كانت كلمات المسيح الأخيرة لتلاميذه بمثابة إعلان تأسيسيّ لهوُيّة الكنيسة ورسالتها في العالم: «فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ…» الإرساليَّة الكبرى لم تكن خيارًا ثانويًا، بل التّعبير الأسمى عن سلطان المسيح القائم وحضوره الفعّال وسط شعبه. من هذ الأمر وُلدت الكنيسة كمجتمع مُرسَل، يحمل في ذاته نَفَس المسيح المصلوب والقائم، ليكون نورًا في وسط الظلمة وملحًا في أرض فاسدة. غير أنّ التاريخ يُظهر لنا كيف تحوّل هذا النَّفَس الإرساليّ إلى جهاز سُلطويّ، وكيف تراجعت الكنيسة عن جوهر دعوتها عندما استبدلت سلطان المسيح بسلطان البَشَر.
الدَّعوة الإرساليَّة: أربع ركائز تأسيسيَّة
يمكننا أن نلخّص دعوة المسيح للكنيسة في نص متَّى 28: 18- 20 في أربع ركائز أساسيّة:
- سُلطان المسيح: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ،» فالمسيح هو الرَّأس الحقيقيّ للكنيسة، وسلطانه هو مصدر قوتها.
- الإرساليَّة إلى العالم: »فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ»؛ فالكنيسة ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لامتداد الملكوت.
- التَّعليم بالحقّ: «وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ»؛ فالحياة المسيحيَّة ليست عاطفة فقط، بل معرفة وسلوك في الحق.
- مركزيَّة المسيح: «وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ…»؛ فالإرساليَّة لا تقوم على القدرات البشريَّة، بل على حضور المسيح الفعّال بروحه في كنيسته.
ظهرت هذه الرَّكائز بجلاء في الكنيسة الأولى في سفر الأعمال، ويمكننا أن نراها في:
- سُلطان المسيح: في بداية سفر الأعمال، نرى أنّ كلّ حركة الكنيسة تنبع من إعلان المسيح «لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ…» (أعمال 1: 8) لم تبدأ الكنيسة بمجلس أو بنظام، بل بسلطان المسيح القائم من الأموات. لقد أعلن بطرس يوم الخمسين أن الله جعل يسوع «ربًا ومسيحًا» (أع 2: 36). هذا يعني أنَّ المسيح هو الرّأس الحقيقي للكنيسة، لا الرّسل أنفسهم. وحينما حاول المجمع اليهوديّ إسكات الرسل، أجاب بطرس ويوحنا: « يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ.» (أعمال 5: 29)، معلنين عمليًا أنَّ المسيح هو رأس الكنيسة وصاحب السلطان الأوحد. إذن، ظهرت الركيزة الأولى عندما قبلت الكنيسة أنَّ المسيح هو الملك الحاضر في وسطها، ولم تعتمد على قوة بشريَّة أو سلطة مدنيَّة، بل على سلطان الرّوح القدس الممنوح من المسيح.
لم يكن الإصلاح في جوهره سوى عودة إلى هذا الإقرار الرَّسوليّ المبكِّر: المسيح وحده هو السُّلطان الأعلى في الكنيسة وفي الإرساليَّة.
- الإرساليَّة إلى العالم: الركيزة الثانية في دعوة المسيح هي أنَّ الكنيسة ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لامتداد ملكوته في العالم. وهذا ما جسّده سفر الأعمال منذ البداية: «..وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ.» (أعمال 1: 8) لم تمكث الكنيسة الأولى في أورشليم، بل تحركت بالإرساليَّة نحو الأمم. فبعد اضطهاد استفانوس، «فَالَّذِينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبَشِّرِينَ بِالْكَلِمَةِ.» (أعمال ٨: ٤). ثم دعا الروح القدس برنابا وشاول للخروج من أنطاكية في أول رحلة تبشيريَّة أمميَّة (أعمال ١٣ :٢–٣). هكذا نرى أنَّ الكنيسة الأولى عاشت روح الإرساليَّة الجامعة، فكانت في حالة خروج دائم نحو العالم، لا انغلاق على الذَّات.
الإرسالية لم تكن مشروعًا طارئًا، بل هُوية الكنيسة نفسها، تمامًا كما قصدها المسيح.
- التَّعليم بالحقّ: قال المسيح: «وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ»، فكان التَّعليم أحد أعمدة الكنيسة الأولى. في أعمال ٢: ٤٢ نقرأ: «وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ…» هذه العبارة ليست وصفًا تنظيميًا، بل تعريفًا لهُويَّة الكنيسة: جماعة تتلمذ للحقّ المعلن في الكلمة. لم تكن الكنيسة تبشّر فقط، بل كانت تُعمّق المؤمنين في معرفة المسيح. لذلك أقام بولس في كورنثوس سنة ونصف «يُعَلِّمُ بَيْنَهُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ» (أعمال ١٨: ١١)، وقال في خطابه للشيوخ: «لأَنِّي لَمْ أُؤَخِّرْ أَنْ أُخْبِرَكُمْ بِكُلِّ مَشُورَةِ اللهِ.» (أعمال ٢٠: ٢٧). إذن، التَّعليم بالحقّ كان هو قلب التَّلمذة الرَّسوليّة، وهو ما جعل الكنيسة الأولى قويَّة في الفكر والإيمان، لا تابعة لأمزجة أو خُرافات.
التَّعليم في سفر الأعمال لم يكن جدلًا لاهوتيًا، بل حياةً مُشكَّلة بالحقّ.
- مركزيَّة المسيح: تُختتم المأموريّة العظمى بوعد المسيح: «وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ…»؛ هذه المركزيّة لم تكن رمزية، بل تحقّقت في حلول الروح القدس. كل خطوة في سفر الأعمال كانت تحت قيادة الروح:
- امتلأ المؤمنون بالروح القدس فتكلّموا بكلام الله بمجاهرة (أعمال ٤: ٣١).
- كانت الكنائس تنمو في خوف الرب وتعزّية الروح القدس (أعمال ٩: ٣١).
- دعا الروح برنابا وشاول للخروج في الخدمة (أعمال ١٣ :٢).
- منع الروح بولس من الذهاب إلى آسيا وأرسله إلى مكدونية (أعمال ١٦: ٦–١٠).
إذن، مركزيّة المسيح في الكنيسة الأولى كانت حقيقيّة من خلال الروح القدس الذي يقودها ويجددها باستمرار. الكنيسة ليست مؤسسة جامدة، بل كيان حيّ تسكنه وتوجهه روح المسيح الحيّ.
الكنيسة التي تفقد صوت الروح، تفقد قدرتها على الإصلاح.
هذه الرَّكائز الأربع هي هُويَّة الكنيسة في جوهرها، ولكنها بدأت تضعف شيئًا فشيئًا حينما تزاوجت الكنيسة مع السُّلطة الزَّمنيَّة بعد القرن الرَّابع الميلاديّ. وعندما حلّت العصور الوسطى، كانت الكنيسة الغربية قد تحوّلت من جسد حي إلى مؤسسة هرميَّة، من مرسَلة إلى حاكمة، ومن شاهدة للمسيح إلى شاهدة لنفسها.
انحراف كنيسة العصور الوسطى
حين فقدت الكنيسة سلطان المسيح الشَّخصيّ، بدأت تُقيم سلطتها على أساس آخر: سلطان الكهنوت، والتَّقليد، والبابويَّة. لم تعدّ الإرساليَّة حركة نحو الخارج، بل صارت مركزيَّة خاضعة لسلطة روما. التَّعليم الذي كان مرتبطًا بالإنجيل استُبدل بعقائد معقّدة وطقوس جامدة. وحضور المسيح الذي كان يُختبر بالإيمان والرُّوح، أُفرغ في طقوس الأسرار التي احتكرها الكهنة. وهكذا، انحرفت الكنيسة عن دعوة المسيح في كل ركيزة من ركائزها الأربع.
لكنَّ الله في أمانته لم يترك نفسه بلا شاهدٍ. ففي قلب الظُلمة، أقام الله مُصلحين مهّدوا الطّريق قبل أن يُعلن لوثر صرخته في فيتنبرج. هؤلاء الرَّجال لم يكونوا ثوَّارًا ضدّ الكنيسة بقدر ما كانوا شهودًا للإنجيل وسط انحرافها. لقد سعوا لاسترداد كل ركيزة من الدَّعوة الإرساليَّة التي شوّهها النِّظام الكنسيّ.
تعال لنرى معًا كيف حاول أربعة رجال قبل لوثر استرداد إرساليَّة الكنيسة.
چون ويكليف: محاولة استرداد سلطان المسيح في كلمته

يُعد ويكليف (1330–1384) من أبرز من رفعوا لواء سلطان المسيح ضدّ سلطان المؤسسة. كان أستاذًا في جامعة أكسفورد، رأى أنَّ الكنيسة فقدت روح الإنجيل حينما جعلت الخلاص مرتبطًا بالطّاعة للبابا. آمن ويكليف أنَّ الكتاب المقدّس هو السُّلطة العليا الوحيدة للإيمان والحياة، وأنَّه يجب أن يكون متاحًا لكل المؤمنين بلغتهم. قال في إحدى عظاته: «حينما يُنزع الكتاب من الشَّعب، يُنزع المسيح نفسه من قلوبهم.» [1]بدأ ويكليف مشروع ترجمة الكتاب المقدس إلى الإنجليزية، وعارض فكرة الكنيسة كوسيط للخلاص، مؤكدًا أنَّ المسيح وحده هو الرَّأس. بهذا المعنى، كان ويكليف يسترد ركيزة أولى من الدَّعوة الإرساليَّة، هي: سلطان المسيح المطلق على كنيسته. لقد حرّر الإيمان من قبضة الكهنة وأعاد التَّبعيّة للمسيح وحده.
مات ويكليف بالسَّكتة الدِّماغيَّة سنة 1384 وأُدين بعد موته بالهرطقة وحُرقت كل كتبه، وبعد 44 سنة من موته، حُوكم مرّة أخرى ونُبِش قبره وطُحنت رُفاته بأمر البابا مارتن الخامس.
چان هَس: محاولة استرداد مركزيَّة المسيح في طاعة الكلمة

بعد ويكليف بنصف قرن، ظهر في بوهيميا چان هَس (1372–1415)، الذي تأثّر بكتابات ويكليف وعدّه «نبيًّا سبق زمانه».[2] دعا هَس إلى تجديد الكنيسة عبر طاعة كلمة الله لا أوامر البشر، وانتقد الفساد الكهنوتيّ وبيع صكوك الغفران. في عظاته في براج، كان يكرز بأنّ الكنيسة الحقيقيّة هي جماعة المؤمنين الذين يتبعون المسيح لا الذين يخضعون للبابا. قال: «الطّاعة للمسيح أولى من الطاعة لبشر يجلس على عرش روما.»[3] حاولت الكنيسة إسكات صوته، لكن ناره اشتعلت في قلوب الشَّعب. وعندما أُدين بالحرق في مجمع كونستانس عام 1415، قال كلمته الشهيرة :«اليوم تشوون أوزة، ولكن بعد مئة عام ستقوم بجعة لا تقدرون عليها.» في إشارة نبويَّة إلى لوثر، إذ إنَّ كلمة “هَس” تعني “أوزة”. كان هَس يسترد ركيزة ثانية من الدعوة الإرسالية، هي: مركزيَّة المسيح في طاعة الكلمة فقط، رافضًا أن تكون الكنيسة سلطة متسلطة، بل جماعة من التلاميذ السائرين خلف الراعي الصالح.
جيرولامو سافونارولا: محاولة استرداد ثمار التَّعليم الحقّ

في فلورنسا القرن الخامس عشر، ظهر الراهب الدومينيكاني جيرولامو سافونارولا (1452–1498)، الذي رأى أنّ الكنيسة لم تعد نورًا للعالم، بل شريكًا في ظلامه. وقف سافونارولا على منبر كاتدرائيّة القديس مرقس يصرخ: «توبي يا فلورنسا! لقد صار بيت الله مغارة لصوص!»[4] كانت رسالته أخلاقيّة ونبويّة؛ دعا الشّعب والحكام إلى التّوبة، وهاجم الانحلال والفساد حتى في أعلى المراتب الكنسيَّة. لم يكن سافونارولا مُصلحًا عقديًّا كالذين جاءوا بعده، لكنه أعاد للكنيسة وعيها الإرساليّ تجاه المجتمع: أن تشهد للنور وسط الظلمة، لا أن تتعايش معها. وهكذا أعاد ركيزة ثالثة من الدعوة،هي: التعليم العملي بالحق وتطبيقه في الحياة العامَّة.
لكن الكنيسة التي فقدت روح التَّوبة لم تحتمل صراحته، فحُكم عليه بالإعدام شنقًا وحرقًا عام 1498. ومع موته، بدا وكأن الإصلاح قد أُخمد، غير أنّ بذوره كانت تنبت تحت الرماد.
الوالدانيون: محاولة استرداد الإرساليَّة والغرض

أما الوالدانيون، الذين ظهروا في أواخر القرن الثاني عشر بقيادة پيتر والدو من ليون، فكانوا أشبه بجماعة تلمذة إنجيليَّة سابقة لكل هذه الحركات. آمنوا بأنّ كل مؤمن مدعو للكرازة بالإنجيل، وأنّ كهنوت جميع المؤمنين لا يمكن مصادرته لحساب فئة. عاشوا فقراء كرسل المسيح، متنقلين من مدينة إلى أخرى حاملين كلمة الله باللّغات العاميّة، في وقت كان يُعدّ فيه ذلك جريمة.
اتهمتهم الكنيسة بالهرطقة وطاردتهم قرونًا، لكنهم جسّدوا ركيزة رابعة من الدَّعوة، هي: الإرساليَّة للعالم. كانوا شهودًا على أنّ حضور الرَّب لا يُقاس بالمباني ولا المراتب، بل بالإيمان العامل بالمحبة. كتب أحد مؤرخيهم: «كنا نختبئ في الجبال، ولكن المسيح كان بيننا كالنور في الظلمة.» [5]
وهكذا نرى كيف حاول هؤلاء المصلحون الأربعة قبل لوثر أن يستعيدوا الدعوة الإرساليَّة في أركانها الأربع: سلطان المسيح، تلمذة الكلمة، التعليم بالحق، وحضور المسيح الحي. ربما لم ينجحوا في إصلاح الكنيسة، ولم يروا ثمار كفاحهم، لكنهم حافظوا على شعلة الإنجيل مُتّقدة في العصور المظلمة، ومهّدوا الطريق لصرخة الإصلاح اللوثريّ التي ستُدوّي بعد ذلك بسنوات قليلة.
الإصلاح منهج يسوع نفسه
حين نتأمل في حياة الرب يسوع المسيح، ندرك أنَّ الإصلاح لم يكن حركة طارئة في التاريخ، بل هو قلب رسالة المسيح نفسه. فالمسيح لم يأتِ ليُنشئ ديانة جديدة، بل ليسترد العلاقة بين الله والإنسان. كان يقف وسط تقاليد متكلّسة وعبادات فارغة، فيقول بثقة إلهية: «سمعتم أنه قيل… أما أنا فأقول لكم.» هذا الإعلان لم يكن رفضًا للناموس، بل استردادًا لجوهره. في كل مرة واجه فيها يسوع رياء الفريسيين أو انحراف الهيكل، كان يمارس الإصلاح بمعناه العميق: إعادة الأمور إلى قصد الله الأول.
إصلاح يسوع لم يكن صدامًا سياسيًا، بل تجديدًا روحيًا. لم يهاجم السلطة من أجل سلطة أخرى، بل أرسى مبدأً: أنَّ سلطان الله يُمارس في المحبة والخدمة، لا في السيطرة والقهر. حين غسل أرجل تلاميذه، وضع معيار القيادة الحقيقيّة في كنيسته. هذه هي روح الإصلاح التي التقطها المصلحون اللّاحقون، إذ فهموا أنَّ العودة إلى المسيح هي الإصلاح، وأنَّ تجديد الكنيسة يبدأ دائمًا من عند الصَّليب لا من القصور البابويَّة. لذلك كان لوثر، بعد قرن من حريق هَس، يرفع شعار «الكتاب وحده، المسيح وحده، النّعمة وحدها» وكأنه يترجم نداء يسوع في الإرساليَّة الكبرى: سلطان المسيح، كلمة المسيح، مركزيَّة المسيح.
الكنيسة المُصلَحة اليوم
لكن يا للعجب! بعد خمسة قرون من الإصلاح، تبدو الكنيسة المصلحة في كثير من بقاع الأرض وكأنها تحتاج إلى إصلاح جديد! فالخطر الذي واجهه ويكليف وهَس وسافونارولا والوالدانيون لم يختفِ، بل عاد في ثوب جديد. حين تضع الكنيسة ثقتها في برامجها ومؤسساتها بدلًا من سلطان الكلمة، تكون قد عادت إلى روح القرون الوسطى ولو حملت لافتة “مُصْلَحة“. وحين تفقد الكنيسة غيرتها الإرساليَّة تجاه العالم، وتتقوقع في خطاب داخليّ، تكون قد نسيت “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم“.
اليوم، تواجه الكنائس المصلحة تحدّي الفتور الروحي والليبرالية اللاهوتية. لقد تحوّل التعليم في بعض الأماكن إلى جدال أكاديمي بلا نار إنجيلية، والعبادة إلى طقس مكرر بلا روح. يذكّرنا هذا بما حدث في كنيسة العصور الوسطى حين أصبحت المؤسسات أهم من الإرساليَّة. لذلك نحن في حاجة إلى أن نسمع مجددًا صوت يسوع القائم: «ها أنا معكم كل الأيام…» -أي أنَّ حضوره هو حياة الكنيسة، وغيابه يجعلها جثة جميلة بلا روح، أو متحفًا على أفضل تقدير.
الإصلاح ليس حدثًا تاريخيًا نحتفل به، بل حالة دائمة من العودة اليومية إلى المسيح. الإصلاح المستمر يعني أن تبقى الكنيسة خاضعة لكلمة الله، متجددة بالروح، مكرّسة للإرسالية، وحاملة همّ الخطأة. لقد نادى كالفن نفسه، بعد لوثر، بأن الكنيسة «تُصلَح دائمًا.»[6] أي إنّ الإصلاح لا يُغلق بابه ما دامت الكنيسة في العالم.[7]
وهنا يأتي النداء الأخير، لا إلى التاريخ، بل إلى القلب. فالمصلحون الذين سبقوا لوثر لم يطلبوا مجدًا لأنفسهم، بل رجعوا بالأنظار إلى الرَّأس —إلى المسيح نفسه. واليوم، إذا أردنا أن نكون كنيسة مصلحة حقًا، فعلينا أن نعود إلى تلك الركائز الأربع التي نادى بها الإنجيل: سُلطان المسيح؛ الإرساليَّة إلى العالم؛ التَّعليم بالحقّ؛ ومركزيَّة المسيح.
يا كنيسة المسيح في هذا الجيل، لستِ مدعوّة لأن تُقلّدي الإصلاح، بل لأن تعيشيه من جديد. فالمسيح الذي دعا التلاميذ على الجبل ما زال يقول: “اذهبوا…”؛ دعوته لم تُسحب، وسلطانه لم يُنتزع، وحضوره لم يغِب. فلنقم إذن من رماد التقليد، ولنسترد دعوتنا الإرسالية الأولى. الإصلاح لا يبدأ من قاعات المؤتمرات، من القلب المنكسر أمام الكلمة، من الكنيسة التي تبكي على ضياع رسالتها وتعود لتخدم بفرح الرب. يا رب، أصلحنا، وابدأ بنا من جديد!
[1] John Wycliffe, On the Truth of Holy Scripture, trans. Ian Christopher Levy (Cambridge: Cambridge University Press, 2001), 57.
[2] Thomas A. Fudge, Jan Hus: Religious Reform and Social Revolution in Bohemia (London: I.B. Tauris, 2010), 114.
[3] Matthew Spinka, The Letters of John Hus (Manchester: Manchester University Press, 1972), 233.
[4] Lauro Martines, Fire in the City: Savonarola and the Struggle for the Soul of Renaissance Florence (Oxford: Oxford University Press, 2006), 89.
[5] Gabriel Audisio, The Waldensian Dissent: Persecution and Survival, c.1170–c.1570 (Cambridge: Cambridge University Press, 1999), 42.
[6] John Calvin, Institutes of the Christian Religion, ed. John T. McNeill, trans. Ford Lewis Battles (Philadelphia: Westminster Press, 1960), 6.
[7] See also: Heiko Oberman, The Dawn of the Reformation (Edinburgh: T&T Clark, 1986); Alister E. McGrath, Reformation Thought: An Introduction, 4th ed. (Oxford: Wiley-Blackwell, 2012).

