت التحرير”)، الذي يرى كثيرون أنَّه الكتاب الرائد في هذه الحركة.[4]

يتعلَّق فكر جوتييريز اللاهوتيُّ (1928-) في المقام الأوَّل بالعلاقات بين الأغنياء والفقراء. صحيح أنَّ اللاهوت الأسود يركِّز على العرق بدرجة أكبر، وأنَّ الحركة النسويَّة تركِّز على نوع الجنس بدرجة أكبر. لكن في كلِّ هذه الحركات، يتعلَّق الأمر في النهاية بالعلاقات بين جماعةٍ تُحسَب ظالمة، وجماعة أخرى تُحسَب مظلومة. ويقول هؤلاء إنَّ الكتاب المقدَّس ينبغي أن يُقرَأ من منظور الجماعة المظلومة.

يتَّفق لاهوت التحرير مع بولتمان على أنَّه لا يمكن تفسير النصِّ الكتابيِّ دون افتراضات مسبَّقة. وتحديدًا، يركِّز أتباع لاهوت التحرير على الافتراضات المسبَّقة المستمَدَّة من الحالة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة للمفسِّر، وعرقه، ونوع جنسه. فإنَّ الكتاب المقدَّس يبدو مختلفًا في نظر الفقير والغنيِّ، وذوي البشرة الداكنة وذوي البشرة البيضاء، والإناث والذكور. والذين يَنعَمون برخاء نسبيٍّ يخفقون في كثير من الأحيان في ملاحظة ما يقوله الكتاب المقدَّس عن الفقر. وبالتالي، لا يوجد ما يسمَّى بالتفسير المحايِد، سواء اجتماعيًّا، أو عرقيًّا، أو اقتصاديًّا، أو سياسيًّا. فينبغي ألاَّ نفترض، على سبيل المثال، أنَّ اللاهوت الأوروبِّيَّ أو لاهوت أمريكا الشماليَّة يقدِّم مفاهيم وافية ومفيدة للفكر اللاهوتيِّ في دول العالم الثالث.

ويرى أنصار لاهوت التحرير أنَّ فَهم الكتاب المقدَّس يفترض مسبَّقًا ليس فقط بعض الأفكار، لكنَّه يفترض أيضًا نوعًا من الانخراط العمليِّ، أي “البراكسيس” (ومعناها “عمل” أو “ممارسة”)، كما يسمُّونه. فإنَّنا بحاجة إلى التلامس مع الواقع، واكتساب خبرة فيه، إذا أردنا أن نفكِّر في هذا الواقع بشكل سليم. وبالتالي، يصير الحقُّ نفسُه شأنًا عمليًّا، بما أنَّ النظريَّة تمثِّل جزءًا من الممارسة العمليَّة. فإنَّها حدثٌ، أي شيء يحدث.[5] فإنَّ معرفة الله تساوي تطبيق وممارسة العدل (إرميا 22: 16).[6] والبراكسيس هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها إثبات صحَّة الحقِّ، وذلك لأنَّه يجب الحُكم على الأفكار المتعلِّقة بالتغيير والتحسين الاجتماعيِّ من خلال مدى نجاحها الفعليِّ.[7]

وبمزيدٍ من التحديد أيضًا، يشدِّد أنصار لاهوت التحرير على ضرورة اشتراكنا في العمل السياسيِّ والاجتماعيِّ، إذا أردنا أن نفهم الكتاب المقدَّس فهمًا صحيحًا. فإنَّه ينبغي أن يُسمَع المسيح في كلِّ مجال من مجالات الحياة. وفي هذا الشأن أيضًا، تُعَدُّ المحايدة أمرًا مستحيلاً. فالجميع لديهم بالفعل مخطَّط أو هدف اجتماعيٌّ من نوعٍ ما. والسؤال الوحيد هو أيُّ مخطَّط هو الصحيح؟ لكن، يقول هؤلاء أيضًا إنَّ العمل الاجتماعيَّ والسياسيَّ هو بالضرورة، وبحُكم طبيعته، “تصادميٌّ”،[8] وذلك لأنَّ مصالح الفقراء والأغنياء لا بُدَّ أن تصطدم معًا.[9] وفي هذا الشأن، يجب أن نقرِّر إلى أيِّ صفٍّ سننحاز.

فحص جوتييريز الاعتراض القائل إنَّ مثل هذا الصراع يتعارض مع تعليم الكتاب المقدَّس بأن نحبَّ أعداءنا، وردَّ عليه قائلاً إنَّ صراع المرء مع أعدائه لا ينطوي بالضرورة على الكراهية، بل ربَّما كان هذا لخير العدوِّ. على أيِّ حال، لا يمكن لأحدهم أن يحبَّ أعداءه إلاَّ بعدما يكون قد عرَّفهم بأنَّهم أعداؤه. والمصالحة السطحيَّة لا تفيد أحدًا.

وبالتالي، يصرُّ جوتييريز على أنَّ أيَّ فكر لاهوتيٍّ يجب أن يستمدَّ أفكاره من “محور” الظلم والتحرير. وفي الكتاب المقدَّس، مثل هذا التركيز يَظهَر في حدث الخروج من أرض مصر وعتق الله لشعبه من العبوديَّة، وكذلك في الشرائع وكتابات الأنبياء التي تدعو إسرائيل إلى الترفُّق بالفقراء. كذلك، يمثِّل الفداء الذي صنعه يسوع خروجًا ثانيًا، فيه أسقط الله المستكبرين مرَّة أخرى، ورفع المتَّضعين.

يقول جوتييريز إنَّ الماركسيَّة تقدِّم أفضل تحليلٍ للصراع الدائر بين الظلم والتحرير، بمفردات الصراع الطبقيِّ. وبالتالي، على عالم لاهوت التحرير أن يتبنَّى الماركسيَّة، على الأقلِّ بصفتها “أداة تحليليَّة”.[10] وهي لم تكن تزيد عن ذلك بالفعل بالنسبة إلى الثورة الاجتماعيَّة. وبالتالي، فإنَّ علم اللاهوت هو التأمُّل النقديُّ في البراكسيس، من داخل البراكسيس نفسه.

والهدف الأساسيُّ لهذا الفكر اللاهوتيِّ يساوي هدف ماركس أيضًا، وهو ألاَّ نفهم العالم، بل أن نغيِّره. وبصفة خاصَّة، ليس الهدف هو حماية تقليدٍ معيَّنٍ والدفاع عنه، بل على عالم اللاهوت أن يغامر بتجاوُز حدود النماذج التاريخيَّة التقليديَّة، مستخدمًا التحليل الاجتماعيَّ في فهم الثقافات والمجتمعات التي يسعى إلى تغييرها.

الأكثر من كلِّ ذلك أنَّه على عالم اللاهوت أن يكون منخرطًا في الصراعات الاجتماعيَّة الدائرة في الزمان الذي يعيش فيه. ويجب ألاَّ يسعى إلى الحصول على “إذن” لاهوتيٍّ ليمارس هذا الانخراط. بل إنَّ هذا الانخراط هو الافتراض المسبَّق لعلم اللاهوت نفسه. قال “هيوجو أسمان” إنَّ التكريس للثورة مستقلٌّ عن أيِّ تبرير لاهوتيٍّ، وسابق له. وبرأيي، هذا خطأ، لأنَّه يحدُّ من نطاق كلمة الله، مانعًا إيَّاها من الحُكم على مدى مشروعيَّة أيِّ ثورة.

يستعير لاهوت التحرير كثيرًا من مفاهيمه وبلاغته من “لاهوت العلمنة” (مثل يورجن مولتمان وهارفي كوكس). يقول جوتييريز إنَّنا يجب أن نَقبَل بالتطوُّر الحديث المتَّجه صوب العلمنة.[11] ويتلاقى هذا مع النظرة المسيحيَّة عن الإنسان، التي تقول إنَّ الفداء يجعلنا بشرًا أفضل. كما أنَّه يصادق على تميُّز الخليقة عن الله، وعلى كون الإنسان هو سيِّد هذه الخليقة. ويقول إنَّه ينبغي، بالتالي، فهم الكنيسة من منظور العالم، والدين من منظور اللادينيِّ، وليس العكس. فعلى الكنيسة ألاَّ تحاول استخدام العالم في تحقيق غاياتها، بل بالأحرى أن تخدم العالم.

وبالتالي، فإنَّ التاريخ واحدٌ. ولا فرق بين الدنس والمقدَّس.[12] فالخلق هو فعل خلاصيٌّ، والتحرير السياسيُّ (كما في حدث الخروج) هو فعل خلق ذاتيّ. والخلاص هو إعادة خلق، وتتميم، فيه يكون الإنسان مشاركًا بطريقة إيجابيَّة، في تجاوُب منه مع النعمة. وتجسُّد المسيح يؤكِّد قداسة ما هو دنسٌ (189-194).

اتَّبع جوتييريز حُجَّة مولتمان القائلة إنَّ علم اللاهوت يجب أن يكون “ذا توجُّه مستقبليٍّ”؛[13] لكنَّه نسب أهمِّيَّة إلى الوضع الراهن أكبر من التي نسبها مولتمان إليه، مستشهدًا في ذلك بأمثلة كتابيَّة وتاريخيَّة. فإنَّه يوجد جانب “الآن” وكذلك جانب “ليس بعد”. وقال:

إنَّ الرجاء الذي يغلب الموت يجب أن يَكمُن في لُبِّ البراكسيس التاريخيِّ. وإذا لم يتجلَّ هذا الرجاء في الحاضر، كي يقوده إلى الأمام، فإنَّه سيكون مجرَّد هروب، ووهمٍ عن المستقبل. يجب أن نحترس بشدَّة من أن نحلَّ مسيحيَّة المستقبل محلَّ مسيحيَّة ما هو فوق [مثلما فعل بارت وبولتمان]. فإذا كانت مسيحيَّة ما هو فوق قد مالت إلى نسيان العالم، تخاطر مسيحيَّة المستقبل بتجاهُل الحاضر البائس والظالم، وتجاهُل الصراع من أجل التحرير.[14]

سألخِّص فيما يلي كيفيَّة تعامل جوتييريز مع العقائد اللاهوتيَّة المألوفة. ففي عقيدته عن الله، أكَّد تسامي الله وقُربه، لكن أضفى عليهما في كلتا الحالتين صبغة تحريريَّة: فإنَّ الله متسامٍ، لأنَّ الوصيَّة الأولى توقِع الدينونة على كلِّ الآلهة الزائفة، بما في ذلك تلك الأشكال من المسيحيَّة التي تَقبَل بالظلم. وهو قريبٌ لأنَّه يعمل في التاريخ من أجل تحرير المظلومين،[15] ولأنَّه يظلُّ في الجنس البشريِّ ومعه.[16] وإنَّ حضوره كونيٌّ، لأنَّه حاضرٌ في الأمم كما في اليهود أيضًا، وفي غير المؤمنين كما في المؤمنين. وهو يسكن بالأخصِّ في “القريب”،[17] أي في جميع البشر. وكي نتَّحد بالله، يجب أن “نتحوَّل إلى القريب”، والعكس صحيح.[18]

يقول جوتييريز إنَّه يوجد بداخل الطبيعة البشريَّة انفتاح غير محدود على الله.[19] وبالتالي، لا يوجد تناقض بين ما هو طبيعيٌّ وما هو فائق للطبيعة. وبموجب “مشيئة الله الخلاصيَّة غير المحدودة”، يتأثَّر الجميع بالنعمة، ويتلقَّون دعوة فعَّالة إلى الشركة مع الله. وبالتالي، فإنَّ الجميع هم في المسيح.[20] وبالتالي، تصير الحدود بين الكنيسة والعالم مائعةٌ. “بل وإنَّ البعض يتساءلون إذا كانا مختلفين من الأساس …”.[21] وبالتالي، فإنَّ المشاركة في التحرير هو عمل خلاصيٌّ. والخطيَّة تتمثَّل في التمركز الأنانيِّ حول الذات، ورفض تقديم المحبَّة للقريب، وبالتالي رفض تقديم المحبَّة لله.[22] وفي النهاية، يكون الإنسان هو مصدر الفقر، والظلم، والقمع، سواء بشكل فرديٍّ، أو من خلال “هياكل” المجتمع ككلٍّ. وتتغذَّى الخطيَّة الفرديَّة والجماعيَّة أحدهما على الأخرى. وفي حاشية سفليَّة، أشار جوتييريز إلى الصلة التي عقدها ماركس بين التملُّك الشخصيِّ والخطيَّة. فوفقًا لماركس، بسبب التملُّك الشخصيِّ، صار العامل مغتربًا عن ثمار عمله. لكن، يحذِّرنا جوتييريز من “المبالغة في تقدير” أهمِّيَّة هذه الصلة.[23]

غالبيَّة أنصار لاهوت التحرير يَقبَلون التاريخ الكتابيَّ في نقاطه الرئيسيَّة؛ لكنَّ بعضهم، مثل ليوناردو بوف، متشكِّكون فيه. لكن، يصبُّ هؤلاء كثيرًا من التركيز على المعجزات، والكفَّارة، وقيامة المسيح، لكن فقط، وكما رأى مولتمان، باعتبارها محفِّزات تدفعنا إلى توقُّع صُنع الله للمفاجآت في المستقبل.

يكرِّس علماء لاهوت التحرير بالفعل قدرًا لا بأس به من الطاقة للإجابة عن السؤال المتعلِّق بسبب عدم انخراط يسوع نفسه في العمل السياسيِّ في أثناء خدمته على الأرض. أشار جوتييريز إلى أنَّه كان ليسوع بعض الأصدقاء من الثوَّار الغيورين.[24] وقد اتَّفق معهم في الرأي بخصوص المجيء الوشيك للملكوت، ودوره فيه، واختطاف ذلك الملكوت على يد أناس غاصبين (متَّى 11: 12). ومع ذلك، حافظ يسوع على مسافة بينه وبين هذه الفئة، للأسباب التالية: (1) لأنَّ إرساليَّته كانت إرساليَّة شاملة، وليست مجرَّد إرساليَّة قوميَّة ضيِّقة النطاق؛ (2) لأنَّ موقفه من الناموس كان مختلفًا عن موقف الغيورين؛ (3) لأنَّه رأى أنَّ الملكوت سيأتي كعطيَّةٍ من الله، وليس بجهود البشر؛ (4) لأنَّه رأى أنَّ جذور المشكلات السياسيَّة تكمن في الافتقار إلى الإخاء؛ (5) لأنَّه كان يحترم استقلاليَّة العمل السياسيِّ. وبالتالي، قال جوتييريز إنَّ ثورة يسوع كانت أكثر جذريَّة من ثورة الغيورين. فإنَّ رسالته كانت موجَّهة إلى القلب. وتغيير القلب هو أفضل ما يمكن أن يقود إلى التغييرات الهيكليَّة. ومن ثَمَّ، فإنَّ النعمة المخلِّصة تستأصل مشكلات المجتمع من جذورها. ومع ذلك، فإنَّ كلَّ المحاولات البشريَّة للتغلُّب على القمع والظلم تقاوم أيضًا الأنانيَّة والخطيَّة، وبالتالي هي محرِّرة. وهكذا، ومرَّة أخرى، يعمل اللادينيُّ والمقدَّس جنبًا إلى جنب.

وبحسب لاهوت التحرير، الكنيسة هي “سرُّ الخلاص الشموليِّ”،[25] بمعنى أنَّها مجتمع موجَّه نحو المستقبل الذي وعد به الربُّ يسوع. وعلى الكنيسة أن تكون منشغلةً بالعالم، وليس بنفسها. وفي حقيقة الأمر، لأنَّ الكنيسة تمثِّل جزءًا من العالم، يجب على العالم أن يسكن فيها، وأن يبشِّرها. وبالتالي، تكشف الكنيسة الطبيعة الحقيقيَّة للعالم، أي إنَّها تكشف أنَّه في المسيح.

نظير مولتمان، عارض جوتييريز “النموذج القسطنطينيَّ”، مفضِّلاً مفهوم اللاهوت العلمانيِّ، القائل إنَّ الكنيسة موجودة كي تخدم العالم، وإنَّها يجب أن تستمدَّ أهدافها ومخطَّطاتها من العالم. وبالتالي، ينبغي حشد صفوف الكنيسة من أجل محاربة الفقر. وكان جوتييريز على قناعة بأنَّ الرأسماليَّة ليست حلاًّ للفقر الذي تعاني منه أمريكا اللاتينيَّة، وأنَّه على المؤمنين أن يشجِّعوا مجتمعاتهم على سلوك مسار اشتراكيٍّ.[26] وقد يتطلَّب تثبيت أقدام الاشتراكيَّة بعض العنف، لكنَّ جوتييريز يصرُّ على أنَّ القمع الاقتصاديَّ هو نفسه نتيجة للعنف. وبالتالي، يمكن لرفع ذلك القمع أن يبرِّر “العنف المضادَّ”.[27]

نظير كثير من الحركات الفلسفيَّة واللاهوتيَّة، ارتكب لاهوت التحرير أخطاءً جسيمة من بداية عمليَّة تفكيره (أي بدءًا من نظريَّة المعرفة التي يتبنَّاها)، وهي أخطاء تصيب كلَّ شيء آخر يقوله بالعدوى. يطالب أنصار لاهوت التحرير بأن يكون التكريس للثورة الماركسيَّة هو الافتراض المسبَّق للمهمَّة اللاهوتيَّة؛ وبالتالي، أنَّه ينبغي ألاَّ يطلب المرء أيَّ “إذن لاهوتيٍّ” للقيام بهذه الثورة. وبهذا، مُنِعت كلمة الله من تقييم المبادئ الأساسيَّة للاهوت التحرير، في حين كان ينبغي أن تصرخ بأعلى صوتها.

ومع ذلك، يقدِّم أنصار لاهوت التحرير (وإن كان في عدم اتِّساق) كثيرًا من الأفكار عن الأخلاقيَّات الكتابيَّة، والاجتماعيَّة، والفرديَّة. فإنَّ الله يهتمُّ حقًّا بالفقراء بصفة خاصَّة. والذين يزدرون بالفقراء ستقع عليهم دينونة خاصَّة. لكن، بوضع أنصار لاهوت التحرير الماركسيَّة افتراضًا مسبَّقًا لهم، يفصلون أنفسهم عن أيَّة مناقشة جادَّة من أجل الوصول إلى أفضل وسيلة يمكن بها مساعدة العالقين في فخِّ الفقر، جاعلين من العنف وحده الوسيلة لحلِّ المشكلة. وإنَّ سقوط الكثير جدًّا من المسيحيِّين في هذا الفخِّ هو أحد العوامل الرئيسيَّة التي أسهمت في المأساة التي تعاني منها الكنيسة في أمريكا اللاتينيَّة. وعلى أنصار لاهوت التحرير المهتمِّين بحال النساء، أو الأمريكيِّين من أصل أفريقيٍّ، أن يحترسوا من أن يؤدِّي بهم الأمر إلى نتائج مماثلة.


[1] San Francisco: Harper and Row, 1990

[2] لدى لاهوت مينجونج الكوريِّ (“لاهوت الشعب”) بعض أوجه الشبه والتقارب مع لاهوت التحرير، لكن لديه أيضًا بعض أوجه الاختلاف عنه.

[3] في هذه المرحلة من التاريخ، يجب ألاَّ نتجاهل القسَّ جيريمايا رايت (Rev. Jeremiah Wright)، الذي ظلَّ لعدَّة سنوات راعيًا للرئيس باراك أوباما وعائلته في كنيسة المسيح ترينيتي المتَّحدة في شيكاغو. وأصبحت عظات رايت مثيرةً للجدل في الحملة الرئاسيَّة لعام 2008، ممَّا أدَّى إلى انسحاب أوباما وعائلته من عضويَّة هذه الكنيسة. وكان رايت يشرح عظاته عن طريق الاقتباس من أفكار “اللاهوت الأسود” الذي تبنَّاه جيمس كون.

[4] Maryknoll, N. Y.: Orbis Books, 1973.

[5] لاحظ هنا وجود بعض التأثيرات من اللاهوت الناشط (activist theology) الذي قدَّمه بارت، ومن قبله أيضًا نظريَّات المعرفة البراجماتيَّة التي قدَّمها تشارلز بيرس (Charles Peirce) وويليام جيمس (William James).

[6] أشعر ببعض التعاطف حتَّى الآن مع أفكار لاهوت التحرير. راجع نظريَّة المعرفة والحقِّ ذات المنظور الثلاثيِّ، التي قدَّمتها في كتابي the Knowledge of God (“معرفة الله”).

[7] يتساءل نقَّاد لاهوت التحرير عمَّا إذا كان أنصار هذا اللاهوت جادِّين بشأن “نتائج” سياساتهم. وأشار هؤلاء النقَّاد إلى أنَّ الأفكار الاجتماعيَّة الماركسيَّة، التي يؤيِّدها أنصار لاهوت التحرير قد أسفرت عن فقر وطغيان في أجزاء كثيرة من العالم، في حين اتَّبعت الدول الأكثر رخاءً السياسات الرأسماليَّة المتعارضة مع الاشتراكيَّة.

[8] يبدو أنَّ هذه الكلمة تردُّ بشكل يكاد يكون حصريًّا في سياق كتابات ماركس أو كتابات لاهوت التحرير.

[9] هذا قطعًا افتراض ماركسيٌّ. على النقيض من ذلك، أرى أنَّه من الممكن لأيِّ نظام اجتماعيٍّ عادل وبحسب مشيئة الله أن يحقِّق رخاء الجميع.

[10] وهنا، انتقى جوتييريز كلماته بعناية. فهو كاثوليكيٌّ، وقد أدانت الفاتيكان الماركسيَّة كأيدولوجيَّة. وعبر تاريخ لاهوت التحرير، نشأت اضطرابات بين علماء اللاهوت والأساقفة، بمن فيهم البابا أيضًا. وبصفة شخصيَّة، لستُ أفهم الفرق بين أن يكون أحدهم ماركسيًّا وبين أن يستخدم الماركسيَّة كأداة تحليليَّة. لكن من الواضح أنَّ جوتييريز اختار هذه العبارة ليشير بها إلى شيء يقلُّ عن التكريس التامِّ للفلسفة الماركسيَّة.

[11] Gutierrez, A Theology of Liberation, 66-68.

[12] Ibid., 153-160.

[13] Ibid., 14-15, 160-68, 213-220.

[14]   Ibid., 218.

في صفحة 241 من هذا المرجع، والحاشية 33، قال جوتييريز إنَّ مولتمان يقترب بدرجة أكبر من وجهة النظر التحريريَّة.

[15] نظير مولتمان، فهم جوتييريز الاسم “يهوه” بمعنى “سأكون من سأكون”، ليس بمعنى أنَّه كائن لا تاريخيّ، بل بمعنى أنَّه قوَّة موجودة في مستقبلنا، مستعدَّة للعمل بقوَّة (المرجع نفسه، 165).

[16]   Ibid., 189-212.

[17]  Ibid., 194-203.

[18] Ibid., 207.

[19] Ibid., 69. Cf. 149-52.

[20] ذهب جوتييريز هنا إلى أبعد من أفكار كارل راهنر (Karl Rahner) بشأن “المسيحيِّين مجهولي الهويَّة”، الذين يخلصون، لكنَّهم يبقون خارج الكنيسة الجامعة. فإنَّ جوتييريز مؤيِّد واضح للخلاص الشموليِّ.

[21] Liberation, 72. Cf. 258.

[22] Ibid., 36-7.

[23] Ibid., 187, footnote 98.

[24] Ibid., 226-7.

[25] Ibid., 258-62.

[26] Ibid., 111-113.

أختلف مع النظريَّة الاشتراكيَّة والبرنامج الاشتراكيِّ. فصحيح أنَّ الرأسماليَّة ليست مثاليَّة، لكنَّها حقَّقت في سبيل محاربة الفقر أكثر ممَّا حقَّقه أيُّ نظام اقتصاديٍّ آخر. كذلك، يؤيِّد الكتاب المقدَّس مبدأ الملكيَّة الشخصيَّة في الوصيَّة الثامنة، بينما يحثُّ شعب الله في الوقت نفسه على التعامل بسخاء مع احتياجات الفقراء. للاطِّلاع على المزيد في هذا الشأن، انظر كتابي التالي بعنوان:

Doctrine of the Christian Life (Phillipsburg, NJ: P&R Publishers, 2008), 796-829.

لكن، تأتي كلُّ سنة بمزيد من البراهين على عدم جدوى الاشتراكيَّة من الناحية الاقتصاديَّة، وارتباطها بالطغيان الحكوميِّ والحروب الطبقيَّة. ومن الصعب أن آخذ على محمل الجدِّ قول أنصار لاهوت التحرير إنَّ هدف الاشتراكيَّة هو “أن يصير البشر أكثر إنسانيَّة”.

[27] Ibid., 22, 88-92, 108.

شارك مع أصدقائك

جون فريم

أستاذ الفلسفة واللاهوت النظاميّ في كليّة اللاهوت المُصلح بمدينة أورلاندو، بولاية فلوريدا الأمريكيّة.