اعتادت الكنيسة منذ قرون على تذكر مجيء المسيح الثاني في ارتباط وثيق الصلة مع مجيئه الأول للفداء وتأسيس الملكوت. فلا عجب إذًا أن نتطلع كمؤمنين في نهاية كل عام إلى نهاية زمان غربتنا في هذا العالم. بل أن جل ما ننتظره ليس مجرد انتهاء عالم الآلام والأحزان فقط، لكن الأعظم –بما لا يقاس– هو رؤية العريس الملك وهو يصطحب كنيسته لتكون معه في المجد. وما بين المجيئين يعمل فينا الابن جماعة وأفراد لنرفع أصواتنا طالبين سرعة مجيء الرب والمخلص:
وَٱلرُّوحُ وَٱلْعَرُوسُ يَقُولاَنِ: «تَعَالَ». وَمَنْ يَسْمَعْ فَلْيَقُلْ: «تَعَالَ». (رؤيا ١٧:٢٢)
في هذا المقال، نتذكر مثلًا من أمثال السيد المسيح يذخر بالحقائق المُعزية عن عودة الملك لعروسه، وهو مثل العذارى.
مثلًا عن الملكوت والعُرس
في مستهل كلمات الرب في مثل العذارى، تسطع أمام عيوننا حقيقة كون يسوع المسيح ملكًا تنتظره عروسه ليأخذها معه إلى بيته–أي بيت الزوجيّة. فالربط الذي أوضحه الرب بين اكتمال الملكوت في المجيء الثاني والعُرس لا يخطئه قارئ فطن:
حِينَئِذٍ يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ عَشْرَ عَذَارَى، أَخَذْنَ مَصَابِيحَهُنَّ وَخَرَجْنَ لِلِقَاءِ ٱلْعَرِيسِ. (متى ١:٢٥)
لكن المفارقة أن المثل يسلط الضوء على العذارى (إشبينات العروس في وقتنا الحالي) التي جرت العادة آنذاك أن ينتظرن العريس بمصابيح تضوي في ظلام الليل. وتُردد هذه الآية الأولى صدى جواب الرب يسوع نفسه في متى ١٤:٩-١٥، عن سبب عدم صوم تلاميذه كعادة تلاميذ يوحنا والفريسيين:
هَلْ يَسْتَطِيعُ بَنُو ٱلْعُرْسِ أَنْ يَنُوحُوا مَا دَامَ ٱلْعَرِيسُ مَعَهُمْ؟ وَلَكِنْ سَتَأْتِي أَيَّامٌ حِينَ يُرْفَعُ ٱلْعَرِيسُ عَنْهُمْ، فَحِينَئِذٍ يَصُومُونَ.
كان جواب الرب يسوع على سؤال الصوم هو أنه قد أتى ليصنع خلاصًا لشعبه. خلاصًا فيه يتعامل مع علة الحزن، والتي يترجمها الصوم بشكل ملموس على مستوى النفس والجسد. فمن خلال الصوم، يُعلِن الإنسان عن اشتياقه للفداء. أما وإن كنا نصوم بعد مجيء المسيح يسوع وإكماله الفداء بدمه، فإن اشتياقنا الآن هو اشتياق الرسول بولس لينطلق ويكون مع المسيح، لقاء لا يحجبه ضعف الجسد ولا محدوديته، ذلك الأفضل جدًا (فيلبي ٢٣:١).
ملاحظة تفسيرية: عمن يتحدث المثل؟
لننتبه إلى أن تركيز المثل على العذارى (الإشبينات) هدفه هو تسليط الضوء على فكرة الترقب والاستعداد للاحتفاء بالعريس من جانب كنيسته. لكنه أبدًا لا يعني أننا لسنا عروسه. فلا ينبغي التعامل مع أمثال الرب يسوع تحديدًا بهذه الحرفية المُبالَغ فيها. فلكل مثل زاوية رؤية محددة. فمثلاً، تشبيه الرسول بولس نفسه كمن يخطب كنيسة كورنثوس للمسيح (من خلال التبشير) لا ينفي كونه أيضًا ضمن جسد المسيح وعروسه (راجع كورنثوس الثانية ٢:١١). لا يزال المثل يدور حول الكيفية التي يجب أن نستعد بها نحن، عروس المسيح، لمقابلته.
من تمثل العذارى؟
وبناء على الملاحظة السابقة. فإن العذارى يمثلن الكنيسة المنظورة والمدعوة للنور والذي يمثل الشهادة للمسيح باعتبارهم تلاميذ يشهدون لشخص وعمل المسيح الملك العريس في الإنجيل. بوضوح، لا يتحدث المثل عمن هم خارج الحياة الكنسية (راجع متى ١٣:٥-١٦).
الجاهلات يمثلن شكل الشهادة دون جوهرها الحقيقي. فرغم تشابهم شكلًا مع الحكيمات من حيث كونهم يحملون مصابيحًا، إلا أنها بلا زيت، بلا قوة روحية على الشهادة!
وبالطبع فالحكيمات هم من اجتمع في شهادتهم الإيمان المُخلص مع كلمة الشهادة.
وَفِيمَا أَبْطَأَ ٱلْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ (آية ٥)
يأتي المثل ضمن مجموعة أمثال تركز على كيفية انتظار ابن الإنسان (هنا كالعريس والملك)، مفترضة جميعًا حقيقة بطء مجيئه من وجهة نظر منتظريه. إذ أن مواقيت الله، كلي الحكمة، محددة لا تبطئ أو تتعجل. لكن النوم لا يحمل أي مضمون سلبي. إذ أن الرب نفسه وصف الحكيمات مع الجاهلات كالنائمات. مرة أخرى نتعلم أنه لا ضرورة لإيجاد معنى مقابل لكل تفاصيل المثل، فسياق الانتظار الطويل في الليل يتضمن النوم كجزء من نمط الحياة الطبيعية للبشر، لا أكثر ولا أقل. يزداد وضوح هذه الفكرة في الآيات التالية: “فَفِي نِصْفِ ٱللَّيْلِ صَارَ صُرَاخٌ: هُوَذَا ٱلْعَرِيسُ مُقْبِلٌ، فَـٱخْرُجْنَ لِلِقَائِهِ! فَقَامَتْ جَمِيعُ أُولَئِكَ ٱلْعَذَارَى وَأَصْلَحْنَ مَصَابِيحَهُنَّ.” فكما نمن جميعًا، اشتركن في فعل القيام، بل وإصلاح المصابيح!
جَاءَ ٱلْعَرِيسُ، وَٱلْمُسْتَعِدَّاتُ دَخَلْنَ مَعَهُ إِلَى ٱلْعُرْس، وَأُغْلِقَ ٱلْبَابُ. (آية ١٠)
مهد صوت الصراخ لمجيء العريس، لكن الأمر اللافت هو إصلاحهم للمصابيح التي بلا زيت! أي عقل هذا؟
والإجابة بسيطة ومرعبة في نفس الوقت: الحماقة أعيت من يداويها. ولحياة الخطية والجهالة قدرة خارقة على خداع الخاطئ نفسه، ولا يكشف عُمق هذا الخداع إلا الرب نفسه:
الْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْئٍ وَهُوَ نَجِيسٌ، مَنْ يَعْرِفُهُ؟ أَنَا ٱلرَّبُّ فَاحِصُ ٱلْقَلْبِ مُخْتَبِرُ ٱلْكُلَى لأُعْطِيَ كُلَّ وَٱحِدٍ حَسَبَ طُرُقِهِ، حَسَبَ ثَمَرِ أَعْمَالِهِ. (إرميا٩:١٧-١٠)
قد يعتقد الإنسان في ذاته القدرة على تبصر حالة قلبه الحقيقية، وكيف أن بإمكانه إصلاح داخله وقت الحاجة ليتسق داخله مع شكل حياته التي يعرفها الجميع عنه. لكنه بذلك يعقد صفقة مع شيطانه الداخلي: قلبه النجيس! وإذ يستمر الإنسان في نمط حياة كهذا، يخدعه قلبه الذي لا يكشفه إلا الرب بروحه. لكن للأسف، قد يحدث هذا بعد فوات الأوان؛ بعد أن يُغلق الباب.
يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ، ٱفْتَحْ لَنَا! فَأَجَابَ وَقَال: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ. (آية ١١)
مفتاح فهم مغزى هذه الآية يكمن في تذكر الكيفية التي استخدم بها متى البشير هذه الصياغة من قبل في إنجيله، هل تذكر ذلك عزيزي القارئ؟ يبدو لي أنها تردد صدى كلمات الرب نفسه في نهاية الموعظة على الجبل، والتي شرح فيها الرب دستور حياة التلميذ الحقيقي في تناقض مع التلميذ الُمزيف:
لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ. بَلِ ٱلَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ ٱلْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِـٱسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِـٱسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِـٱسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي ٱلْإِثْمِ!” (متى٢١:٧-٢٣).
كلمة ختامية
فَـٱسْهَرُوا إِذاً لأَنـَّكُمْ لاَ تَعْرِفُونَ ٱلْيَوْمَ وَلاَ ٱلسَّاعَةَ ٱلَّتِي يَأْتِي فِيهَا ٱبْنُ ٱلْإِنـْسَانِ.
كلمة الرب لنا في هذا المثل، نتذكرها في نهاية عام يذكرنا بنهاية كل شيء في مجيء ابن الإنسان، هي بوضوح: اسهروا. إنها ساعة لنستيقظ. ساعة لتُحضر خفايا القلب وأفكاره لمن وحده يستطيع أن يكشفها بنوره، بل يخلق قلبًا جديدًا يحيا ويقاد بروحه. ساعة لتسقط كل أقنعة، ولينفضح كل اكتفاء زائف بكل الحياة الشاهدة لنطلب من الله حياة التلمذة والشهادة للنور بقلب وجوهر ينعكس في سلوك حقيقي. آمين!