يُدلي المؤمنون بأغرب التصريحات على الإطلاق حين يعزُّون او يواسون متألمين اخرين. تخيّل لو ان لديك دقائق معدودة ثمينة مع شخص تنهار حياته، او فقد ابنته او ولده او شريك حياته، او فقد وظيفته، منزله، او فقد الهدف من الحياة، ماذا يمكنك أن تقول له؟ وما هي التعزية او المواساة التي يمكنك أن تقدِّمها له؟
ربما نلجأ في هذه الحالة إلى الحكمة الطبيعية وليس إلى الكتاب المقدس، فينتهي بنا الحال بقول شيء من قبيل: “لا تقلق، لم يكن هذا ليحدث في حياتك لو لم يرَ الله أنك تستطيع أن تحتمله”. قد يعترض المتألم، ويهزُّ رأسه ويرفع يديه، لكنك تصر قائلًا: “حقًا يَعِد الكتاب المقدس بأن الله لن يعطيك حياةً فوق ما تستطيع ان تحتمل”. هذه حكمة طبيعية متخفية في هيئة حق كتابي, لأنك وعدتَ بما لا يَعِد به الكتاب المقدس على الإطلاق.
التجارب في مقابل الضيقات:
في الأصحاح العاشر من رسالة كورنثوس الأولى، كتب الرسول بولس: “لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلَّا بَشَرِيَّةٌ. وَلَكِنَّ ٱللهَ أَمِينٌ، ٱلَّذِي لَا يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ ٱلتَّجْرِبَةِ أَيْضًا ٱلْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا”. كان كلام بولس محدَّدًا، فقد كان يتحدث عن “التجربة” (temptation)، أي الفخ الذي يصارع ويجتهد محاولًا جرفنا إلى الخطية. فقد حذَّر الله قايين من الخطية، مستخدمًا صورة بلاغية لحيوان مفترس، قائلًا: “عِنْدَ ٱلْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ، وَإِلَيْكَ ٱشْتِيَاقُهَا وَأَنْتَ تَسُودُ عَلَيْهَا” (تكوين ٤: ٧). إن الخطية تلاحقنا، لكنَّ الله أمينٌ. تشتهي الخطية أن تهزمنا، لكن هناك مَنفَذٌ. فإن الخطية تنصب الفخ، لكن بالنسبة للمؤمن، نشكر الله، الخطية ليست بالأمر الذي لا يُقاوم.
لكن إن قام البعض بتطبيق كلمات بولس عن التجربة على الآلام العامة، حينئذ سندرك المصدر الذي تأتي منه جملة “لن يعطيك الله البتة فوق ما تستطيع أن تحتمل”. لستُ أشكِّك في إخلاص أو حسن نية مَن يستخدمون هذه العبارة، لكن الإخلاص غير كافٍ. فحتى أصدقاء أيوب كانوا حسني النية.
خطأن مزدوجان:
هناك خطأن على الأقل يكمُنان في الفكرة غير الكتابية القائلة “لن يعطيك الله البتة فوق ما تستطيع أن تحتمل”. أولًا، تلعَب هذه الفكرة على منظور المجتمع بشأن الإنصاف والعدل. ثانيًا، توجِّه المتألم إلى داخله، وليس إلى الله.
١- الضيقات … هل هي منصفة؟
إن أعطيتَ أبناءك بعض الصناديق كي يحملوها إلى السيارة، فإنك حتمًا ستقدِّر بصريًّا وبحسب الوزن ما يناسب أعمارهم وقدراتهم. فإنك لن تحمِّلهم ثقلًا زائدًا عن الحد، ثم تراقبهم وهم يسقطون أرضًا والأشياء تتناثر في كلِّ مكان. لن يكون هذا منصفًا لهم. فإن مقولة: “لن يعطيك الله البتة فوق ما تستطيع أن تحتمل” تلعَب على وتر الإنصاف الذي ينال إعجابنا غريزيًّا. فهناك ما يرضينا في فكرة توازُن القياسات، وفي تقييم الله لما نستطيع أن نحتمل، وسماحه بالضيقات بموجب هذا.
لكن هناك مشكلة واضحة جدًا في هذا “الإنصاف” تحيط بهذه الحكمة الطبيعية: كان الله بالفعل غير منصف، لأنه لم يتعامل معنا بحسب ما تستحقه خطايانا. فقد كان طويل الأناة، ومتمهلًا، ومترائفًا، وكثير المحبة. فإن الشمس تشرق والأمطار تسقط حتى على الظالمين (متى ٥: ٤٥). يسمو الله إذن فوق تعريفات الإنصاف والظلم للدرجة التي بها نصير في وضع لا يسمح لنا بتقييم أفعاله أو فحص مشيئته. فإن طرقه ليست خاضعة لمقياس مجتمعنا عن الإنصاف.
٢- القوة … في الداخل؟
لا يسألك الألم هل أنت مستعدٌّ أم لا. ربما يأتي ببطء أو في عنف وشدة، لكنه لا يطلب الإذن، ولا يكترث بالوقت المناسب. لا يوجد وقت مناسب كي تتحطَّم فيه حياتك. لكن تُخبِرني مقولة “لن يعطيك الله البتة فوق ما تستطيع أن تحتمل” بأن لدي أنا ما يستلزمه الأمر، وبأنني قادر على تحمُّل كل ما يقف في طريقي، وبأن الله يسمح بالضيقات فقط بحسب قدرتي أنا على الاحتمال. فكِّر فيما تتسبب فيه هذه الحكمة الطبيعية: إنها توجه البشر إلى داخلهم.
إلا أن الكتاب المقدس يوجهنا نحو الله. كما يقول كاتب المزمور: “ٱللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ. عَوْنًا فِي ٱلضِّيْقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا. لِذَلِكَ لَا نَخْشَى وَلَوْ تَزَحْزَحَتِ ٱلْأَرْضُ، وَلَوِ ٱنْقَلَبَتِ ٱلْجِبَالُ إِلَى قَلْبِ ٱلْبِحَارِ. تَعِجُّ وَتَجِيشُ مِيَاهُهَا. تَتَزَعْزَعُ ٱلْجِبَالُ بِطُمُوِّهَا” (مزمور ٤٦: ١-٣). حين تخور قوانا تحت أثقال ساحقة، لا يكمُن الحل في داخلنا. بل يعطي الله المعيي قدرة، ولعديم القوة يكثِّر شدة (إشعياء ٤٠: ٢٩). فإن القوة تأتي منه إلى منتظريه.
إلى أين توجِّهنا الضيقات؟
تأتي الضيقات في كلِّ صورة وحجم، لكنها لا تأتي لكي تظهر لنا المقدار الذي يمكننا تحمله، أو كيف يمكننا التحكُّم في الوضع جيدًا. فإن الآلام الغامرة تعترض طريقنا لأننا نعيش في عالم محطم وبشر خطاة. وحين يأتي الألم، ليتنا نكون واضحين تمامًا مع أنفسنا مقدَّمًا؛ فإننا لا نملك ما يستلزمه الأمر. سيعطينا الله فوق ما نستطيع أن نحتمل — لكن ليس فوق ما يستطيع هو.
سأل كاتب المزمور: “مِنْ حَيْثُ يَأْتِي عَوْنِي! [من أين يأتي عوني؟]” (مزمور ١٢١: ١)، ولا بد أن نتمكن من الإجابة كما أجاب هو. علينا أن نَعلَم ونؤمن، في أعمق أعماقنا، بأن “مَعُونَتِي مِنْ عِنْدِ ٱلرَّبِّ، صَانِعِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضِ” (١٢١: ٢). حين تأتي الضيقات، ثق أن معونة الرب ستأتي. هذا الخبر نافع ويفيد المتألمين، وبذلك نقول شيئًا صحيحًا عن الله، وليس زائفًا عن أنفسنا.
تحدَّث بولس عن وقتٍ فيه أعطاه الله فوق ما يستطيع أن يحتمل. ففي رسالته إلى أهل كورنثوس، كتب: “فَإِنَّنَا لَا نُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا ٱلْإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ ضِيقَتِنَا ٱلَّتِي أَصَابَتْنَا فِي أَسِيَّا، أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدًّا فَوْقَ ٱلطَّاقَةِ، حَتَّى أَيِسْنَا مِنَ ٱلْحَيَاةِ أَيْضًا” (٢ كورنثوس ١: ٨). فقد اجتاز بولس ورفقاؤه في ظروف فاقت قدرتهم على التحمُّل: “لَكِنْ كَانَ لَنَا فِي أَنْفُسِنَا حُكْمُ ٱلْمَوْتِ” (١: ٩).
ثم يقدم لنا بولس فهمًا محوريًّا عن يأسه هذا. لماذا تثقَّل هو ورفقاؤه فوق طاقة احتمالهم؟ “لِكَيْ لَا نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا بَلْ عَلَى ٱللهِ ٱلَّذِي يُقِيمُ ٱلْأَمْوَاتَ” (٢ كورنثوس ١: ٩). سيعطيك الله فوق ما تستطيع أن تحتمل حتى تُستعلَن شدة قوته في حياتك. وفي الحقيقة، إن ثقل مجد أعظم عتيدٌ أن يأتي: “لِأَنَّ خِفَّةَ ضِيقَتِنَا ٱلْوَقْتِيَّةَ تُنْشِئُ لَنَا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ ثِقَلَ مَجْدٍ أَبَدِيًّا” (٢ كورنثوس ٤: ١٧).
ربما لا تعتبر اليوم الآلام الغامرة “خفيفة” و”وقتية”، لكن فكِّر في ضيقاتك من جهة مليارات الأعوام من الآن. ففي وسط المحنة، أحيانًا ما يكون أصعب شيء تتعلق به هو رؤية أبدية. لا يحاول بولس التقليص من حجم محنتك، بل يحاول التوسيع من نظرتك للأمور.
إن الألم لا يكتب كلمة النهاية في سيناريو الحياة. ففي هذه الحياة، سيعطيك الله فوق ما تستطيع أن تحتمل، لكن ثقل المجد الآتي-(الأبدي) سيفوق تصوُّرك.