في البداية أريد أن أعتذر للقارئ العزيز على عنوان هذه المقالة التي تبدو لأول وهلة أنها ستتناول بالتفصيل مناقشة لاهوت التحرير الفلسطيني، وإنما أريد تخصيص هذه المقالة لقضية موازية أثارها المدافعون عن اللاهوت الفلسطيني وهي اللاهوت السياقي. فهم يحاولون جاهدين تبرئة اللاهوت الفلسطيني من أي وصمة بالذميّة أو أنه إحدى أذرع لاهوت التحرير الماركسيّ بالقول إنه مجرّد لاهوت سياقيّ نابع من رحم معاناة الشعب الفلسطيني.
شدد المدافعون عن اللاهوت الفلسطيني على مواقع التواصل الاجتماعيّ على اللاهوت السياقي بطريقة تجعل المتابع البسيط يظن أن المسيحيين المحافظين كما لو أنهم يسكنون في برج عاجيّ ولا يأبهون بالسياقات الثقافية والمجتمعية للكنائس التي يخدمونها، ويبغون فقط فرض قراءة أحادية للكتاب المقدس؛ وهذه مغالطة رجل القشّ. في هذه المقالة، سأقوم بمناقشة الأساس الكتابيّ للاهوت السياقيّ في الفكر المحافظ، وما هي معايير وضوابط التي يجب وضعها لهذا المسعى، وأخيرًا المنزلقات المتطرفة الخطيرة التي تنتظر غياب وجود ضوابط للاهوت السياقيّ.
اللاهوت المُحافظ واللاهوت السياقيّ
إن المسيحيين المحافظين عامة، والمُصلحين خاصة، يدركون أهمية الاشتباك مع الثقافات والسياقات المختلفة دون المساس بنزاهة رسالة الإنجيل. ويمكننا في عجالة ذكر أهم اللاهوتيين المحافظون الذين تناولوا اللاهوت السياقي، على سبيل المثال تيموثي كيلر له عدة مؤلفات في هذا المسعى؛[1] وكذلك دون كارسون وكتابه الأشهر “إعادة النظر في المسيح والحضارة”؛[2] وجون بايبر؛[3] وكذلك بول هيبرت.[4] وسوف يجد القارئ في الهوامش السفلية بعض أعمالهم يمكن الرجوع إليها للبحث والدراسة.
والأساس اللاهوتيّ للاهوت السياق واضح لدى المسيحيين المحافظين، فهو يعود إلى تلك اللحظة التي شرع الله في أن يُكلّم الإنسان بمفردات بشريّة، مرورًا بالعهود الكتابية مع نوح، وإبراهيم، وموسى، داود، والتي تُجسّد حقيقة الخُطة الإلهيّة الواحدة التي تم التعبير عنها في ظل عهود وسياقات مختلفة؛[5] ووصولًا لذروة الإعلان في تجسّد كلمة الله، ليُعلن عن الآب الذي لم يره أحد قط (يوحنا 1).
لاهوت السياق بين الأمس واليوم
كما أن الكنائس الناطقة بالعربية اليوم قد سعت منذ أن غزاها عرب الجزيرة العربية واستوطن المسلمون في أراضيهم إلى عدم العزلة داخل لغاتهم القديمة، وإنما سعوا نحو ترجمة ليتورجياتهم ونصوصهم المقدسة للغة التي فرضها واقعهم الجديد.[6] ولكنهم فعلوا ذلك دون مساومة على الحق، كالتي يقوم بها اليوم مروجي استبدال اسم يسوع بعيسى، وأصحاب القراءات الصوفية والمتأسلمة للكتاب المقدس، ومروجي حركة المتحولون سرًا، أو حتى أرباب اللاهوت الفلسطينيّ.
لقد قدموا لاهوتهم المسيحيّ دون الانفصال عن واقعهم، ودون مساومة على الحق أو محاولة لتوظيف اللاهوت لصالح قضية سياسية كاللاهوت الفلسطيني. أو بالكلمات التحذيرية لتشارلز فان إنجن من منزلقين خطيرين:
خطر المضي قدمًا بشكل مفرط وخطر عدم المضي قدمًا بدرجة كافية.”[7]
فإن أخذنا اللاهوت الفلسطيني على سبيل المثال هنا، ففي مسعاه لتجنب خطر الانعزال عن سياق المجتمع الفلسطيني الذي يعاني من تمييز وتضييق شديد، سقط في خطر المبالغة والذهاب إلى أبعد مما ينبغي، حتى أصبح مركز تركيزهم على القضية الفلسطينية كما لو أن بحلها قد زال حجر العثرة أمام المسلمين ليدخلوا في دين الله أفواجًا.
معايير اللاهوت السياقي
إن الانزلاق نحو أحد التطرفين الذي يتحدث عنهما فان إنجن يدفعنا للتفكير في وضع معايير يمكن عليها قياس ما إذا كان لاهوت سياق مُعيّن كتابيّ أم لا. فالكثير من التيارات الليبرالية تستخدم مصطلحات رنانة مثل لاهوت السياق كحصان طروادة لحقن أفكار غير كتابية داخل جسد المسيح. فلاهوتيات مثل اللاهوت الأنثوي، ولاهوت السود، بل وحتى لاهوت الرخاء هم لاهوتيات سياقية وتحريرية، ولكن كيف لنا القول أن لكونها لاهوتيات سياقية يمكن تمريرها دون فحص تحت مقياس أسمى هو كلمة الله؟
إليك مجموعة من المقاييس التي أعتقد أنها هامة جدًا لتقييم أي لاهوت سياقيّ، وهي من وحي كتابات تشارلز فان إنجن:[8]
- يجب ألا يتعارض أو يُقلل تعليم وتوجهات اللاهوت السياقي مع شخص المسيح وعمله الخلاصيّ الكامل، أو ما يُطلق عليه فان إنجن “حدث المسيح”.
- يجب ألا يسعى هذا اللاهوت السياقي إلى تقديم إنجيل آخر كالذي حاول المتهودين تقديمه لكنيسة غلاطية (غلاطية 1: 6–9).
- يجب ألا يُضيف أو يحذف أو يتغاضى أو يختزل اللاهوت السياقي عن أيّ من التعاليم أو الحقائق الكتابية. فاللاهوت القويم لا يختزل أو يلتف حول الحقائق الكتابية لتمرير أجندته الخاصة، وإنما يكوّن لاهوته متسقًا مع كل الكتاب وليس فقط مع المقاطع التي تتفق مع الإطار اللاهوتي الذي يُنادي به.
- يجب التمييز بين ما يمكن اعتباره جسر والأرض الصلبة. فحين يشرع المهندس في بناء بيت، من البديهي أن يبنيه على أرض صلبة، ومن الحماقة بنائه فوق جسر. وللأسف، كثير من لاهوتيات السياق تجعل من الجسور أو المساعي المختلفة لبناء جسور مع الآخر أرض صلبة يصلح البناء عليها وغاية نهائية. فالجسر هو وسيلة مؤقتة للعبور بين نقطتين لكنه أبدا ليس المحطة الأخيرة.
- يجب أن يسعى اللاهوت السياقي للإجابة على السؤال الأساسيّ: “ماذا يقول الكتاب؟” (رومية 4: 3؛ غلاطية 4: 30). فصحيح أنه من الهام ألا نكون منعزلين عن سياقنا، ولكن أيضًا يجب ألا نكون أسرى صيحات سياقاتنا النسبيّة.
- يجب ألا نُضيف أو نحذف من اللاهوت التاريخي، فنحن نقف على أكتاف عمالقة من رُسل، وآباء ولاهوتيون سعوا لشرح حق المسيح وكلمته المعصومة في سياقات مختلفة دون مهادنة أو محاولة لتوسيع الطريق الضيق الذي دشّنه المسيح (متى 7: 14).
اختلاف المنهجيات
يجب التأكيد على أن كل من اللاهوتيون المحافظون والليبراليين يهتمون بالسياق ويعترفون بأهميته، ولكن تكمن الهوة الأعظم بينهما في منهجيتهما (methodology) والتي هي بطبيعة الحال نابعة من لاهوتهما (theology). أي الفرق بين ما يُطلق عليه “اللاهوت من أسفل” “واللاهوت من أعلى”.
فاللاهوتيات الليبرالية هي لاهوتيات من أسفل، بمعنى أنها تبدأ من السياق المجتمعي والقضايا العملية، ثم تذهب إلى الكتاب المقدس وإلى اللاهوت بهدف صياغة لاهوت يتماشى مع هذا السياق.
أما اللاهوت المحافظ، فهو لاهوت من أعلى، أي أنه يبدأ بما تقوله كلمة الله، أي يبدأون باللاهوت النظاميّ والكتابيّ قبل أن يقفزوا إلى اللاهوت العمليّ، ثم يأخذوا هذه الحقائق الكتابية واللاهوتية ليطبقوها على سياقاتهم المختلفة.
هذا هو الفارق الذي وإن اتفق كل من اللاهوت المحافظ واللاهوتيات الليبرالية على أهمية احترام وفهم السياق، إلا أن منهجيتهما تختلف بسبب اختلاف منظورهما لسُلطة وعصمة ووضوح كلمة الله.
في النهاية، لنتذكر أن انتقال يوسف إلى سياق مختلف عن سياقه الأصليّ لم يدفعه لإعادة تعريف الحقائق الكتابية التي هي ذاتها بصرف النظر عن المكان والثقافة والزمان. ووجود دانيال في ظروف قاسية في السبيّ في ظل ثقافة عدائيّة له ولديانته لم تدفعه للمساومة وإخفاء عبادته لإلهه. ولم يدفع اختلاف السياق الذي عاش فيه أصدقاء دانيال الثلاث إلى محاولة التوفيق بين عبادتهم للإله الحقيقيّ والسجود لتمثال الملك. وفي العهد الجديد، نرى أن الرسول بولس مع اختلاف البُلدان والثقافات التي سافر إليها عبر رحلاته التبشيرية، كان يُقدِّم رسالة الإنجيل في المجمع اليهوديّ بطريقة مختلفة عن أماكن تجمع الأمم الوثنية، ولكن دون المساس بجوهر مركزية رسالة الإنجيل، وهوية من هو المسيح كابن الله المتجسد، وعمله وموته، وقيامته.
[1] Timothy Keller, Center Church: Doing Balanced, Gospel-Centered Ministry in Your City. United States: Zondervan, 2012; Keller, The Reason for God: Conversations on Faith and Life. United States: HarperChristian Resources, 2010; Keller, Every Good Endeavour: Connecting Your Work to God’s Plan for the World. United Kingdom: Hodder & Stoughton, 2014.
[2] D.A. Carson, Christ and Culture Revisited. United States: Eerdmans Publishing Company, 2008.
[3] John Piper, Let the Nations Be Glad! The Supremacy of God in Missions. United States: Baker Publishing Group, 2022.
[4] Paul G. Hiebert, The Gospel in Human Contexts: Anthropological Explorations for Contemporary Missions. United States: Baker Publishing Group, 2009.
[5] Charles Van Engen, Mission on the Way: Issues in Mission Theology (United States: Baker Books, 1996), 75.
[6] Mina Yousef, “Severus ibn al-Muqaffą (d. after 987): A Coptic Apologist, Defending Christianity in Arabic,” in Medieval Encounters: Arabic–speaking Christians and Islam (United States: Gorgias Press, 2022), 310–312.
[7] Charles Van Engen, Mission on the Way: Issues in Mission Theology (United States: Baker Books, 1996), 185.
[8] Ibid., 82.