إن كنت ممَّن يقضون بعض الساعات يوميًّا في تصفُّح المنشورات على الفيس بوك، وصودف أنَّ بعض أصدقائك مهتمُّون بنشر كلمة الله عبر حساباتهم الشخصيَّة. فبالتأكيد قد لاحظت مرَّة على الأقلِّ اجتهاد أحدهم في محاولة لترجمة نصٍّ كتابيٍّ من اللغة العربيَّة الفصحى إلى العامِّيَّة المصريَّة، في محاولة منهم لتبسيط فهم النصِّ. ورغم هذا المجهود الحميد وحُسن نوياهم، إلا أن بعضهم قد يجمح خارج دائرة التبسيط ليسقط في التغيير! ففي سعيهم لتبسيط كلمةٍ ما، أحيانًا ما يغيِّرون معناها، وبالتالي يغيِّرون معنى النصِّ الكتابيِّ.
على الرغم من أنَّ هدفي من هذا المقال ليس نقد الترجمات العامِّيَّة أو المبسَّطة لمعرفة مدى أمانتها للنصوص الأصليَّة، فإنَّ هذا المثال السابق يرصد لنا الحال في محاولة البعض بُحسن نيَّة لتبسيط العقيدة المسيحيَّة، ممَّا ينتج عنه، في أحيان كثيرة، تغيير في الإيمان المسيحيِّ المُسلَّم مرَّة للقدِّيسين.
هدف التبسيط
لماذا يلجأ البعض في واقعنا العربيِّ إلى تبسيط اللاهوت المسيحيِّ؟ ربَّما يوجد عشرات الأسباب، لكنَّني سوف أُركِّز على سببين فقط:
1. عامل اللغة
أنا في الثلاثينيَّات من عمري، وابني في عقده الأوَّل، وأبي في الخامسة والستِّين، في حين جدِّي كان سيتمُّ عامه التسعين هذا العام لولا رحيله عن عالمنا منذ فترة. كلٌّ منَّا لديه فهم لبعض المصطلحات بشكلٍ مختلف يناسب جيله. فجدِّي وأبي ربَّما يفهمان جيِّدًا كلمة “فهلويّ!” إلاَّ أنَّ ابني الصغير قد استبدلها عصره بأيِّ كلمة تشير إلى الذكاء وتنتهي بكلمة “طحن!”
اللغة لا تتأثَّر فقط بالوقت ولكن أيضًا بالعامل الجغرافيِّ، وأنا لا أقصد اختلاف اللغة بين ساكني بلاد العمِّ سام والمحروسة، بل أقصد الفرق اللغويَّ الذي يحدثه المكان الجغرافيُّ القريب. فتختلف بعض المُصطلحات بين سكان مدينة الإسكندرية وقاطنو قاهرة المُعز”.
هذه الأمثلة وغيرها هي ما تدعو البعض إلى محاولة تبسيط بعض الكلمات في النصِّ الكتابيِّ. فكلمات مثل (يُعَكِّشُونَهَا، ميخا 7: 3) أو (طُمُوِّهَا، مزمور 46: 3) وغيرها لا يمكن فهمها اليوم من دون شرحٍ أو تبسيط.
ولا أعتقد أنَّه توجد أيُّ مشكلة في هذا، فمرقس على سبيل المثال استخدم كثيرًا هذا الأسلوب في كتابة إنجيله. فبما إنَّه كان يكتب إلى الأمم، فقد حرص على ترجمة المصطلحات الآراميَّة والعبريَّة الدارجة إلى لغتهم المفهومة (مرقس 3: 17؛ 7: 11؛ 10: 46)، كما قام بشرح العادات والتقاليد اليهوديَّة في محاولة تبسيط الأمر لهم (مرقس 7: 3-4؛ 14: 12).
2. السياق الإسلاميُّ
وهذه النقطة أكثر حساسيَّة من الأولى، فالبعض الآخر يحاول تبسيط الإيمان المسيحيِّ لكي يسهل على أحبَّائنا المسلمين فهمه. وأنا أعتقد أنَّنا في حاجة إلى مثل هذه المحاولات، فكثير من أصدقائنا وجيراننا المسلمين يعتقدون، حتَّى يومنا هذا، أنَّنا نؤمن أنَّ الله تزوَّج العذراء مريم! أو أنَّنا نسمح بالزنا وشرب الخمور في كنائسنا، أو تلك الشائعة الممتدَّة عبر الزمن أنَّ الكنائس في ليلة رأس السنة تطفئ الأنوار لكي يقبِّل الرجال والنساء بعضهم بعضًا!
عدم شرح هذه الأمور وغيرها قد يسبِّب حدوث كوارث. على سبيل المثال في أثناء ثورة 2011 كانت توجد قصَّة شهيرة لأحد الأشخاص الذي قال وهو يعظ: “يا ربُّ رُشّ الدم على مصر كلِّها!”، بكلِّ تأكيد معظم المسيحيِّين يفهمون مثل هذه الصلاة وسياقها الكتابيِّ، إلاَّ أنَّني أعذر أيَّ شخصٍ من ديانةٍ أخرى يجد نفسه في حاجة إلى توضيح مثل هذه الصلاة في هذا الوقت الحرج!
ما بين التبسيط والتغيير
كلُّ ما سبق مسموحٌ به -بل ومطلوب- في نطاق معيَّن، إلاَّ أنَّ أيَّ شيء يتطرَّف ويشطح يسبِّب ضررًا كبيرًا. فكم من محاولات للتبسيط تسبَّبت في تغيير الإيمان المسيحيِّ؟
دعوات تغيير بعض المصطلحات الكتابيَّة الأصيلة لتصبح موائمة أكثر لبعض الثقافات الأخرى هي دعوات كارثيَّة! مثل محاولة البعض عدم القول إنَّ المسيح هو “ابن الله” مكتفين فقط باستخدام “كلمة الله” لتتماشى مع الثقافة الإسلاميَّة.
حتَّى محاولة تبسيط بعض المصطلحات ككلمة “أقنوم” -وأنا متَّفق تمامًا أنَّها تحتاج إلى شرح دقيق حتَّى للمسيحيِّين في الجيل الحاليِّ- تطوَّرت لكي تكون “تَجَلٍّ”! وهذا تغيير خطير في الإيمان، لا تبسيط.
ناقشتُ من عدَّة سنوات أحد معلِّمي اللاهوت لماذا يرفض “البدليَّة العقابيَّة” ويتكلَّم فقط عن نظريَّة واحدة في شرحه للكفَّارة -وهي المسيح المنتصر– وكانت إجابته أنَّه تحوَّل عن الإيمان بأنَّ المسيح مات بدلاً عنَّا في أثناء دراسته لدرجة الدكتوراه في مجال المسيحيَّة والسياق الإسلاميِّ. وسألني متعجِّبًا: هل تظنُّ أنَّ شرح موت المسيح كبديل عن المؤمنين سيكون مناسبًا لمن هم غير مسيحيِّين؟ أم من الأفضل أن نقدِّم لهم المسيح المُقام المنتصر؟ نفس الشخص هو مَن يُشدِّد في تعليمه على طاعة المسيح الإيجابيَّة (حفظه للناموس)، ويتغافل في كلامه عن طاعته السلبيَّة (موته على الصليب).
وآخر عبر صفحته على الفيس بوك ناشد أنَّ المسيحيَّة في الظروف الحاليَّة لا تحتاج إلى “الكرازة”، فالتبشير هو شكل قديم للمسيحيَّة صالحٌ فقط في أيَّام الرُسل وبداية الكنيسة. سياقنا العربيُّ الحاليُّ يحتاج إلى الاتِّفاق ونشر السلام والمحبَّة فقط! هذا ما قاله.
كلُّ هذا مرورًا بدعوات كثيرة إلى التصالح مع السياق العربيِّ التي بعضها مناسب والبعض الآخر تطرَّف جدًّا إلى حدِّ تغيير ملامح المسيحيَّة الكتابيّة القويمة.
هذا المقال البسيط هو دعوة لكلِّ الأطراف إلى التعقُّل. دعوة لمن يحاولون تبسيط المسيحيَّة إلى أن يتعقَّلوا في أثناء كتاباتهم عن إنجيل المسيح ألاَّ يحيدوا عن الإيمان المُسلَّم مرَّة للقدِّيسين، متمثِّلين برسل المسيح، الذين قدَّموا إنجيل المسيح وحثُّوا الآخرين على الثبات فيه:
أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، إِذْ كُنْتُ أَصْنَعُ كُلَّ الْجَهْدِ لأَكْتُبَ إِلَيْكُمْ عَنِ الْخَلاَصِ الْمُشْتَرَكِ، اضْطُرِرْتُ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ وَاعِظًا أَنْ تَجْتَهِدُوا لأَجْلِ الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ” (يهوذا 3).
دعوة لكلِّ قارئ ألاَّ يتساهل مع حوادث التغيير هذه، بل أن يسمع قول بولس بالروح القدس:
“وَأَمَّا أَنْتَ فَاثْبُتْ عَلَى مَا تَعَلَّمْتَ وَأَيْقَنْتَ، عَارِفًا مِمَّنْ تَعَلَّمْتَ” (2 تيموثاوس 3: 14).
أُصلِّي لأجلي، ولأجل كلِّ شخص، أن نجتهد في أن نفصِّل كلمة الحقِّ، في أن نبسِّطها ونشرحها، وفي أثناء اجتهادنا ألاَّ ننسى أن يكون هذا الاجتهاد متَّسمًا بالاستقامة (2 تيموثاوس 2: 16).