التعريف
الموضوع الذي نحن بصدد دراسته هنا هو ما إذا كان المسيح قد مات ليخلِّص المختارين وحدهم، أم كان لديه غرض أوسع نطاقًا لموته.
الملخَّص
بعد تعريف الموضوع، والمصطلحات المتَّصلة به، سأدافع عن “الفداء الخاص”، عن طريق عرض تصريحات كتابيَّة مباشرة، ثمَّ المنطق اللاهوتيِّ والكتابيِّ المتَّصل بالموضوع. وأخيرًا، سأستعرض بعض المقاطع الكتابيَّة التي عادة ما تُستخدَم كحجة للترويج لشموليّة الخلاص.
المقدِّمة
إنَّ خلاصنا بذبيحة المسيح التي قُدِّمت بدلاً منَّا هو فكرة أساسيَّة في اللاهوت المسيحيِّ، يتَّفق عليها المسيحيُّون جميعًا. فهذا هو لُبُّ الإنجيل، وما سيكون موضوع تسبيحنا إلى الأبد (رؤيا 5: 9). لكن سؤالنا هنا أضيق نطاقًا من ذلك: مَن هم الذين قصد المسيح أن يخلِّصهم بموته؟ وما الذي كان مقصود تحديدًا أن يحقِّقه موته؟ الكثير من الشموليِّين (أي المؤمنين بشموليَّة الخلاص) قالوا إنَّ المسيح بموته خلَّص جميع البشر. ويقول الأرمينيُّون إنَّ موت المسيح أتاح خلاص جميع البشر إذا آمنوا. في المقابل، يقول المفسِّرون المُصلِحون إنَّ ربَّنا يسوع تمَّم وضمن بموته بالفعل خلاص جميع مختاريه، أي إنَّه مات بغرض أن يخلِّصهم.
هذا الموضوع له تسميات مختلفة، مثل الغرض أو القصد من الكفَّارة، أو نطاق الكفَّارة. لاحظ جيِّدًا أنَّ المسألة هنا لا تتعلَّق بما إن كان لموت الربِّ يسوع قيمة تكفي لخلاص الآخرين أم لا –فقليلون هم الذين شكَّكوا في ذلك. فلا يتعلَّق الأمر بقيمة الكفَّارة. وتعبير أن الكفّارة “كافية للجميع وفعَّالة للمختارين” هو تعبير أيَّده المُصلِحون لقرون طويلة.
علاوةً على ذلك، يجب أن نحرص على فهم المصطلحات المتَّصلة بهذا الموضوع فهمًا سليمًا. فتعبير “الكفَّارة المحدودة” يصيغ الموضوع في صيغة سلبيَّة إلى حدٍّ كبير، مشدِّدًا على أنَّ المسيح مات فقط ليخلِّص المختارين. أمَّا مصطلح “الكفَّارة الخاصَّة” و”الكفَّارة المحدَّدة”، فيصرِّحان بالفكرة عينها لكن في صيغة أكثر إيجابيَّة، بمعنى أنَّ المسيح مات ليخلِّص شعبه.
توجد مميِّزات وعيوب بلاغيَّة في كلِّ تسمية من هذه التسميات. فمصطلح “الكفَّارة المحدودة” يمكن أن يثير الشكوك في القيمة غير المحدودة لموت ربِّنا يسوع. ومن هذه الناحية، يكون مصطلح “الكفَّارة غير المحدودة” مصطلحًا معيبًا وقاصرًا. من ناحية أخرى، يسلِّط التعبيران “الكفَّارة الخاصَّة” و”الكفَّارة المحدَّدة” الضوء بأسلوب أكثر إيجابيَّة على الفاعليَّة المخلِّصة لموت المسيح. ومن هذه الناحية، يكون مصطلحا “الكفَّارة العامَّة” و”الكفَّارة غير المحدَّدة” معيبين أيضًا. على أيِّ حال، يجب أن نتَّسم بالوضوح بشأن الموضوع الذي نحن بصدد تناوُله.
فما الذي قصد يسوع تحديدًا أن يحقِّقه بموته؟ هل قصد أن يخلِّص الجميع؟ وهل قصد أن يجعل الخلاص متاحًا وممكنًا لجميع الذين يؤمنون؟ أم إنَّه قصد بموته أن يضمن خلاص مختاريه؟ هذا الخيار الأخير هو الرأي الذي سأؤيِّده فيما يلي.
التصريحات الكتابيَّة المباشرة
سنتناول هذا الموضوع بعدَّة طرق. أوَّلاً، يجب أن نسلِّط الضوء على بعض التصريحات الكتابيَّة المباشرة. على سبيل المثال، في رؤيا 5: 9-10، ترنَّم المفديُّون مسبِّحين للخروف وقائلين:
مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لِأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لِإِلَهِنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً، فَسَنَمْلِكُ عَلَى ٱلْأَرْضِ.
تقول هذه الترنيمة إنَّ موت المسيح كان حدثًا فدائيًّا، اشترى الخلاص والعتق عن طريق دفع فدية. لكن، كان النصُّ أكثر تحديدًا من ذلك أيضًا. فهو يشير إلى فداء انتقائيٍّ: فالمسيح اشترى بدمه أناسًا لله “مِنْ [حرف الجرِّ ek في اللغة اليونانيَّة] كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ”. هذا فداء انتقائيٌّ تحقَّق بدم المسيح. فقد كان دمه هو الفدية التي كفلت عتق رجال ونساء “من خارج” كلِّ أمَّة. وببساطة، يقول هذا التصريح إنَّ ما يميِّز المؤمنين عن غير المؤمنين هو دم المسيح.
وبالمثل، نقرأ في رومية 8: 32 هذه الكلمات: “اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ٱبْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لِأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لَا يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟” هنا افتخر الرسول بولس بالحقِّ العظيم القائل إنَّ جميع الذين مات المسيح لأجلهم يحصلون على كلِّ المزايا المصاحبة لهذا الموت. فبموت المسيح، ضمن كلَّ امتيازات الخلاص. وأولئك الذين مات لأجلهم سيحصلون حتمًا عليها جميعها.
كذلك، نقرأ في رومية 8: 34 هذه الكلمات: “مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ”. هنا مرَّة أخرى، المعنى الواضح والصريح هو أنَّ لا أحد ممَّن مات المسيح لأجلهم يمكن أن يُدان. فإذ مات المسيح لأجل هؤلاء، لا بُدَّ أن يخلصوا.
توجد العديد من التصريحات من هذا القبيل عبر العهد الجديد. ففي رؤيا 1: 5، عبَّر الرسول عن حمده لذاك “ٱلَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ”. فقد افتخر بأنَّ المسيح “غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ”. وتلك البركة الخلاصيَّة الأساسيَّة التي أمَّنها موت المسيح هي من نصيبنا “نحن” المخلَّصين فحسب. فقد كان لموت المسيح هذا الغرض والتأثير الخلاصيُّ.
يمكن أن نقول الأمر ذاته بشأن العديد من نصوص العهد الجديد الأخرى:
- متى 20: 28، ابن الإنسان أتى “لِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ” (راجع مرقس 10: 45).
- يوحنا 10: 11، “ٱلرَّاعِي ٱلصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ ٱلْخِرَافِ”.
- يوحنا 17: 19، “لِأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي”.
- غلاطية 2: 20، “فَمَا أَحْيَاهُ ٱلْآنَ فِي ٱلْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلْإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِي”.
- أفسس 5: 25، “أَحَبَّ ٱلْمَسِيحُ أَيْضًا ٱلْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِهَا”.
- 1 بطرس 2: 24، “ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ، لِكَيْ نَمُوتَ عَنِ ٱلْخَطَايَا فَنَحْيَا لِلْبِرِّ”.
تَكمُن فكرة الخصوصيَّة في لُبِّ هذه النصوص جميعها ونصوص أخرى أيضًا. فهي لا تحوي فقط تركيزًا على الضمير “نحن”، بل تحوي أيضًا تأكيدًا على وجود بركة خلاصيَّة مكفولة على نحو فريد بموت المسيح.
وفعليًّا، يجب أن نقول الشيء ذاته عن تصريحات “لأجلنا” الكثيرة الموجودة في العهد الجديد:
- رومية 5: 8، “ٱللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لِأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لِأَجْلِنَا”.
- غلاطية 3: 13، “اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لِأَجْلِنَا”.
- أفسس 5: 2، “أَحَبَّنَا ٱلْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِنَا، قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً لِلهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً”.
- 1 تسالونيكي 5: 10، “ٱلَّذِي مَاتَ لِأَجْلِنَا، حَتَّى إِذَا سَهِرْنَا أَوْ نِمْنَا نَحْيَا جَمِيعًا مَعَهُ”.
- تيطس 2: 14، “ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لِأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ، وَيُطَهِّرَ لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا غَيُورًا فِي أَعْمَالٍ حَسَنَةٍ”.
- عبرانيين 10: 20، “طَرِيقًا كَرَّسَهُ لَنَا [“لأجلنا”] حَدِيثًا حَيًّا، بِٱلْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ”.
- 1 يوحنا 3: 16، “ذَاكَ وَضَعَ نَفْسَهُ لِأَجْلِنَا”.
في كلِّ هذه المقاطع الكتابيَّة، نلاحظ كلاًّ من التركيز على الخصوصية، والتأكيد على وجود بركة خلاصيَّة مكفولة على نحو فريد لشعب المسيح.
المنطق الكتابيُّ واللاهوتيُّ
الأمر الذي يُعَدُّ كثير الشبه بكلِّ ذلك هو الكيفيَّة التي تحدَّث بها كُتَّاب الأسفار الكتابيَّة عن حتميّة مثل هذه الخصوصية.
طبيعة الكفَّارة
إنَّ موت المسيح هو بدليٌّ. فالمسيح مات عوضًا عنَّا حتَّى بفضل تسديده البدليِّ لثمن عقوبة خطايانا يمكن أن نخرج نحن أحرارًا. ومرَّة أخرى، هذا رأي مشترك بين جميع المؤمنين. لكن بمجرَّد قولنا ذلك، نكون قد استخدمنا مفردات حصريَّة. فكما رأينا لتوِّنا، هذا هو ما تعنيه تعبيرات “مات لأجلنا” جميعها التي جاءت في العهد الجديد. فسواء قلنا إنَّ “المسيح مات لأجل الفاجر” (رومية 5: 6)، أو “المسيح مات لأجلنا” (رومية 5: 8)، أو إنَّه “صار لعنة لأجلنا” (غلاطية 3: 13)، إلى آخره، يكون المعنى المقصود واحدًا، ألا وهو أنَّ موته سدَّد دين خطايانا بطريقة بدليَّة، الأمر الذي أدَّى إلى خلاصنا. لكن إذا قلنا إنَّ المسيح مات “لأجل” بعض الذين يهلكون، نغيِّر بهذا من معنى موته تمامًا، لأنَّه بذلك لن يصير موته بدليَّة حقيقيَّة تتمثَّل في حمل الخطايا عوضًا عن الخاطئ. وبهذا، فإنَّ كلَّ نصوص الكتاب المقدَّس التي تؤكِّد الكفَّارة البدليَّة تؤكِّد في الوقت ذاته الفداء الخاصَّ. فإنَّ طبيعة الكفَّارة هي نفسها التي تحدِّد مداها ونطاقها. عبَّر جون أوين (John Owen) عن هذه المعضلة في كلماته الشهيرة التالية:
- إمَّا أنَّ المسيح مات لأجل كلِّ خطايا جميع البشر –وفي هذه الحالة، سيخلِّص الجميع،
- وإمَّا أنَّه مات لأجل بعض خطايا جميع البشر –وفي هذه الحالة، لن يكون خلاص أحد ممكنًا على الإطلاق.
- وإمَّا أنَّه مات لأجل كلِّ خطايا بعض البشر –وفي هذه الحالة، هؤلاء أنفسهم سوف يخلصون.
مرَّة أخرى، كان هذا تحديدًا هو منطق بولس في رومية 8: 32. فجميع الذين مات المسيح لأجلهم ينالون كلَّ المزايا المصاحبة لذلك الموت. وكان هذا منطقه أيضًا في رومية 8: 34، وهو أنَّ لا أحد ممَّن مات المسيح لأجله يمكن أن يدان. فبسبب موته لأجلهم، لا بُدَّ أن يخلصوا (لمزيد من الشرح لرومية 8، يمكنك قراءة هذا المقال).
فعاليَّة الكفَّارة
يصف العهد الجديد موت الربِّ يسوع مرارًا بمفردات تعبِّر عن الفعاليَّة. يعني ذلك أنَّ موت يسوع حقَّق الخلاص بالفعل. والنتيجة المترتِّبة على ذلك بديهيَّة، وهي أنَّه إذا كان المسيح بموته قد حقَّق الخلاص (وإذا كان البعض سيهلكون في واقع الأمر)، فقد كان لموته إذًا قصد وغرض خاصٌّ. ويكفي أن نقدِّم في هذا الشأن القليل من الأمثلة:
- متى 20: 28، ابن الإنسان بذل “نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ”. قطعًا، لم يقصد يسوع أن نفهم هذا الكلام فقط بالمعنى الاحتماليِّ. فالمسيح، بموته، دفع بالفعل فدية عن الخطاة، حتَّى يتسنَّى لهم الخروج أحرارًا.
- أعمال الرسل 20: 28، “كَنِيسَةَ ٱللهِ ٱلَّتِي ٱقْتَنَاهَا بِدَمِهِ”. هنا جرى التأكيد مرَّة أخرى على أنَّ موت المسيح أمَّن بالفعل شعبًا.
- رومية 5: 9، “نَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ ٱلْآنَ بِدَمِهِ”. مرَّة أخرى، تبدو دلالات الفاعليَّة واضحة وبارزة. فإنَّ موته كفل تبريرنا.
- رومية 8: 32، ضمن موت المسيح بالفعل كافَّة المزايا الخلاصيَّة.
- 2 كورنثوس 5: 14-15، “لِأَنَّ مَحَبَّةَ ٱلْمَسِيحِ تَحْصُرُنَا. إِذْ نَحْنُ نَحْسِبُ هَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ وَاحِدٌ قَدْ مَاتَ لِأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ، فَٱلْجَمِيعُ إِذًا مَاتُوا. وَهُوَ مَاتَ لِأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ كَيْ يَعِيشَ ٱلْأَحْيَاءُ فِيمَا بَعْدُ لَا لِأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لِلَّذِي مَاتَ لِأَجْلِهِمْ وَقَامَ”. افترض الكثيرون أنَّ كلمة “ٱلْجَمِيعِ” هنا تشير إلى كفَّارة شموليَّة، لكن لاحظ جيِّدًا هذا التصريح كاملاً:
- المسيح مات لأجل “ٱلْجَمِيعِ”.
- هؤلاء “ٱلْجَمِيعِ” أنفسهم ماتوا مع المسيح في موته.
- نتيجةً لذلك، هؤلاء “ٱلْجَمِيعِ” أنفسهم يعيشون في المسيح وللمسيح.
مرَّة أخرى، تبدو فكرة فعاليَّة الكفَّارة (وبالتالي الغرض الخاصّ منها) واضحة وضوحًا جليًّا.
- عبرانيين 7: 22، “صَارَ يَسُوعُ ضَامِنًا لِعَهْدٍ أَفْضَلَ”. الشخص الضامن هو شخص يضع نفسه مكان شخص آخر، مسدِّدًا دينه عنه، وبالتالي محرِّرًا إيَّاه من الإلزام المفروض عليه.
- عبرانيين 9: 12، “وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِهِ، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى ٱلْأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ [“أمَّن”، “كفل”] فِدَاءً أَبَدِيًّا”. هنا يبدو الكلام مباشرًا وصريحًا. فيسوع، بموته، كفل وضمن الفداء الأبديَّ.
يَلزَم أن نشدِّد مرَّة أخرى على أنَّ طبيعة الكفَّارة هي التي تحدِّد الغرض منها ونطاقها. وفي كلِّ العهد الجديد، يقال إنَّ موت المسيح يضمن ويكفل الفداء بالفعل. وبالتالي، فإنَّ لهذا الموت بؤرة تركيز وتأثير خاصَّة. صحيح أنَّ الإيمان بالمسيح يظلُّ هو المطلب الأساسيَّ، لكن هذا الإيمان جزء ممَّا أمَّنه موت المسيح بالفعل لأجل شعبه.
وحدة الثالوث ووحدة قصد الله الخلاصيِّ
يصف الكتاب المقدَّس قصد الله الخلاصيَّ باستمرار بأنَّ له غرضًا خاصًّا، ألا وهو خلاص مختاريه. ويوضِّح رومية 8: 28-30 هذه الفكرة جيِّدًا. فقد اختار الله في الأزل أولئك الذين سيخلِّصهم، وسبق فعيَّنهم للمجد. ثمَّ في الوقت المعيَّن في الزمن دعاهم. وعندما أقبلوا إلى الإيمان، برَّرهم. وهؤلاء أنفسهم هو سوف يمجِّدهم. فطوال هذا المقطع، كانت المجموعة نفسها من الأشخاص هي المقصودة.
هكذا أيضًا في يوحنا 6: 35-40؛ 10: 10-28، وعبر يوحنا 17 أيضًا، يخبرنا الربُّ يسوع بوضوح بأنَّه جاء ليخلِّص مختاريه، أي “خرافه”، الذين “أعطاهم” الآب له. وفي حقيقة الأمر، كان “منحُ” الآب شعبًا للابن قبل الزمن هو الذي حدَّد معالم إرساليَّة الابن الخلاصيَّة. فقد جاء ليخلِّصهم، ويبذل نفسه لأجلهم، إذ حين يدعوهم، يُقبِلون إليه، حتَّى يكونوا معه في النهاية في مجد القيامة. وطوال التكشُّف الكامل لخطَّة الله للفداء، كانت فكرة الخصوصيَّة بارزة وواضحة.
هذه الفكرة تقود بدورها إلى فكرة أخرى شديدة الأهميَّة. فبحسب هذا القصد الخلاصيِّ، اختار الله الآب شعبًا ليخلِّصهم، وأعطاهم لابنه كي يخلِّصهم بموته. والروح القدس، بدوره، يعطي هؤلاء الأشخاص أنفسهم إيمانًا، ويوحِّدهم بالمسيح للخلاص. لكنَّ افتراضنا بأنَّ المسيح من جانبه مات لأجل جميع البشر بلا استثناء سيكون بمثابة افتراض منَّا لوجود عدم توافق في الأهداف داخل الثالوث، وأنَّ الابن كان يعمل لأجل تحقيق هدف آخر غير ما قصد الآب والروح القدس تحقيقه من خطَّة الخلاص نفسها. لكن كما رأينا بالفعل، أكَّد الربُّ يسوع بوضوح أنَّه جاء ليخلِّص الأشخاص أنفسهم الذين أعطاهم الآب له (يوحنا 6: 38-39)، وأنَّه بذل نفسه لأجل هؤلاء (يوحنا 10: 11؛ 17: 19). فإنَّ نغمة الخصوصيَّة مستمرَّة وثابتة.
ادعاءات “الشموليَّة”
ترد في الكتاب المقدَّس عديدٌ من التصريحات التي تصف موت الربِّ يسوع بمفردات شموليَّة. ويجب أن نحرص على فهمها بدقَّة. ولا تسمح لنا المساحة هنا سوى بتقديم أمثلة أو عيِّنات قليلة.
يوحنا 1: 29
تدلُّ صرخة يوحنا المعمدان القائلة “هُوَذَا حَمَلُ ٱللهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ!” إمَّا على أنَّ 1) الجميع سيخلصون، لأنَّ خطايا جميع البشر قد رُفِعت وكُفِّر عنها، وإمَّا 2) وجوب فهم لفظ “العالم” بمعنى شامل بشكلٍ عام وليس شامل بشكلٍ تام. يبدو الخيار الثاني بديهيًّا إلى حدٍّ كبير. فإنَّ موت يسوع لم يكفِّر في حقيقة الأمر عن خطايا كلِّ إنسان بلا استثناء، لأنَّنا نعلم من نصوص كتابيَّة أخرى أنَّ الكثيرين سيهلكون بسبب خطاياهم. فمن الواضح إذًا أنَّ تصريح يوحنا معناه أنَّ يسوع هو مخلِّص العالم (وليس فقط إسرائيل).
يوحنا 3: 16-17
هنا أكَّد يوحنا من خلال هذه الكلمات الشهيرة أنَّ الله هكذا أحبَّ العالم حتَّى أرسل ابنه ليخلِّصه. وصراحةً، لا يشير لفظ “العالم” هنا إلى أنَّ كلَّ إنسان بلا استثناء سيخلص، بل معناه أنَّ العالم بوجه عامٍّ سيُسترَدُّ ويُصلَح بواسطة خلاص المسيح. وأكَّدَ رؤيا 5: 9 لاحقًا على أنَّ الرجال والنساء من كلِّ قبيلة وأمَّة تحت السماء سيخلصون. تلك هي الشموليَّة الكتابيَّة الصحيحة.
يوحنا 12: 32-33
“وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلْأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ. قَالَ هَذَا مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُوتَ”.
هنا يشير يسوع بشكل مباشر إلى أنَّ عمله على الصليب سيؤدِّي، بحسب قوله، إلى اجتذاب “الجميع” إليه. ما الذي كان يقصده بذلك؟ لا يمكن أن يكون قصده بالتأكيد هو أنَّ كلَّ إنسان حيٍّ على وجه الأرض سيُجتذَب إليه، لأنَّ هذا ليس واقع الحال. لكن السياق يبيِّن لنا المعنى المقصود. فالآية 20 وما بعدها تخبرنا بأنَّ البعض من الأمم أتوا يطلبون أن يروا يسوع. لم يعرف فيلبس ماذا يفعل حيال ذلك، فذهب ليسأل يسوع، وكان قول الربِّ يسوع إنَّه بموته سوف “يجذب إليه الجميع” هو ردَّه المباشر على هذا السؤال. يعني ذلك إذًا أنَّ خلاص المسيح لن يفيد اليهود وحدهم، بل الأمم أيضًا (راجع يوحنا 10: 16؛ رؤيا 5: 9).
1 يوحنا 2: 1-2
“يَا أَوْلَادِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَذَا لِكَيْ لَا تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلْآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ أَيْضًا”.
رأى كثيرون أنَّ هذه الآية تؤيِّد الكفَّارة الشموليَّة. لكن، سيشكِّل ذلك صعوبة من جهة فهم كلمة “كَفَّارَةٌ”. فالكفَّارة هي عمل المسيح الذي بموجبه استوفى بموته مطالب عدل الله وسكَّن غضبه علينا. ولو كان يوحنا يقصد بتعبير “كُلِّ ٱلْعَالَمِ” أن يشير إلى كلِّ إنسان بلا استثناء، سيتوجَّب علينا إذًا أن نستنتج أنَّ جميع البشر سيخلصون فعليًّا، لأنَّ هذا ما تعنيه الكفَّارة. لا يمكن أن يكون هذا هو قصد يوحنا، لأنَّه يوجد عدد مبالغ فيه من المؤشِّرات في العهد الجديد إلى أنَّ الكثيرين سيهلكون. يقول كثيرون جدًّا إنَّ هذه الآية تشير إلى أنَّ الله، بعمل المسيح، جعل الفداء متاحًا للجميع، بحيث “أمكن” أن يصير المسيح كفَّارة عن خطايا أيِّ إنسان. لكن، ليس هذا أيضًا ما قاله يوحنا هنا. فهو لم يقل إنَّ المسيح “يمكن أن يكون” كفَّارة، بل إنَّه “هو” كفَّارة لخطايانا بالفعل. يقول كثيرون أيضًا إنَّ هذا يعني أنَّ المسيح كفَّرَ عن كلِّ إنسان بالفعل، لكن الخلاص الذي اشترته تلك الكفَّارة لا يُفعَّل ويصير حقيقة دون إيماننا. لكن مجدَّدًا، يظلُّ السؤال التالي مطروحًا: كيف يمكن أن يكون المسيح كفَّارة للذين يهلكون؟ علاوةً على ذلك، كان هدف يوحنا من هذا الكلام هو إمداد مؤمنين يخطئون باليقين والطمأنينة، المتأصِّلَين في خلاصٍ تحقَّق بالفعل. “وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلْآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا”.
يبدو إذًا أنَّه يجب فهم تعبير “كُلِّ ٱلْعَالَمِ” بمعنى آخر غير “كلّ إنسان بلا استثناء”. فمعناه هو أنَّ خلاص المسيح أتمَّ الخلاص على نطاق عامٍّ، تمامًا مثلما تبيِّن النصوص السابقة.
الخاتمة
يعلِّم الكتاب المقدَّس بصراحة ووضوح بأنَّ الربَّ يسوع كان في موته البديل عن الخطاة، وأنَّه سدَّد عقوبة خطايانا عوضًا عنَّا، مسترضيًا الله بهذا، ومسكِّنًا غضبه، ومن ثمَّ كافلاً وضامنًا خلاص شعبه. فقد أرسل الله ابنه لا ليدين العالم بل ليخلِّص به العالم. وفي النهاية، سيشهد شعبه من كلِّ أنحاء العالم –أي من كلِّ قبيلة ولسان– بأنَّه تمَّم بحقٍّ ذلك العمل الفدائيَّ العظيم.