هل قلل المصلحون الإنجيليّون من أهمية الأعمال الصالحة؟

مارتن لوثر والموعظة على الجبل كمثال

واحدة من أشهر المغالطات الشائعة حول الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر هي إهماله أو قُل تقليله من أهمية الأعمال الصالحة للإيمان والسلوك المسيحي القويم، ولا سيما في فكر المُصلح الألماني مارتن لوثر.

والواقع أن هذه المغالطة واسعة الانتشار في الفكر المسيحي الشعبي غير الأكاديمي ربما تعود لسوء فهم مُجحف لبعض تعاليم لوثر وغيره، حول عقيدة التبرير بالإيمان بدون أعمال. وذلك دون الانتباه لحقيقة مهمة في فكر مارتن لوثر والغالبية الساحقة من مُصلحي القرن السادس عشر. هذه الحقيقة هي أن التبرير يشير في اللاهوت الإنجيلي إلى حق المثول الشرعي أمام الله، والذي يتمايز بدون انفصال عن التقديس، والذي يشير إلى النمو إلى شبه المسيح في حياة عاملة بالمحبة يعيشها المؤمن المُبرر مجانًا بالإيمان بدون أعمال. هذا التمييز ضروري أولًا لفهم عدد من النصوص الكتابية في رسالتي رومية ٣-٤ وغلاطية ٣، وثانيًا، لا غنى عنه لفهم لاهوت الإصلاح الإنجيلي، بغض النظر عن اتفاقك أو اختلافك معه.

لقد شدد المُصلحون على كون التبرير أمام الله “مجانًا” أي بدون أعمال. مفسرين ذلك بكونه يرتكز فقط وبالأساس على عمل المسيح الكامل في طاعته إبان تأنسه، وقداسته المطلقة في حياته التي بلا خطية وموته الكفاري وقيامته عن يمين الله لتبريرينا، وبالتالي نزع كل أساس يقوم عليه الافتخار البشري، ليكون المجد لله وحده، كمثال:

‏”مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِـٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ،‏ ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِـٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ. ‏لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلزَّمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلْإِيمَانِ بِيَسُوعَ. فَأَيْنَ ٱلْافْتِخَارُ؟ قَدِ ٱنـْتَفَى! بِأَيِّ نَامُوسٍ؟ أَبِنَامُوسِ ٱلْأَعْمَالِ؟ كَلاَّ! بَلْ بِنَامُوسِ ٱلْإِيمَانِ. إِذاً نَحْسِبُ أَنَّ ٱلْإِنـْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِـٱلإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ.” (رومية ٢٤:٣-٢٨)

المقطع التالي من الخاتمة التي ضمنها مارتن لوثر رسالته إلى البابا ليو العاشر عن موضوع “حرية المسيحي” يوضح هذا التمييز:

“إن ايماننا بالمسيح لا يعفينا من الأعمال، بل يحررنا من الاعتقاد الخاطئ فيما يتعلّق بالأعمال. فإنه لضربٌ من التوهّم السخيف أن البرّ يُكتسب بالأعمال. إن الإيمان يفتدي ضمائرنا ويعتقها ويؤدّبها ويحفظها لكي ندرك أن الأعمال ليست رهينة بالبرّ ولا ضامنة له، مع أنه لا يمكن الاستغناء عنها ولا بدّ من وجودها، كما أننا لا نقدر على أن نستغني عن الطعام والشراب وجميع الأعمال التي يقوم بها هذا الجسد الفاني، على الرغم من أن برّنا لا يكمن فيها لأنه يكمن في الإيمان، ولكن يجب علينا ألا نحتقر تلك الأعمال أو نغفل عنها بسبب عدم ضرورتها للبرّ. أننا نلتزم احتياجات حياتنا الجسدية ونوجبها على أنفسنا في هذا العالم، ولكننا لا نتبرّأ بها..”[1]

من هذا المقطع يتضح أن لوثر يعتبر الأعمال الصالحة ضرورة للحياة المسيحية المُستقيمة، كما الطعام والشراب، حتى وإن كان برنا لا يتحقق من خلالها، كون الالتزامات الأخلاقية لحياة القداسة هي في مجملها ثمرة للتبرير بالإيمان، لا سببًا له. [2] كما شرح لوثر نفسه في مجمل عظاته على الموعظة على الجبل والتي تذخر بتحريضات مقدسة على حياة الإيمان العامل بالمحبة.

وبالحديث عن الموعظة على الجبل، أختم إجابتي وأحيل القارئ الكريم إلى تفسير مارتن لوثر نفسه للموعظة على الجبل في إنجيل متى، وبالتحديد لانتقاده اللاذع – إذ كان معروفًا بجسارته – للتفسير الشائع في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية آنذاك. اعتبر التفسير الذي انتقده لوثر أن الالتزامات الأخلاقية في الموعظة على الجبل غير واجبة الاتباع لعموم المسيحيين، واسترشاديه لطغمة الإكليروس، أي الكهنة والرهبان، الساعين إلى الكمال الأخلاقي. انتقاد مارتن لوثر هذا عرضه للإدانة من جامعة باريس في عام ١٥٢١م.[3] وعلى نفس النهج سار المصلح الفرنسيّ چون كالڤن.[4] إذ أصر المُصلحان على اعتبار الوصايا الأخلاقية المتضمنة في الموعظة على الجبل هي لكل مسيحي، دون تمييز مفتعل لا أساس له في عظة الجبل (متى ٥-٧).

ربما تفصلنا قرون عديدة عن حياة المُصلحين لوثر وكالڤن في القرن السادس عشر، وعلينا أن نتذكر أنهم بشر غيرَ معصومين، وأن الكتاب المقدس وحده له الكلمة الفصل في كل تعليم. لكن اتهامهم بالتقليل من أهمية الأعمال في الحياة المسيحية المستقيمة أمر يفتقد إلى الدقة والسند اللاهوتي والتاريخي.


[1] مارتن لوثر، حرية المسيحي ١٥٢٠، ترجمة متري الراهب، دار الندوة الدولية http://www.lutherinarabic.org/  الإنترنت، ٩ سبتمبر ٢٠٢١.

[2]  Jeffrey P. Greenman, Timothy Larsen, and Stephen R. Spencer, eds., The Sermon on the Mount through the Centuries: From the Early Church to John Paul II (Grand Rapids: Brazos, 2007), 109-111.

[3] See LW 21.4, 74; WA 32.300.12–28; 32.361.5–13.

[4] Institutes II 8:56.

شارك مع أصدقائك

جورج بشاي

يدرس حاليًا درجة الدكتوراة في الفلسفة (.Ph.D) في العهد الجديد من كليّة موور للاهوت، بأستراليا. كما عمل في السابق كمدرس لمواد اللاهوت الكتابي والعهد الجديد في كلية اللاهوت الأسقفية بمصر.