اللاهوت الليبرالي: تقييم نقدي

التعريف

الليبراليَّة لا ترتقي إلى المسيحيَّة الكتابيَّة. فإن عقيدتها تحاكي مفردات لغة المسيحيَّة الأرثوذكسيَّة (القويمة) وتقدِّم نُسَخًا طبق الأصل من جوانب معيَّنة من المسيحيَّة الكتابيَّة والتاريخيَّة، لكنَّها لا تشترك في جوهر الإيمان الكتابي. فهي ليست طائفة من الطوائف المسيحية، إنما بالحريّ دين آخر.

الموجز

تأخذنا هذه المقالة في جولة في كتابات أبرز الليبراليين عن معتقداتهم حول (الكتاب المقدَّس، شخص يسوع، الإنسان والخطيَّة، معنى موت المسيح، التبرير). كما تقدم المقالة في الجزء الثاني منها تقييم للمعتقدات الليبرالية.


1. سلطة تعريف الإيمان المسيحي

لا ترقى الليبراليَّة إلى العقيدة الكتابيَّة التي لها سلطة دينيَّة. فإن عَرْضَ الكتاب المقدَّس لما يجب أن يؤمن به المرء يعتمد على ثقة راسخة في الإعلان الإلهي. وتعتمد الحقائق التي تَحكم كل مجال من مجالات علم اللاهوت على التفسير الدقيق للنص الكتابي (Exegesis) مع التزام مسبق بتصديق المعنى الناتج من هذا التفسير. أكَّد الرسول يوحنا أن الفرق بين الحق والضلال موجود إمَّا في تصديق أقوال الرسل وإمَّا في عدم تصديقها: “نَحْنُ مِنَ اللهِ. فَمَنْ يَعْرِفُ اللهَ يَسْمَعُ لَنَا، وَمَنْ لَيْسَ مِنَ اللهِ لاَ يَسْمَعُ لَنَا. مِنْ هذَا نَعْرِفُ رُوحَ الْحَقِّ وَرُوحَ الضَّلاَلِ” (1 يوحنا 4: 6). قال بولس بكل وضوح: “الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِحَسَبِ إِنْسَانٍ. لأَنِّي لَمْ أَقْبَلْهُ مِنْ عِنْدِ إِنْسَانٍ وَلاَ عُلِّمْتُهُ. بَلْ بِإِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (غلاطية 1: 11-12). كما شَمِلَ بولس كلاًّ من كتابات العهد القديم وتلك التي كتبها بنفسه بوصفها تفسيراتٍ للإيمان الذي نُقِل إليه: “كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ الله” (2 تيموثاوس 3: 16).

على النقيض من ذلك، يشير هاري إيمرسون فوسديك في مقدِّمة كتابه “الاستخدام الحديث للكتاب المقدَّس- The Modern Use of the Bible” إلى أن “هذا الكتاب لن يُعجب بالطبع أولئك الملتزمين بنظريَّة الخلو من الخطأ الحرفيَّة في فهمهم للكتاب المقدَّس”. كما قال شايلر ماثيوز إن الرأي الذي يقول بأن الدقَّة التاريخيَّة الداخليَّة واتِّساق التصريحات الأدبيَّة ضروريَّان لمصداقية الكتاب المقدَّس “إنما يُظهر نوعًا من الفكر العقائدي الدوغماتي الذي لا يمكن لمن يسعون إلى معرفة الحقائق أن يحترموه”. فالكتاب المقدَّس هو “السجل الجدير بالثقة لديانة متطوِّرة، وهو نتاجها” (Faith، 44، 48). وأكَّد ماثيوز أن “مجرَّد حقيقة أن معتقدًا ما قد سُجِّل في الكتاب المقدَّس بدقَّة لا يضمن دوامه أو دِقَّته” (48).

بلغت ثقة الليبراليَّة أقصى حد في قدرتها على بناء فكر لاهوتي بعيدًا عن إعلان حقائق مصرَّح بها ومسجَّلة عبر الوحيّ. كتب ويليام نيوتن كلارك في كتابه “استخدام الكتاب المقدَّس في اللاهوت- The Use of the Scriptures in Theology” فصلاً من 48 صفحة بعنوان “المشكلة”. كانت أطروحته هي أن الدراسات الحديثة للنقد الأعلى واللاهوت الكتابي طالبوا “باعتراف صريح بأن الموقف القديم هو موقف واهٍ؛ ولا يمكن الدفاع عنه” (48). وهذا “الموقف القديم”، الذي هو نتاج “عصور مسيحيَّة لم تُراعِ قواعد النقد”، هو أن الكتاب المقدَّس بكامله موحى به من الله. لكن الدراسات الحديثة، بحسب رأيهم، تستبعد جواز التمسُّك “بنظريَّة وحيٍ يُضفي عصمة على جميع تصريحاته، أو حتى كل أقواله في مجال الدين” (25). إن مثل هذه الفكرة تلقي عبئًا على كاهل عالِم اللاهوت الذي يتَّبع “تفسير الكتاب المقدَّس بحيث يتَّفق مع نفسه” (28). يعتقد الليبراليُّون أنه لكي نكون لاهوتيِّين حقًّا، “علينا أن نحرِّر أنفسنا من هذا التعقيد، وأن نتقبل إمكانية وجود أخطاء في أسفار الكتاب المقدس، بعيدًا عن الافتراض المُدَمِّر أخلاقيًّا بأنها (أي الأسفار) يجب أن تتَّفق دائمًا بعضها مع بعض” (29).

أصر كلارك على أنه من الأفضل ممارسة اللاهوت إذا “لم نكن مطالبين بالموافقة على كل تصريح نجده” في الكتاب المقدَّس (Sixty Years، 160). وبما أن جميع النظريَّات القديمة “فقدت مصداقيَّتها بسبب معرفتنا اللاحقة بالكتاب المقدَّس”، يمكننا أن نتطلَّع بتفاؤل إلى اليوم “الذي فيه سيهجره الناس”. في الواقع، لقد رأى بسعادة وقتًا قادمًا “لن يحتاج فيه اللاهوتيُّون المسيحيُّون إلى نظريَّة كهذه”. فجميعهم سوف “يستخدمون الكتاب المقدَّس بطريقة أكثر ذكاءً دون الحاجة إلى أيٍّ من هذه النظريَّات”. فهذه النظريَّات تُملي محتويات الكتاب المقدَّس علينا “وتخبرنا بما يجب أن نجده”. في غضون جيلين من العمل اللاهوتي الذي سنكون أنجزناه في غياب نظريَّة الوحي، “سيتساءل خلفاؤنا كيف اعتقدنا يومًا أنه يمكن التحقُّق من شهادة [الكتاب المقدَّس] عندما كانت [نظريَّات الوحي] موضوعة في الاعتبار” (Sixty Years، 198، 200). فعلم اللاهوت “يلزمه عمل أعمق وأصعب” من مجرَّد اعتبار “الكتاب المقدَّس موثوقًا به وذي سلطة طوال الوقت” (the Use، 35).

2. هل يسوع هو الله الظاهر في الجسد؟

بعد تحرُّر الليبراليين من فرضية سُلطة الكتاب المقدس والوحي، كان الدور على عقيدة ألوهية المسيح؛ والتي نظروا إليها على أنها غير منطقية، أو عبء ثقيل، وبلا معنى على العقل الحديث وعلى الرجل الجليلي الوديع نفسه. أدى فرض الثقافة اليونانية (الهيلينيّة) على المسيحية، عى حد تعبير هارناك (Harnack)، لاهوتًا لم يُعَلِّمَه يسوع ولم يقصده أبدًا. فكيف يمكننا أن نجعل يسوع غير ذي صلة هكذا بالحياة الواقعيَّة من خلال فرض “عقائد لا تُصدَّق” على الكنيسة (25, 43 Rauschenbusch). فيحاج راوشن باخ للدفاع عن ذلك بقوله: “ماذا كان سيقول يسوع لخلاصة ما قرَّره مجمع خلقيدونيَّة أو قانون الإيمان الأثناسيوسي لو كانت قُرِئَت عليه؟” (Rauschenbusch، 25). انعكاسًا للإجماع الليبرالي على دراسة لاهوت المسيح، كَتَبَ راوشن باخ أن اللاهوت التقليدي “جعل ألوهيَّة المسيح سؤال حول الطبيعة وصف.” كانت مسألة الطبيعتين كما تناولها مجمع خلقيدونيَّة “حلًّا وسطيًّا” وأنتجت عقيدة من “الخيال الركيك والميول الغنوصيَّة”. بدلاً من ذلك، يجب أن تستند الصفة الإلهيَّة الخاصة لشخصيَّة المسيح إلى “أعماله الحرَّة والأخلاقيَّة لإرادته بدلاً من التركيز على وراثته السلبيَّة للجوهر الإلهي” (151)! ألا يمكننا أن نرى العبثيَّة بين الإيمان بيسوع والإيمان عنه عندما “نلفت الانتباه إلى التبايُن العميق بين الموعظة على الجبل وقانون الإيمان النيقاوي” (69, 70 Clarke, What Shall We Think of Christianity?). بحسب ما قاله ماثيوز، إن التفكير في قوانين الإيمان القديمة هذه على أنها “خلاصة كافية لجوهر المسيحيَّة هو بمثابة إقامة اختبارات من شأنها أن تَستبعد الرسل إن لم يكن يسوع نفسه من الديانة المسيحيَّة”. ويشرح ماثيوز قائلًا: “ومع ذلك، يفهم أتباع مذهب الحداثة الأهميَّة المقصودة من قانون الإيمان النيقاوي، لأنهم “يعتبرونه تعبيرًا تاريخيًّا عن قناعات وولاءات ثابتة”. لقد كان عبارة عن “وسيلة للتعبير، من خلال بعض المصطلحات والأدوات الفكريَّة، عن قناعة ثابتة بإعلان الله الخلاصي من خلال يسوع المسيح”. إن ألوهيَّة يسوع هي “حضور الله المُعلَن بوضوح في حياته” (138). أو كما ذَكر راوشن باخ، تُرى ألوهيَّة يسوع في “قدرته على استيعاب الآخرين في إدراكه الإلهيّ” (Theology 266).

3. هل لآدم أي علاقة بالخطيَّة؟

بحسب الرأي الليبراليّ، يجب أن يُنظر إلى خطيَّة البشر على أنها تختفي خلف الإرادة الفرديَّة أو مهادنتنا للظلم الاجتماعي. كانت النظرة الليبراليَّة للخطيَّة بيلاجيَّةً بحتة، من دون اعتقاد بيلاجيوس بأن كائنًا مثل آدم هو موجود بالفعل وأنه قد ترك مثالاً سيِّئًا. يجب أن ننحِّي جانبًا أي فكرة عن ارتباط الجنس البشري بكامله بآدم كأصل أحادي للبشريَّة جمعاء. ليس من الصواب ربط إدانة الطبيعة أو فسادها بآدم، وقد وضع اللاهوت التقليدي عبئًا على رواية تكوين 3 لم يكن من المفترض أن تحمله. نظر ويليام نيوتن كلارك، أحد أشهر رواد الليبراليّة الكلاسيكيّة، إلى تكوين 3 على أنه يعطي تصريحًا عن الخطيَّة “تبيَّن أنه صحيح جوهريًّا”. يأتي هذا الاعتراف على الرغم من يقينه المطَّلع بأن كلاًّ من تكوين 2 و3 “يقدمان سجلاَّ لتقليد بشري وليس وصفًا إلهيًّا للأحداث”. في الواقع، إن الأصحاح الثالث، الذي يتطرَّق إلى تفاصيل واضحة للغاية عن خضوع حوَّاء ثم آدم لإغواء الحيَّة “ليس تاريخًا موثوقًا يروي الطريقة نفسها التي بدأت بها خطيَّة الإنسان بالفعل”. وأكَّد كلارك أن الخطيَّة “دخلت من خلال القبول المبكِّر للإنسان للشر بمحض إرادته الحرَّة”. ومع ذلك، لم يقدر كلارك أن يرى أن هذا هذا مكتَمِلاً في إنسانٍ واحدٍ، آدم؛ بل رأى أن الجنس البشري، كيفما ظهر إلى الوجود، “مولود بأهواء حيوانيَّة حسِّيَّة وإرادة ذاتيَّة حرَّة لم تكن آثمة حتى تطوَّرت حياة الروح الإنسانيَّة السامية”. ثم ينغمس في واحدة من أكثر التكهُّنات غرابةً على الإطلاق: “ولكن عندما تم الوصول إلى حالة البشريَّة الحقيقيَّة، لم تعد الأهواء الحيوانيَّة والإرادة الذاتيَّة الحرَّة هو المعتاد أو الطبيعي للجنس البشري، بل كانت العناصر الخاطئة والقاتلة للحياة السامية ما لم تُرفض؛ ومن خلال موافقة الإرادة البشريَّة على الحكم غير الطبيعي الآن للقوى الدنيا، فإن ما كان بريئًا من قبل، تحوَّل إلى الخطيَّة”. وحدث هذا “في الماضي البعيد في مهد حياة ما قبل التاريخ”. ورغم أن الخطيَّة دخلت إلى الجنس البشري، وأفسدت ميوله الكائنة فيه إلى الخير، فإن الذنب “لا يمكن إرساله أو نقله”، وفقًا لكلارك، “لأن الخطيَّة لا يمكن أن تُحتسب على نسل الخاطئ” (Clarke, Outline، 239، 240، 244).

وفقًا لهذا الرأي، فإن الإنسان، في آدم، لم يسقط من حالة الصلاح الأصلي، ولكنه فشل فقط في التغلُّب على المَيل إلى إرادة الذات والشهوة الموجودة بالفعل بداخله. وكما كتب كلارك، فإن هذا “لا يعطينا أي تاريخ للخطيَّة الأولى أو اسم الخاطئ الأول”. وقد يجدر بنا أن نسأل، هل نضجت هذه الحياة الروحيَّة السامية في كيان بيولوجي واحد فقط نسمِّيه الآن الإنسان البشري، أم في العديد من الكيانات على مقربة بعضها من بعض زمنيًّا؟ هل فشلَ واحد فقط في الارتقاء إلى المستوى الأخلاقي الأعلى، أم الجميع فَشِلوا معًا؟ هل يوجد في يومنا هذا أي جزء غير فاسدٍ من الجنس البشري؟ أم أن القصَّة الكتابيَّة لوحدتنا في آدم وإدانتنا في آدم وفسادنا في آدم هي القصَّة الوحيدة التي تعطي تماسكًا واتِّساقًا لبقيَّة السرد الكتابي عن شموليَّة الخطيَّة، وأسباب الاحتياج إلى شخص المسيح وعمله، والعلاقة العهديَّة التي تربط المختارين بالمسيح للغفران والتبرير ورجاء الحياة الأبديَّة؟

4. هل موت يسوع مرتبط بالضرورة بالتبرير؟

لقد صاحَبَ طمس عقائد من قبيل ألوهيَّة يسوع ورئاسة آدم للجنس البشري من اللاهوت الليبرالي عقائد هامة أخرى مثل البدلية العقابية (أي موت المسيح البديلي والاسترضائي). بحسب الرأي الليبرالي، فإن فكرة أن الآب “يرسل ابنه للتكفير عن خطايانا” إنما هو أسير لتعاليم أنسلم وأشبه بمبدأ العدالة الانتقاميَّة.

لخَّص راوشن باخ (Rauschenbush) الرد الليبرالي على العقائد الكتابيّة القويمة في كتابه “اللاهوت من أجل الإنجيل الاجتماعي-Theology for the Social Gospel“. فقد اعتقد أن أي نظام للبدليَّة أو الاسترضاء: “ينتهي بمحو محبَّة الله ورحمته، وهي أهم قناعاتنا المسيحيَّة”. لذلك، فقد رأي أن فكرة “البدلية العقابية والاسترضاء” تقوِّض طبيعة الله ذاتها وتقطع العصب الأخلاقي للمسعى الأخلاقي للتقدُّم المجتمعي من خلال الإفراط في الاعتقاد بأن الخطيَّة والخلاص هما أمر شخصيّ. كما أدعى أن مصطلحات كالاسترضاء والبدليَّة، والحسبان، والاستحقاق، هي “أفكار ما بعد الكتاب المقدَّس؛ وهي بعيدة عن روح الإنجيل” (242، 243).

كان موت يسوع في الواقع نتيجة خطايانا، ولكن ليس كبديل استرضائي. أدَّى الجمع بين التعصُّب الديني، والفساد المالي والسياسي، وفساد نظام العدالة، وروح الغوغاء وأفعالهم، والنزعة العسكريَّة، والازدراء الطبقي إلى موت مبكِّر ليسوع الذي لم يكن ليقبل أي تسوية مع هذه القوى الاجتماعيَّة الشرِّيرة أو يسمح لها بأن ترهبه. لو كان يسوع قد عاش ثلاثين سنة أخرى، لكان قد فعل المزيد وعلَّم أكثر عن أن ملكوت الله هو بين الناس (لوقا 21:17). ولكننا لا بد أن نجد الآن تشجيعًا معنويًّا في موت يسوع: “فحتى وإن لم يمت جسديّا، كان سيكون هناك قدر كبير من الآلام النبويَّة” (266).

حتى الله يرى الآن أنه من الممكن أن يمكث حضوره وقداسته جنبًا إلى جنب مع الإنسان: “ضمن حدود الإنسان، تصرَّف يسوع كما يتصرَّف الله”. فجوهريًّا، تَعلَّم الله أن يفكر بطريقة مختلفة تجاه الإنسان: “فما الذي سيعنيه لله أن يكون في شخصيَّة يسوع ويجتاز معه آلامه وموته؟ فلو لم يكن مبدأ المحبَّة الغافرة موجودًا في قلب الله من قبل، لكانت هذه التجربة قد ثبَّتته هناك. إذا كان قد فكَّر وشعر مثل يهوه “اليهودي”، فسيفكِّر ويشعر من الآن فصاعدًا بوصفه أبا يسوع المسيح” (264). هذا التضامن بين الله والمسيح الذي ينطلق إلى تضامن بين الله والبشريَّة “خالٍ من العناصر المصطَنعة وغير الأخلاقيَّة الكامنة في جميع التفسيرات القضائيَّة والحكوميَّة للكفَّارة” (267).

5. المسيحيَّة القديمة غير واقعية وبلا دراية باحتياجات العصر الحديث

في كتابه “إيمان عصر الحداثة-The Faith of Modernism“، سعى شايلر ماثيوز إلى تسليط الضوء على فكرة أن اللاهوت الكتابيّ التقليدي القويم غير واقعيّ حين نقارن مشاكل العصر الحديث مع العقيدة المسيحيَّة. ففي حين يحتاج العالَم المعاصر إلى السيطرة على الطبيعة والمجتمع، يُقال إن “الكتاب المقدَّس معصوم لفظًا ومعنى“. وعند مواجهة الصراع الطبقي يطلب اللاهوت التقليدي “أن يؤمن بالكفَّارة البدليَّة”. عندما تكون هناك حاجة إلى المحبَّة والعدالة، يُقال للعاَلم أن “المحبَّة من دون الإيمان المستقيم لن تنقِذ من الجحيم”. وعندما يتوق إلى الإيمان “بالوجود الإلهي في الشؤون البشريَّة”، يُقال له: “يجب أن تَقبل عقيدة الميلاد العذراوي (ولادة المسيح من عذراء)”. إنه يرى أن الإيمان المسيحي له قيمة فقط من حيث الطريقة التي يمكن أن يساعد بها في تخفيف مشاكل المجتمع العالمي في الوقت الحاضر. سعى راوشن باخ في كتابه “اللاهوت من أجل الإنجيل الاجتماعي” إلى تقليل العنصر الأخروي والأبدي إلى الحد الأدنى، إلى درجة طمسه تقريبًا، في مقابل خدمة يسوع أثناء حياته على الأرض. فيدعي راوشن باخ أن خدمة يسوع ركّزت على “دعم الحركات من أجل التحرُّر السياسي والعدالة الاجتماعيَّة” (160). وقد عمل يسوع على “تطهير أفكارنا من آثام الطبقة الرأسماليَّة” (158). ففي شخصيَّته وسلوكه داخل المجتمع، وَضَعَ أساسًا لـ “الديمقراطيَّة السياسيَّة” والطاقة الأخلاقيَّة من أجل “الحد من الاستغلال المالي” (165).

ما هي الصلة بين المسيحيَّة غير النقديَّة[1] والليبراليَّة؟

يعتقد الليبراليُّون أنه رغم رفض وإعادة تفسير كل نقطة من نقاط العقيدة الكاثوليكيَّة والإنجيليَّة المستقيمة، فإنهم لم يرفضوا أي شيء جوهري في المسيحيَّة. فما بقي هو القوَّة المُغيِّرة لاختبار حياة المسيح الأخلاقيَّة ومشاركة ثقته في البنويَّة. “العنصر الثابت في العقيدة يكمن في إعلان الحقائق الاختباريَّة العظيمة”، هكذا أوضح كلارك: “يتكوَّن العنصر المُتغيِّر والعابر من التفسيرات المختلفة لتلك الحقائق، التي تُصنع من وقت لآخر في الفكر البشري. وقد أيَّده في ذلك فوسديك واضعًا عنوانًا لفصل من فصول كتابه “التجارب الثابتة والفئات المُتغَيِّرة-Abiding Experiences and Changing Categories“. وقد ذَكَرَ أربع عقائد، في ظنه، لا بد من إعادة صياغتها للحفاظ على نواة الفكرة المسيحيَّة والتخلُّص من الصياغة القديمة.

قال: “على سبيل المثال، أنا أؤمن باستمرار الشخصيَّة بعد الموت، لكنني لا أؤمن بقيامة الجسد”. عبَّر ماثيوز عن هذه الفكرة بلغة مماثلة: “أنا أؤمن باستمراريَّة شخصيَّة الفرد إلى ما بعد الموت” (Faith، 98). في شرحه لكيفيَّة فهم قيامة الجسد على أنها دوام الشخصيَّة فيما بعد القبر، أكَّد فوسديك مرة أخرى أن “ما هو دائم في المسيحيَّة ليس هو إطار فكري وإنما خبرات ثابتة تصوغ نفسها وتعيد صياغتها في طرق تفكير الأجيال المتعاقبة، وتنمو في يقين مؤكَّد وفي ثراء محتواها” (Modern Use، 103). وقد صرَّح فوسديك بحُكم مذهل على الإيمان الإنجيليّ القويم بحق الكتاب المقدَّس والعقائد المُستخلَصة منه، قائلًا: “أن نربط عقولنا بالاستخدام الدائم لمصفوفات الفكر القديمة لمجرَّد أنها استُخدمت في تحديد مبادئ العهد الجديد المخلَّدة، فإن هذا يبدو انتحارًا فكريًّا” (103). كما ركّز فوسديك على الاعتقاد بانتصار البر والملكوت الآتي الذي سيرى المسيح فيه الثمر المُرضِي لتعب نفسه، لكنه استدرج قائلًا: “لكنني لا أؤمن بعودة يسوع الجسديَّة ” (104). ثالثًا، بعد مناقشة مطوَّلة لنشأة وتطوُّر عِلم الشياطين في عوالم العصور القديمة والوسطى، ذكَّر فوسديك جميع قُرَّائه بأن الشرور التي كانت سابقًا تُنسب إلى عمل الشيطان لا تزال معنا، ومن ثم فإن: “إخراج الشياطين من حياة الإنسان هو مهمَّتنا أيضًا… لكن لا يخطر ببالنا حرفيًّا أن نحمل في أذهاننا الإطار القديم لعلم الشياطين” (122). رابعًا، مع الملائكة أيضًا، وجد فوسديك طريقة لرفض شهادة الكتاب المقدَّس الغنيَّة عن الملائكة ولفك تشفيرها “لاستخدام القوم العارفين جيِّدًا”. إنهم ليسوا كائنات حقيقيَّة ذات شخصيَّة، لكنهم يشهدون لـ “حقيقة ووفاق وتوافر العالم الروحي” (125).

وضع ماثيوز لمسته الخاصة على اللاهوت برفضه حتَّى ما أسماه “الدوغماتيَّة الليبراليَّة”. فالليبراليَّة ليست أرثوذكسيَّة جديدة يجب أن يتطابق معها جميع الناس. فقد نادى بأن ما نحتاجه هو عدم وجود قواعد عقائديَّة مسيطِرة، بل أن تكون الركيزة هي الدافع الاختباري والقوَّة الأخلاقيَّة. وحتى الأشخاص الأرثوذكس القدامى قد ينضمُّون إلى الحركة المسيحيَّة الجديدة إذا وجدوا دافعًا أقوى وأكثر روحانيَّة عن اعترافات ومعتقدات الماضي القاسية. لكن، مع ذلك، دعهم ينضمُّون إلى الطاقة الجديدة. فالعمل المسيحي، “ليس هدفه التجانس اللاهوتي ولكن هدفه عالم أفضل، وشعب أكثر شبهًا بالمسيح وأكثر سعادة، ومؤسَّسات تعمل على تحقيق العدالة والأخوَّة، وسياسة تعاون دوليَّة تعمل على تحقيق السلام”. ومع اتِّساع فِكر “إفراغ المسيحيَّة من اللاهوت” أكثر، فإن الطائفيَّة المنتشرة سوف تتلاشى ويظهر التعاون. ستكون هناك “محاولة أكثر ذكاءً لوضع مواقف يسوع وروحه في قلوب الناس وعمل المؤسسات. ستنمو المسيحيَّة بشكل أكثر أخلاقيَّة في مطالبها “(Faith، 179).

يجب إعطاء المعجزات “معنًى حديثًا” (Fosdick, Modern، 162). في حين أن الكتاب المقدَّس يضع المعجزات دون تردُّد أو غموض كأحداث تؤكِّد وجود الألوهيَّة في المسيح والسلطة الإلهيَّة في الأنبياء والرسل (تكوين 8: 18؛ يوحنا 9؛ أعمال الرسل 4: 16؛ عبرانيِّين 2: 4)، يعلن فوسديك دون تردُّد قائلًا: “إن بعض قصص المعجزات لا أؤمن بها” (Modern، 163). في المعجزات التي أجراها يشوع وإيليا وإليشع، وحتى يسوع نجد “مثل هذه القصص التي ارتبطت دائمًا بعصر الشخصيَّات البارزة والقوَّة الروحيَّة الخلَّاقة” (164). وما دام يمكن تفسير المعجزة على أنها مجرَّد عرض أدبي لاختبار روحي مفيد، فإن فوسديك وغيره من الليبراليِّين يؤمنون أن “المعجزة” هي “استخدام الله لقدراته الملتزمة بالقانون لتنفيذ إرادته لحياتنا وللعالم بطرق تفاجئنا” (162). مثل هذه المعجزات يجب أن نشجِّع على تكرارها في عصرنا. هذه القصص المعجزيَّة ممكن تصديقها ونافعة بهذا المعنى: “أن ندرك أن نفس النوع من الاختبار متاح لنا أو سيكون متاحًا إذا كنَّا نتقبَّل قوَّة الله الجديدة” (165).

تقييم الليبرالية

ستكون أعظم معجزة في القرن الحادي والعشرين إذا تمَّكن المرء من تغيير الليبراليَّة إلى المسيحيَّة. لقد رفضت الليبراليَّة السلطة الموضوعيَّة لتعريف المسيحيَّة بأن الكتاب المقدَّس موحى به من الله، ومن ثم فإنه بلا خطأ. كما رفضت الليبراليَّة آدم وارتباطه العهدي والأخلاقي والجيني بالبشريَّة. وهكذا رفضوا التفسير الكتابي للخطيَّة، وتركوا مسيحيَّتهم دون أي تفسير حقيقي لأصل الشر العالمي المتغلغل بلا هوادة في العالم من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل، ومن جميع الأعراق والثقافات، وفي كل قلب بشري. أيضًا، قد أفرغوا السماء من الثالوث، وجرَّدوا المخلِّص من ألوهيَّته، وحوَّلوا تصميمه على بذل حياته فديةً إلى خيال محض، ولم يقدِّموا أيَّ كفارة للبشر الخطاة. إن العلاقة الخلاصيَّة بالله لم تتحوَّل إلى تبرير يتوافق مع البر الأبدي، بل إلى تجديد العزم من جانب الخطاة ليكونوا أكثر لطفًا وبذلًا للذات في سبيل القريب. إنهم يَقلبون الحُكم الكتابي ويقولون: “بالأعمال تَخلصون وتَدخلون ملكوت الله، من خلال لطفكم، وليس بالنعمة المغيِّرة للحياة، وهذا من أنفسكم.” نحن نعيش في عالم، حتى الله لا يصنع فيه معجزات ولا يستطيع أن يصنع معجزات مثل تلك المسجَّلة في الكتاب المقدَّس (لأن الإيمان بتلك المعجزات يشارك في النظرة الخرافيَّة غير العلميَّة للعالم في تلك الفترة). وهكذا، رُفِضَ أي دليل على تفويض إلهي للأنبياء أو لشخص المسيح للعمل أو للكلام. لم تتكوَّن مسيحيَّتهم من الحق الواجب تصديقه، بل فقط من محتوى معرفي يمكن أن يتوافق معه العقل والقلب من خلال اختبار يستند إلى مفردات موروثة من الماضي المسيحي، ولكن من الممكن الاستغناء عنها في الأجيال القادمة. لا يمكن تعريف هذا الاختبار الدائم أو دراسته من خلال المحتوى الإيجابي للإيمان لكن يجب قبوله على أساس مصطلحات غير محدَّدة ودائمة التغيُّر. يؤكِّد هذا الاختبار أن “الحياة الأبديَّة، ومجيء الملكوت، وغلبة الخطيَّة والشر، وسُكنى الروح القدس وحضوره المؤيِّد والمسانِد” التي تم تحديدها في السابق بمصطلحات قديمة، ولكن الآن بمصطلحاتنا، و”هو ساري المفعول أيضًا بمصطلحات أخرى غير مصطلحاتنا التي قد يعبِّر عنها أولاد أولادنا” (Fosdick, Modern، 129). وبعبارة أخرى، لا يوجد أي شيء جوهري بشأن أي من هذه الاختبارات المزعومة لأنها ستوافق بسعادة أي كلمات أو أي إطار مفاهيمي نختار إعطاءه لها. هذه ليست مسيحيَّة: فلم يتم تعريفها كتابيًّا ولا فهمها تاريخيًّا على أساس الكتاب المقدَّس، ومن الصعب تصنيفها على أنها دين على الإطلاق، يمكن فيه تأكيد أي آراء عن الله والإنسان والأبديَّة على أنها تحمل رجاءً حقيقيًّا في الانتصار على الشر، ويقينًا بالحياة الأبديَّة.


[1] التي لا تراعي أو لا تتفق مع فواعد النقد الحديث.

شارك مع أصدقائك

توماس نيتلز

حاصل على درجة الدكتوراة من الكلية المعمدانية الجنوبية الغربية للاهوت، وهو أستاذ اللاهوت التاريخيّ في الكلية المعمدانية الجنوبية للاهوت.