الله الذي لا يشيخ: إعادة اكتشاف الإصلاح الإنجيلي

عنف في الشوارع، محلات مغلقة، مظاهرات تملأ الميادين، وجموع تهتف باسم الحرية كما لو كانت كائنًا أسطوريًا سيهبط من السماء ليغيّر وجه الأرض. لم تكن تلك لقطات من فيلمٍ تاريخي، بل مشاهد واقعية على أرض القاهرة عام 1952. وفي صباحٍ رماديٍّ من يوليو، أعلن الضباط الأحرار قيام الجمهورية، فابتسمت مصر لأول مرة، ثم اكتشفت بعد حينٍ أن الابتسامة يمكن أن تكون أيضًا قناعًا! لقد تذوّقت مِصر طعم الجمهورية، وها هو الطعم ما زال في فمها حتى اليوم، لا تدري أهو حلاوة التحرير أم مرارة الخداع.

لكن في القرن السادس عشر، قامت ثورة أخرى، لا في الشوارع، بل في القلوب. لم تكن ثورةً على الساسة، بل على الملوك الذين جلسوا على عروش الذات. لم يُشعل أصحابها نارًا في القصور، بل في الضمائر. لم يرفعوا السيوف، بل أقلام الحبر. لم يكونوا ثائرين بالمعنى السياسي للكلمة، بل مُصلحين بالمعنى الأبدي لها. وهذا أصعب بكثير.

تحريك المياه الراكدة

صرخ عصر النهضة قائلاً: “العودة إلى الينابيع!”، وكان يقصد أن يعود إلى نهرٍ وثنيٍّ قديم اسمه الفلسفة اليونانية. كانت تلك الصرخة أشبه بعودة الابن الضال إلى بيت أبيه ليكتشف أن البيت أصبح معبدًا لأبولّو. أراد المفكرون أن يهربوا من جفاف الحاضر، فوقعوا في صحراء الماضي، وبدل أن يشربوا من ماء الحياة، ارتشفوا من ماء الحنين. أو لعلها لم يكن هناك ماء، فقط آبار مشققة.

أما المصلحون، فكانوا يعرفون أن العودة إلى الينابيع لا تعني عبادة الماضي، بل اكتشاف الحاضر من جديد. لم يكن هدفهم أن يُبدّلوا الماء، بل أن يُزيلوا الطحالب. كانت عودتهم إلى الكتاب المقدس وحده، لا باعتباره تمثالًا مقدسًا على رفٍّ ذهبيٍّ لا يُمسّ، بل باعتباره نهرًا حيًّا يجري تحت أقدام كل عطشان. فعادوا إلى ينابيع الماضي، ليحركوا المياه الراكدة في الحاضر.

رفع لوثر الغطاء عن الكتاب، فزلزل الرفّ الذي كان عليه، لا ليسقط الكتاب، بل ليسقط تاج البشر الذي جلس فوقه. لقد جعلوا الكتاب يلبس التاج، وجعلوا الله وحده يتكلّم. كانوا مثل الأطباء الذين اكتشفوا أن علاج الوباء ليس اختراع دواء جديد، بل الرجوع إلى الطبيعة القديمة التي خلقها الله.

ويبدو أن العناية الإلهية كانت تُهيّئ مسرح التاريخ بعنايةٍ غامضة. فحين نهض المصلحون ليعيدوا الكتاب إلى المنبر، كان الله يرسل في الوقت ذاته من يعيد المنبر إلى العالم. خرج لوثر بلهيب الإصلاح فأنار الكتاب، وجاء جوتنبرج بآلة الطباعة فحرّر الكتاب، ثم أبحر كولمبوس إلى عالمٍ جديد فمهّد أرضًا تُزرع فيها الكلمة. وكأن العناية أرادت أن تُخرج الكلمة من قبو الكنائس إلى محيطات الأرض، ليصبح الكتاب المقدس منبرًا للإنسانية كلها، لا للكنيسة وحدها.

معادلة معكوسة

كانت الكنيسة آنذاك قد أفسدت البوصلة، فصار المجد يتوزّع بين الكهنة والمؤسسات والعادات. صار الكلّ يغنّي لله، لكن بنغمةٍ تُعيد الصدى إلى نفسه. حتى جاء الإصلاح ليعيد الجملة إلى أصلها: “الكتاب: ليُعلن الله، لا الإنسان”. “النعمة: لتُظهر الله، لا الاستحقاق”. “الإيمان: ليرفع العين إلى الله، لا إلى الأعمال”. “المسيح وحده: ليكون هو المجد، لا من يمثّله”. وكل هذا يصبّ لمجد الله وحده، وليس للكنيسة.

لم يكن الإصلاح مشروعًا لتمجيد البشر، بل لطمس أسمائهم في نور الله. لم يكن تمجيدًا للوثر، بل تلاشيًا له في مجد المسيح. لم يكن حركة ضد الكنيسة، بل ضد عبادة الكنيسة لنفسها. قال أحد المخرجين الحاصلين على الأوسكار ذات يوم: “أفلامي صنعتني إلهًا صغيرًا في عيون الناس.” لكنه مات وحيدًا، لأن المجد البشري يلمع للحظة ثم يطفئ صاحبه. إن مجد الإنسان يشبه مصباحًا كهربائيًا مدهشًا، لكنه يحترق إن لم يتصل بالمصدر. لقد رحل الإله الصغير، فيبدو أن مجد الإنسان مهما لمع، لا يدفئ القلوب. لقد فهم المصلحون أن كل انحرافٍ في التاريخ يبدأ بسرقة مجد الله. وكل إصلاحٍ حقيقي يبدأ بإعادته إليه.

منذ أن انفجر فجرُ الإصلاح، وظلالُ المعارضة تُلقي غيمتها حول النور، ظلّ التاريخ يسمع الإعلان ذاته: المعارضة كانت – ولا تزال – من فئتين، قدامى وحداثيين. ولعله السبب في اختيارهم شعار القدامى “بعد الظلام نورPost tenbras lux” لم يتوقفوا عن محاولة إسقاط صوت الإصلاح، غير أن المعادلة جاءت معكوسة؛ فكلما اشتد الهجوم، ازدادت الحجة قوة، وتكاثرت القلوب التي تغيّرت. فالحق لا يُختبَر بالعواطف، بل يُثبَت بالبراهين.

  أما الحداثيون، فكانوا من البيت نفسه – من داخل الكنيسة الإنجيلية. لم يحاولوا إلغاء الإصلاح، بل طمسه، لا بالمطرقة، بل بالمساحيق. رفعوا شعار مركزية الإنسان، فصار الله هامشًا في هوامشهم. أرادوا أن يُدهشوا العالم، فاندَهشوا بأنفسهم، حتى لم يبقَ منهم سوى الدهشة ذاتها. وأما المعارضون الأوائل، فما زالوا حتى اليوم يتحدثون عما سمعوه عن الإصلاح، لا عما قرأوه عن المصلحين – خصوصًا الآباء الذين ظنّوا أن صوتهم صمت، بينما لا يزال يهمس في كل قلب عطشان للحق.

 المصلحون آبائيون

الفئة المعارضة الأولى، التي أصدرت الحكم على المصلحين، كشفت أن الأدلة لم تكن ناقصة، بل ملفَّقة. زعمت أنهم كانوا منشقين عن آباء الكنيسة، وكأنهم أبناء عاقّون تبرّأوا من عائلتهم. بينما الحقيقة أن المصلحين لم يغادروا البيت أصلًا، بل نظفوا غباره وفتحوا نوافذه ليدخل النور من جديد. في كتابات لوثر وكالفن وأتباعهم، تتدفق اقتباسات الآباء كينابيع في الصحراء، من أغسطينوس إلى فم الذهب، ومن أثناسيوس إلى الكبادوكيين. لم يكن الإصلاح ضدّ الآباء، بل ضدّ تحنيطهم. لقد أحبّ المصلحون آباء الكنيسة لأنهم أحبّوا ما أحبّه الآباء: الإنجيل نفسه.

لم يكن الإصلاح ثورةً على التراث، بل تجديدًا للدم القديم في العروق القديمة. لم يرفض الطقس، بل حمله على كتفيه كحملٍ مقدّس، ليعيد إليه نبضه الأول. لم يكن يحتوي على ليتروجيا فحسب، بل كان هو نفسه ليتورجيا حقيقية؛ تنبع من القلب لا من الشفتين، عبادةً لا يُعبد فيها الله كوسيلةٍ للوصول، بل كثمرةٍ للوصول ذاته، لأن الوصول إليه كان مستحيلًا، إلى أن وصله هو إلى البشر. لم يكن المصلح ثائرًا على صورة الجد، بل أشبه برجلٍ وجدها مطموسة بالغبار، فمسحها لا ليُضيف ملامح جديدة، بل ليكشف الملامح الأصلية التي لم تعد تُرى. وحين اكتملت الملامح، بدا كأن الجد العتيق قد ابتسم من جديد، لا لأن الزمن عاد إلى الوراء، بل لأن الروح نفسها عادت إلى البيت.

  إصلاح الإصلاح.. إثبات!

نأتي الآن إلى الفئة المعارضة الثانية، والأكثر إرباكًا. اليوم، بعد خمسة قرون من الإصلاح، يخرج بعض “المفكرين الجدد” ليقولوا بلهجة من يكتشف الشمس: “نحن نريد إصلاح الإصلاح.” لكن نفي النفي – كما يقول المنطق – هو إثبات. فإذا أصلح المصلحون الخط المنحرف، فإن “مُصلحي الإصلاح” لا يفعلون إلا أن يعوّجوه من جديد. كما لو أن الطبيب الذي شفى المريض أصبح هو نفسه المرض الذي يحتاج إلى شفاء، أو لعله يحتاج إلى طبيب جديد يؤكد أن الطب كله كان مجرد مزحة نبيلة في فهم الألم.

  لقد صارت الموضة لا تكتفي بالملابس، بل صارت تخيط الأذهان أيضًا، ممتدة إلى الأفكار. وكل فكرةٍ، شأنها شأن أي سلعة، يجب أن تمرَّ على جهاز الإنذار قبل دخولها. فإذا صفّر الإنذار، فهي على الأقل مثيرة للريبة، وهذا حسن. لكننا بدلًا من أن نُبقي الجهاز، قرّرنا تغييره. لم نلغِ الفلتر، بل استبدلناه بفلاتر كثيرة، واحدة لكل ذوقٍ ومزاج، وواحدة لكل نوعٍ من الضمير. حتى صار الحق نفسه يُقاس بالذوق لا بالمصدر. وتحت شعارات ناعمة، ومُستحكة المسامع مثل “اقبل الآخر” و”لا تدينوا لكيلا تُدانوا”، أصبحنا بلا تحديد ولا تمييز، نسبيين يتمشون فوق أرجل رخوة، حتى أن بعض الكنائس تنادي اليوم بعقائدٍ تصل إلى حدّ التناقض! إذا كان للتناقض نفسه تعريف بعد الآن!

  لقد اجتاحت الليبرالية الحديثة الكنيسة، لا لتجعلها أكثر مسيحية، بل لتجعلها أقلّ مسيحية. أو كما سماها فرانسيس شيفر: “لقد دخلنا عصر ما بعد المسيحية” أرادت أن تُحرّرها من العقيدة، فانتهت بتحريرها من الإيمان نفسه. صار الجسد بلا عظمٍ، يترنّح باسم المرونة حتى يسقط من التعب. وكما قال أحد الخدام: “العقيدة هي الهيكل العظمي، والتطبيق هو اللحم، فإذا فُقد أحدهما مات الجسد.” لقد صارت الكنيسة اليوم تهتمّ بمكياج الجسد أكثر من عظامه، تزيّن البرامج والإنارات والعبارات البراقة، بينما يذوب العظم ببطء. وإذا ظل الحال هكذا، فلن يبقى جسدٌ يجمّله أحد. فقط فلاتر. فقط فلاتر، تلمع في الهواء، بلا حياة، بلا دم، بلا قلب، وقريبًا: بلا هوية إنسان.

  في الأخير أقول عندما نحتفل بذكرى الإصلاح، لسنا نحتفل بثورةٍ من الماضي، بل بذكرى الله الذي لا يشيخ. فالإصلاح لا يُقاس بالقرون، بل بالقلوب التي لا تزال تنحني أمام الكلمة. إن كل صباحٍ يبدأ حقًا حين يقول القلب: ليس لنا يا رب، ليس لنا، لكن لاسمك أعطِ المجد. لأن الإصلاح الحقيقي لا يُكتب في دفاتر التاريخ، بل يُنقش في اللحم والدم، في الإنسان الذي يعود كل يومٍ إلى الله كما لو كانت هذه هي المرة الأولى. وحده مجد الله الذي يبقى حين تسقط الممالك، وتذبل الأسماء، وتنطفئ الأضواء. كل ما هو بشري يذوب، إلا المجد الإلهي، فهو النار التي لا تستهلك، والنور الذي لا يُطفأ. Soli Deo Gloria – المجد لله وحده.

شارك مع أصدقائك

أمير عادل

مهندس معماري. كاتبٌ ومُزوِّد مقالات في عددٍ من المجلَّات والدَّوريَّات والمواقع الإلكترونيَّة. يدرس الآن درجة ماچستير الآداب في اللَّاهوت، قسم اللاهوت وتاريخ الكنيسة بكليَّة اللَّاهوت الإنجيلية المشيخية – القاهرة. صدر له ثلاثة كتبٍ، وكتابين قيد النشر. تجمع بين اللاهوت والفلسفة والأدب.