“لأَنَّه يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ
وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ:
الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ” (١ تيموثاوس ٢: ٥)
“كَاهِن عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ” (عبرانيين ١٠: ٢١)
يسهل على المؤمنين غالباً أن يتصوّروا خدمة يسوع الحالية من خلال لاهوته، وهذا أمر مفهوم نظراً لحقيقة حالته الممجّدة، بعد أن “صَعِدَ أَيْضًا فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ” (أفسس ٤: ١٠)، غير أنه صحيح بنفس الدرجة أيضاً أن هنالك إنساناً جالساً عن يمين الله، وهي حقيقة لها تطبيقات عميقة في عبادتنا كما سنرى.
ويعود جزء من التناقض الظاهري لاتحاد الطبيعتين (أي اندماج اللاهوت غير المنقوص والناسوت الكامل في المسيح) إلى أننا نجد في أقنوم واحد متلقِّياً ومعطياً للعبادة في نفس الوقت. ففي تنازله العظيم، وبفضل الخطة الموضوعة منذ الأزل بين أعضاء ثالوث الله الواحد، سلّم الابن (بالإضافة إلى روح القدس) للآب عن طيب خاطر الحق في أن يكون نقطة التركيز الرئيسية للعبادة ومتلقِّيها. ونحن في واقع الأمر نجد يسوع طوال خدمته الأرضية في تواصُل دائم مع الآب (الذي دعاه أباه)[1] في العبادة والصلاة. وهو بتلك الطريقة أتمّ الشريعة وأظهر لنا نموذجاً لعلاقة بشرية غير مشوّهة أو ملطّخة مع الله الخالق.
غير أننا نميل في الغالب بشكل غير واعٍ إلى وضع يسوع المسيح في فئة واحدة، فنركّز إمّا على لاهوته وإمّا على ناسوته — وربما يعود هذا بشكل عام إلى صعوبة استيعاب عقولنا المحدودة هذا الاتحاد الكامل بين الله والإنسان. ومن هنا، فنحن نركز في ميلاده وخدمته الأرضية عادة على ناسوته أو بشريته (مع كون هذا الناسوت كاملاً)، على الرغم من أننا نجد هنا وهناك بطبيعة الحال تلميحات وإشارات وتوكيدات لعِلمه الكلي الإلهي وقدرته على إجراء المعجزات. وفي قيامته وصعوده، وجلوسه الحالي عن يمين الآب في السماء، وحُكمه المنتصر القادم، نرى تعابير عميقة عن لاهوته ومجده. ومن المؤكد أننا غالباً ما نجد إشارات إلى أن المخلص يتشفّع فينا أمام الآب (رومية ٨: ٣٤؛ عبرانيين ٧: ٢٥)؛ لكن أليس صحيحاً أن تصوّرنا في الغالب هو أن مخلّصاً إلهياً صار بنعمة الله شفيعاً لنا أمام العرش؟ وهذا كله صحيح، لكنه أمر صحيح أيضاً أن شفاعته من أجلنا ليست شفاعة شفقة إلهية تجاه مخلوقات بشرية، لكنها شفاعة اتحاد وجداني لشخص “مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ” (عبرانيين ٤: ١٥). لدينا رئيس كهنة لم يقدّم نفسه ذبيحة مرة واحدة حاسمة نهائية من أجل فدائنا فحسب (عبرانيين ٧: ٢٧؛ ١٠: ١٢، ١٤)، لكنه يستمر أيضاً في خدمته التوسطيَّة ككاهن أعلى (إذ يقول النص “لَنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ” ولا يقول “كان لنا رئيس كهنة” [عبرانيين ٤: ١٤، ١٦؛ ٨: ١؛ ١٠: ٢١]، وهو “لَهُ كَهَنُوتٌ لاَ يَزُولُ” [عبرانيين ٧: ٢٤؛ انظر ٥: ٦؛ ٦: ٢٠؛ ٧: ٧، ١٧، ٢٥، ٢٨]).
ويرى توماس تورانس أن الكنيسة الأولى بدأت، كرد فعل للآريوسية (التي أكّدت على ناسوت المسيح لكنها أنكرت لاهوته) تؤكّد لاهوت المسيح وتقلل من/ أو تتجاهل عملياً، ناسوته.[2] ويعزو تورانس إلى هذا المنحى عند آباء الكنيسة وفي العصور الوسيطة ظهور كل من التركيز المبالغ فيه على فريضة الافخاريستيَّا – الذي كان بمعنى ما إيجاد بديل في تركيز الناس وعبادتهم للمسيح الحي نفسه – وظهور الصلاة لمريم والقدّيسين (حيث إنه في الإنكار العملي لوسيط بشري فعلاً في المسيح، اضطر المسيحيون إلى البحث عن آخرين يقومون بدور الوسيط بين المتعبد والمسيح! وتطوّر أيضاً كهنوت بشري كامل يقود العبادة ليحل محل المسيح في ذلك الدور).[3]
وما زلنا لا نعطي إلاّ اهتماماً قليلاً لناسوت المسيح والدور الذي يلعبه هذا الناسوت في عبادتنا. فنحن نرفع تسبيحنا إلى الآب والابن والروح القدس، كما ينبغي لنا فعلاً. فترانيمنا وابتهالات عبادتنا تُرفع بشكل رئيسي إلى الآب والابن كما يتوقع الروح القدس، وهو يمكّننا من عمل ذلك في دوره الذي يخفي بموجبه نفسه. لكن هل نفهم حقاً أن يسوع المسيح في حالته الممجدة مستمر في كونه الإنسان الكامل، وهو بهذا يجسّد كل ما خُلق الإنسان لكي يكونه؟ وبما أنه من الواضح أن الله خلق الإنسان بشكل رئيسي ليكون عابداً له (رومية ١: ١٢)، وبما أن الآب يطلب متعبدين بين البشر (يوحنا ٤: ٢٣)، فإنه ينبغي أن يكون واضحاً أن الله يجد في يسوع المسيح بصفته الإنسان الكامل المتعبد الحقيقي أيضاً. فهو الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يقترب إلى الله باستحقاقه الشخصي، بقلب وضمير نقيين تماماً (مزمور ١٥: ١-٢)، ويقدّم تسبيحاً جديراً بالله.
لا ندرك في الغالب أن يسوع المسيح يلعب دوراً توسُّطياً جوهرياً في اجتماعات عبادتنا، دوراً نشطاً، لا مجرد دور موضوع العبادة أو متلقّيها. فكما لاحظ جيمس تورانس،[4] فإننا ندرك جيداً أن المسيح من خلال الروح القدس يتوسط إعلان الحق الإلهي لنا من خلال قراءة الكلمة والوعظ وأشكال المناداة الأخرى بالحق الإلهي. فللابن دور توسُّطي في توصيل الحق من الآب. لكن جيمس تورانس يوضح أيضاً كم نحن مهملون للجزء الآخر من المعادلة التوسُّطية في العبادة، ألا وهي أن المسيح، بصفته الإنسان، والعابد الكامل، هو قناة أو تجسيد عبادتنا استجابةً للحق الإلهي. فتصبح عبادة المسيح الكاملة، وتقديمه الدائم لنفسه للآب في تمجيد وتواصُل وشركة أساس تعابيرنا في التسبيح والعبادة.[5] فنحن مقبولون “فِي الْمَحْبُوبِ” (أفسس ١: ٦). وبنفس الطريقة، فإن قرابين عبادتنا تُقبل في القربان الكامل للمحبوب.[6]
يحرّك ويفعّل الروح القدس مشاركتنا في العبادة الكاملة التي يقدّمها المسيح. “في الروح القدس تشترك صلاتنا وعبادتنا بطرق تتجاوز فهمنا في صلاة وعبادة المسيح الممجَّد”.[7] يمكّننا الروح القدس من الدخول إلى قدس الأقداس عبر حجاب جسد المسيح، ويوصلنا بالمسيح وهو يسكن في حضرة الله المباشرة في شركة متواصلة”.[8] والعكس بالعكس أيضاً، فإن “حضور روحه فينا يعني أن صدى صلاة المسيح وعبادته للآب يتردَّد فينا وينبع من حياتنا إلى الآب كصلاة وعبادة خاصتين منّا”.[9]
وفي ضوء هذه الحقائق، فإن من الخطأ الجسيم أن نتبع الأسلوب الانتعاشي في اجتماع العبادة حيث تُعتبر العظة السبب أو المبرّر الوحيد لكل الاجتماع، بينما لا تشكّل الأجزاء الأخرى المكوِّنة للاجتماع إلاّ قنوات أو وسائل للتحضير للحدث الرئيسي، وهو حدث عظة المناداة ببشارة الخلاص.[10] وفي واقع الأمر، فإن المناداة العلنية ببشارة الإنجيل وتفسير كلمة الله جزء لا يتجزأ من العبادة الجماعية (مع أن هذا، كما يوضح وايت، ليس عذراً لاختفاء القراءة من الكتاب المقدس في معظم الاجتماعات الحرة للكنائس.[11] والوعظ سياق رئيسي يتوسط (يوصل) فيه المسيح حق الآب المعلن إلى الإنسان. لكن إذا أهملنا أهمية الاستجابة الجماعية أو قلّلنا منها (في الترنيم والصلاة والقراءة والتأمل، إلخ)، فإننا لا نسلب شعب الله وسيلة ضرورية وملائمة لكي يعيدوا لله تأمُّلهم الممتن لمجده الذي استوعبوه في كلمته فحسب، لكننا في واقع الأمر نخاطر أيضاً بالتدخل في جانب جوهري من جوانب العمل التوسُّطي ليسوع المسيح! وليس معنى هذا أنه بمقدورنا أن نعوق بأية طريقة تواصُل الابن الكامل مع الآب، لكن يمكننا أن نقف في طريق التعبير الكامل من ذلك التواصُل في العبادة الجماعية. والحقيقة الرائعة هي أنه حين يوحّد شعب الله قلوبهم وأصواتهم في هتافات تسبيح وشكر مشتركة، فإنهم يعبّرون فعلاً عن بشريتهم المفدية بمعناها الأكثر أصليّةً ونقاءً – فعندئذ نصبح أقرب شيء إلى شَبه المسيح ونحن نحاكي توجُّهه الدائم نحو الآب. لكن ما هو أكثر من ذلك هو أن عبادتنا في المسيح ترتدي برّه (على الرغم من أنها قد تكون معيبة وناقصة في طبيعتها) فتصبح بهذا ذبيحة مقبولة للرب إلهنا (رومية ١٢: ١).
ينبغي أن نتذكر أن التأكيد في العهد الجديد هو على العبادة اللامركزية التي تتخلل الحياة (رومية ١٢: ١؛ يوحنا ٤: ٢١-٢٤؛ ١ كورنثوس ١٠: ٣١)، وهي تعكس واقع مسيرة المسيح الأرضية ووجوده السماوي المستمر. فقد كان (وما يزال) العابد الحقيقي الذي طلبه الآب (يوحنا ٤: ٢٣). وقد فعل (وهو يفعل) كل شيء لمجد الله.
وهكذا يقف المسيح، قائد عبادتنا (كما يشير إليه جيمس تورانس)، أمامنا ونحن نرفع تسبيحنا إلى الآب. ويسمح لنا في واقع الأمر من خلال الروح القدس أن نشارك في تواصل المسيح المستمر مع الآب وهذا صحيح ليس فقط لأن يسوع اشترى بذبيحته الكاملة فداءنا بدمه، بل أيضاً لأنه حي يشفع فينا في كل حين (عبرانيين ٧: ٢٥). ولأنه بصفته الإنسان الكامل، يمثّلنا في عبادة مستمرة أمام عرش الله. ويحدث نوع من الإحالة أو “الاستحالة البروتستانتية” عندما يأخذ المسيح التعابير الضعيفة لعبادتنا ويحوّلها ويضعها ضمن ذبيحة تسبيحه الكاملة للآب. فالمسيح هو العابد الكامل، وفيه نحصد فوائد وبركات الانضمام إليه في عبادة كاملة، لأننا نكون لابسين المسيح وفي عبادته الكاملة.
يضيف هذا معنى جديداً لفكرة “الصلاة باسم المسيح” أو “الصلاة من خلال المسيح”، عندما نفهم أن عبادتنا وصلاتنا تُجعل جزءاً من صلاته وعبادته. والصلاة باسمه هي مجرد إقرار لهذه الحقيقة – أنه “مقدِّم كل عبادتنا لله”.[12] و “تتم عبادتنا لله من خلال يسوع نفسه بصفته عابداً لله، وعابداً مكاننا. وما لم نبقِ هذا الأمر مركزياً في أهميته، فإنه يمكن بكل سهولة أن تنحط لغتنا الطقسية التي نقول من خلالها “بيسوع المسيح ربنا” أو حتى “بيسوع المسيح وسيطنا ورئيس كهنتنا” إلى مجرد صيغة نربط بها عبادتنا الموجَّهة من الذات دون التوسُّط الفعلي للمسيح في ناسوته البديلي.[13]
“وفي ضوء هذه الحقائق يمكننا أن نفهم بالفعل الصلاة الرّبانية التي تبدأ بالقول “أبانا”، وهي التي صلاّها بصفته واحداً منّا والتي يضعها الآن في أفواهنا لكي نصلّي معه إلى أبيه وأبينا وإلهه وإلهنا.”[14]
“ولهذا فإن عبادتنا لله فعلاً تعني أن نصلّي مع المسيح الذي يصلّي معنا ومن أجلنا، وتعني العبادة معه أن نقدّم عبادته، عبادة حياته التي قدّمها بدلاً منّا ومن أجلنا، والتي نشارك فيها باستمرار مع المسيح في الروح الواحد.”[15]
تطبيقات للعبادة:
توجد ثلاث تطبيقات هائلة على الأقل يمكن استخلاصها من هذا المنظور “الجديد” حول ما يحدث فعلاً في اجتماعات عبادتنا.
سبق أن ناقشنا التطبيق الأول: لا يسعنا أن نبخس أو نهمل أو نقلل من أهمية تلك الأجزاء من العبادة التي يقوم فيها يسوع بالفعل بتوسُّط استجاباتنا التعبديَّة للآب ويجعلها جزءاً من استجابته. وهذا جزء جوهري من عمل المسيح التوسُّطي المستمر. ويتمجّد الآب بالتواصُل الحي لابنه معه في تعبيره عن تسبيح المؤمنين بنفس الدرجة التي يتمجد بها بعمل الابن في توسُّطه (توصيله) لحق الآب إلى الإنسان. فليست المسألة أبداً مسألة رفع دور الإنسان على دور الله، لأنه في المسيح وحده تصبح استجابة الإنسان سليمة ومقدّسة ومقبولة. “يتوسط يسوع كلمة الله للإنسان وكلمة الإنسان لله، ويقدّم محبة الله التي لا تقاس للإنسان وتجاوُب الإنسان بالمحبة لله”.[16] لكن كل هذا ينبع بطبيعة الحال من الآب، ويتوسط المسيح كل هذا بشكل كامل، وهكذا يتمجّد الله في كل الأشياء وعبرها كلها.
أمّا التطبيق الثاني فهو أنه ليس ضرورياً أن تكون عبادتنا كاملة.[17] لا يوجد أي شيء في نوعية تقديمنا للعبادة أو تميُّزها مما يجعلها أكثر قبولاً لدى الله. وبطبيعة الحال فإن لموقف المرء القلبي أهمية عظيمة لله، ولا شك أن القلب العابد المخلص يجتهد في أن يقدّم أفضل ما لديه كوسيلة لتمجيد إله الجمال. لكن في نهاية المطاف تصبح عبادتنا مقبولة لله لأن المسيح يرفعها للآب كجزء من عبادته للآب.
“تتم عبادتنا لله من خلال يسوع نفسه كعابد لله، وكعابد مكاننا”.[18] ولهذا يمكننا أن نقترب إلى الله بثقة (عبرانيين ١٠: ١٩-٢٢)، لا بسبب الاختيار الرائع للموسيقى أو لمزيج الأساليب أو نوع الأداء، ولا لأننا ندّعي أننا نأتي ونحن خالون من دوافع أو أفكار غير نقية – لكن لأننا في المسيح، الذي يقف من أجلنا. “ومن خلال المسيح، ومع المسيح، وفي المسيح نبتعد في إنكار للذات متصف بالندم عن أعمال عبادتنا وصلاتنا لكي نطمئن في العبادة والصلاة اللتين قدّمهما المخلّص بالفعل ويستمر في تقديمها إلى الآب نيابةً عنّا. ونحن نأتي إلى الله بأيدٍ فارغة نفتحها لكي ننال ما يضعه فيها، ولهذا نقترب لكي نعبد الله دون أي قربان غير قربان المسيح نفسه”.[19] وكما يقول كاتب الترانيم ويليام: “نحن لا نعطيك إلاّ ما هو لك” وكل ما علينا أن نعطيه لله في عبادتنا هو ما سبق أن أعطاه لنا بالفعل في نعمته؛ وقد أعطانا قبل كل شيء وفوق كل شيء ما هو له بشكل واضح وجلي، ألا وهو المسيح نفسه.
والفكرة هنا هي أن نوعية عبادتنا (مهما كانت تعني) لا تُطْرينا أمام الله أكثر مما تُطْرينا أمامه نوعية فدائنا. ونشكر الله أننا لا نقف على أساس الأداء في ناحية ما أكثر من ناحية أخرى! لكن ما هو مقبول وكامل هو برّ المسيح وعبادة المسيح. “أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ؟” (غلاطية ٣: ٣). وما أسهل أن ننزلق إلى نهج آريوسي في العبادة،[20] وننسى أن الله يجب أن يكون متداخلاً في الأمر إذا أردنا أن نقدّم أي شيء على الإطلاق يمجّده. وبنفس الطريقة يتوجب علينا أن نحذر من الرغبة العمياء في التفوُّق أو التميز كغاية في حد ذاتها من أجل “الذوق الجيد”.[21]
إن ما يجعل ذبائح تسبيحنا تقدمات جديرة ومقبولة هو تفوُّق أو تميّز المسيح لا تفوُّق أو تميُّز عبادتنا نحن!
والتطبيق الثالث هو أنه لا يوجد أسلوب صحيح أو شكل صحيح دون غيره في العبادة. فقد اتخذ يسوع المسيح، قائد عبادتنا، أشكالاً لا حصر لها من العبادة عبر العصور وفي جميع أنحاء العالم وجعلها له. وقد سُرّ بأن يدعو أشخاصاً من “كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ” (رؤيا ٥: ٩) إخوة له (عبرانيين ٢: ١١)، واستخدم بالتالي تعابير تسبيحهم في تواصُله المستمر والأبدي مع الآب. وهكذا فإن ذلك التواصل، ودور المسيح التوسُّطي في جذب المؤمنين الحقيقيين إلى الانضمام إليه في تلك العلاقة مع الآب من ثوابت العبادة أو “المبدأ التنظيمي” الصحيح، إذا صحّ هذا التعبير. “فالعبادة والصلاة هما بشكل رئيسي شكلان من العبادة والصلاة البديليَّة التي يقدّمها المسيح نيابة عن كل الجنس البشري في كل العصور”.[22] ولأن كل عبادة حقيقية هي في حقيقة الأمر عبادة المسيح ويقدّمها المسيح الذي “هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ”، (عبرانيين ١٣: ٨)، فإن جوهر العبادة لا يتغيّر أبداً.
قد تكون الأشكال والموسيقى والصلوات طويلة أو قصيرة، معقّدة، تقليدية أو ممتزجة، لكت ما دامت تقدَّم بإخلاص، فإنه يوجد مجال للحرية، (لكن بعيداً عن الأشكال أو الأساليب الآثمة الصريحة) فيما يتعلق بأية مواد يمكن لقائد العبادة أن يُدخل في عمل عبادته التوسُّطي. وموسيقانا وتقدماتنا الأخرى، مثلها في ذلك مثل الأرغفة والسمكتين، عناصر أساسية يمكن أن يختارها السيد لكي يضاعفها من أجل خدمة مقاصده. وهو يستطيع أن يحوّل كل أنواع المواد الخام إلى رائحة زكية مُسِرّة للآب.
وهكذا لا يجب أن تكون الرسالة أبداً في ثقافتنا، وفي كل ميدان إرسالية في كل حقبة زمنية، دعوة إلى الانضمام إلى مجموعة معينة، أو إلى ارتداء ملابس بطريقة ما، أو إلى ترنيم مجموعة محددة من الترانيم – لكن يجب أن تكون على الدوام دعوة إلى الاتكال على يسوع المسيح وعلى عبادة الآب بالروح والحق من خلاله. وهنالك أمور كثيرة ذاتية (غير موضوعية) وثقافية (خاصة بثقافة أو حضارة معينة) فيما يتعلق بممارسة العبادة الجماعية في أي عصر أو مكان.[23] لكن دور المسيح بصفته وسيط وقائد عبادتنا لا يتغير أبداً. “عندما تتجذّر عبادتنا وصلاتنا بشكل موضوعي في المسيح بهذه الطريقة، فإننا نكون أحراراً في أن نستخدم ونكيّف أشكالاً عابرة من اللغة والثقافة في عبادتنا لله. وتتشكل عبادتنا وصلاتنا وتركَّب أخيراً حسب نمط الوظيفة غير المتغيرة لعمل المسيح التوسُّطي”.[24] ويتألف هذا النمط من توسُّط المسيح للحق الإلهي (أي توصيله) إلى العابدين، بالإضافة إلى توسُّطه لاستجابتهم له وتجاوبهم مع الآب”.[25]
كانت أعظم مجاملة أو مديح قيل لي كقائد عبادة (ومن المؤسف أن هذا حدث مرة أو مرتين فقط) هو أنه بدا أنني أختفي، ولم يرَ الآخرون إلاّ يسوع. لا أدري إن كان هذا صحيحاً! لكن هذا بمعنى ما هو الواقع دائماً، فيسوع المسيح ليس حاضراً في عبادتنا فحسب، لكنه يقود عبادتنا ويفترض أن تحوّل هذه الحقيقة الطريقة التي ننظر بها إلى العبادة، وإلى قيادتنا للعبادة، وإلى إعدادنا للعبادة، وإلى تقديرنا للعبادة، فيسوع المسيح هو عبادتنا، وهو قائدنا، وهو موضوعنا، وهو قوّتنا، وهو نقطة تركيزنا. “ليست العبادة والصلاة طرقاً نعبّر بها عن أنفسنا، لكنها طرق نضع فيها أمام الآب ابنه المحبوب، ونحن نجد ملجأنا في ذبيحته الكفّارية، ونجعل من هذا التماسنا (أو دفاعنا) الوحيد”.[26] “ربما يمكننا الآن أن نرى المزيد من أعماق عبارة بولس المألوفة في غلاطية ٢: ٢٠ بصفتها تنطبق على كل من حياتنا الجديدة في المسيح من خلال يسوع، وعلى حياتنا الجديدة من العبادة والصلاة له.” [27]
“مَع الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي”.[28]
“فَلْنُقَدِّمْ بِهِ (من خلاله) بِه فِي كُلِّ حِينٍ للهِ ذَبِيحَةَ التَّسْبِيحِ” (عبرانيين ١٣: ١٥).
[1] كان بمقدور المسيح حتى بعد قيامته أن يتكلم على هذا النحو في توحُّد مستمر مع إخوته (انظر عبرانيين ٢: ١١). يقول في يوحنا ٢٠: ١٧: “أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ”.
[2] “مالت الأريوسية إلى إقحام تفسير خاطئ هرطوفي على مفهوم توسُّط المسيح. وهو مفهوم صارت الكنيسة حساسة ضدّه بحيث صار هنالك رد فعل واسع ضدّه. وكانت نتيجة ذلك هو أنه تمّ دفع الكهنوت للمسيح وتوسُّطه البشريين إلى خلفية العبادة أكثر فأكثر”.
Thomas F. Torrance, Theology in Reconciliation (Grand Rapid: Wm. B. Eerdmans Publ. Co., 1975), pp. 198-99.
وهو يستقي بعض أفكاره من
Joseph Jungmann, The Place of Christ in Liturgical Prayer.
[3] Torrance, Theology in Reconciliation, pp. 142, 202-204.
[4] James A. Torrance, Worship, Community and the Triune God of Grace (Downers Grove IL: InterVarsity Press, 1996), pp. 88-89.
[5] المرجع السابق، الصفحات 15، 17، 20-21، 43-67.
[6] قد تشير تسمية يسوع في عبرانيين 3: 1على أنه “رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ” إلى خدمة المسيح التوسُّطية ذات الاتجاهين: من الله للإنسان، ومن الإنسان لله، على التوالي.
Torrance, Theology in Reconciliation, p. 210.
وتعطينا عبرانيين 2: 12 صورة أوضح لخدمة المسيح التوسطية الثنائية في العبادة:
“أُخَبِّرُ بِاسْمِكَ إِخْوَتِي [الله إلى الإنسان]
وَفِي وَسَطِ الْكَنِيسَةِ أُسَبِّحُكَ” [الإنسان إلى الله]
[7] Torrance, Theology in Reconciliation, p. 184.
[8] المرجع السابق، الصفحة 140.
[9] المرجع السابق، الصفحة 209.
[10] برز هذا الميل في واقع الأمر من مصدرين على الأقل. تطوّر أحدهما، كما يوضح وايت، من الانتعاش الذي حدث في القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة، من الصيغة التي استُخدمت بنجاح في اجتماعات المخيمات والتجمعات الكرازية الأخرى، حيث كان المتكلم بالفعل نقطة الجذب الرئيسية، وكان كل ما يجري قبل ذلك مقصوداً بوعي أن يكون بغرض “تحمية” الجمهور. وقد انتقل هذا النهج (بشكل واعٍ وغير واعٍ في أماكن مختلفة، كما يبدو) كما هو تقريباً إلى اجتماعات العبادة إلى ما يسمّيه وايت التقليد “الحدودي” للبروتستانتية الأمريكية، حيث ما زال حيّاً ونشطاً في كنائس كثيرة!
(James F. White, “The Missing Jewel of the Evangelical Church” in Christian Worship in Northern America, A Retrospective: 1955-95 [Collegeville MN: The Liturgical Process, 1997], pp. 103-8).
أمّا الميل الآخر فيأتي من اتجاه مختلف تماماً، ألا وهو التقليد المُصلَح الذي أكسب شرح الأسفار المقدسة توكيداً وكرامة جديرين، لكن هذا كان يتم أحياناً إلى حد “إهمال بقية خدمة العبادة (أحياناً بشكل انتقاصي، حيث كانت تسمّى أموراً تمهيدية) وفترات ما بعد القراءة”.
(Steven Faris, “Reformed Identity and Reformed Worship,” Reformed World 43: 1 &2 [Mar & June 1993], p. 71).
ويوضح هيجمان أن زوينجلي منع كل موسيقى في العبادة، ولولا أن كالفن رسّخ مسألة ترنيم المزامير، لربما لم تكن لدى الكنائس المُصلحة موسيقى حتى الآن! ويقدّم هيجمان تفسيراً معقولاً لاستخدامه: “ما هو المكان الملائم للموسيقى في خدمة عبادة كنيسة مُصلَحَة؟ تهدف هذه الموسيقى إلى إتاحة فرصة مناسبة للرعية للتجاوب مع كلمة الله”.
(Howard Hageman, “Can Church Music Be Reformed?” The Reformed Review 14: 2 [Dec. 1960] pp. 19-20, 23-24).
[11] The Missing Jewel,” pp. 108-9, John D. Witvliet, “At Play in the House of the Lord, “Books and Culture Nov/Dec 1998, p. 25.
لا تحل العظة بأي شكل من الأشكال محل قراءة كلمة الله من أجل ذاتها. وإنها لمفارقة مدهشة نراها حين تنتقل من قداس يوم أحد لكنيسة كاثوليكية غربية مع ثلاثة دروس كاملة من كلمة الله بالإضافة إلى مزمور ما يسمَّى اجتماع الخدمة “الإنجيلي” الذي لا يتضمّن إلاّ قراء آيات محدودة كجزء من نص عظة. وهذا الاستخدام لكلمة الله ’عندما يكون هذا الأمر ملائماً‘ في معظم الاجتماعات الإنجيلية لا يختلف كثيراً عن الاستخدام المشابه لكلمة الله في كثير من الكنائس البروتستانتية المتحررة”.
(James F. White, “The Missing Jewel,” p. 108).
[12] هكذا يترجم الكلمة اليونانية الواردة في عبرانيين 8: 2.
James Torrance, Worship, Community and the Triune God of Grace, pp. 16, 63.
[13] Torrance, Theology in Reconciliation, p. 184.
[14] المرجع السابق، الصفحة 211.
[15] المرجع السابق، الصفحة 208.
[16] المرجع السابق، الصفحة 209.
[17] المرجع السابق، الصفحة 210.
[18] ما أسهل أن يقع الموسيقيون المدرَّبون تدريباً محترفاً في هذا الفخ، خاصّة أولئك الذين درسوا في معاهد غير دينية، حيث يكون تفوُّق الأداء أو تميُّزه هو عادة الهدف النهائي.
[19] Torrance, Theology in Reconciliation, p. 211.
[20] المرجع السابق، الصفحة 212.
[21] Torrance, Worship, Community and the Triune God of Grace, p. 20.
(وهو يشير هنا إلى مثل هذه العبادة بصفتها “موحِّدة”). وهو يذكر في مواضع أخرى أن عبادتنا يمكن أن تكون “بيلاجيوسية أكثر بكثير من أي شيء في روما، بتوكيداتها الشاملة على ما نحن نفعله“.
(“Covenant or Contract? A Study of the Theological Background of Worship in Seventeenth-Century Scotland, “Scottish Journal of Theology 23 [1970]: 75).
[22] لا يجب أن يؤخذ هذا الأمر كحجة ضد الموسيقى الجيدة في العبادة أو التخطيط الجيد ذي الهدف للعبادة. لكن من السهل جداً أن تأخذ هذه الأمور حياة خاصة بها، ولهذا يجب علينا أن نتيقظ دائماً إلى أن وسائل العبادة تبقى وسائل وليست غاية في حد ذاتها. انظر كتابي بعنوان
“Excellence of Worship: A Means Rather than an End” (www.firstevan. org/music_for_worship).
[23] Torrance, Theology in Reconciliation, p. 213.
[24] تناول كالفن نفسه هذه المسألة: “لم يشأ السيّد أن يصف بالتفصيل ما يتوجب علينا أن نفعله في أشكال العبادة الخارجية والطقسية (لأنه سبق أن عرف أن هذا يعتمد على حالة كل عصر، فلم يحسب شكلاً واحداً من العبادة ملائماً لكل العصور) … ولأنه لم يعلِّم شيئاً محدّداً حول هذا الأمر، ولأن هذه الأمور ليست ضرورية للخلاص، ولأنه ينبغي من أجل بنيان الكنيسة أن تفسح المجال لأعراف كل أمّة وكل عصر، فإنه سيكون من اللائق (حسب ما تتطلبه مصلحة الكنيسة، وهذه ميزة) أن نغيّر ونبطل ممارسات تقليدية لنضع مكانها ممارسات جديدة. غير أني أقر بأنه لا يجب علينا أن نندفع نحو التجديد في هذه الممارسات بتهور وبشكل مفاجئ دون سبب كافٍ. لكن المحبة هي التي ستحكم على أفضل وجه ما يمكن أن يؤذي أو يبني. وإذا سمحنا للمحبة بأن تكون هي مرشداً لنا، فسيسير كل شيء بأمان.”
(John Calvin, Institutes of the Christian Religion [Philadelphia: Westminster Press, 1960], 4: 10: 36 (p. 12.8).
[25] Torrance, Theology in Reconciliation, p. 213.
[26] يشار أحياناً إلى هذين الجانبين من الجوانب الديناميكية أو الحيوية للعبادة بصفتها إعلاناً واستجابة. انظر
Gary Furr and Wilburn Price, The Dialogue of Worship: Creating Space for Revelation and Response (Macon GA: Smyth & Helwys, 1998).
[27] Thomas F. Torrance, The Mediation of Christ (Grand Rapids: Erdmann’s Publ. Co., 1983), pp. 97-98.
[28] Torrance, Theology in Reconciliation, p. 141.