يقين الخلاص

التعريف

يقين الخلاص هو ثقة يمنحها الله لكلِّ مؤمن حقيقيٍّ بالمسيح في كونه مقبولاً من أبيه السماويّ سواء في الحاضر أو في المستقبل.

الملخَّص

يشهد الكتاب المقدَّس باستمرار عن يقين الخلاص لجميع مَن هم في المسيح، ويبني ذلك أوَّلاً، بالتأكيد، على وعود الله الموضوعيَّة والعامَّة، وثانيًا، على العمل الشخصيِّ الذي يجريه الروح القدس سواء في الشهادة المباشرة لروح المؤمن، أو في الشهادة غير المباشرة المتمثّلة في ثمار التجديد. وهذا اليقين لا ينكر دور التحذيرات، ولا ينكر أيضًا وجود الشكِّ.


المقدِّمة

إنَّ الله وأبا ربِّنا يسوع يريد ليس فقط أن يخلِّص شعبه ويغفر لهم خطاياهم، بل يريد لهم أيضًا أن يدركوا خلاصهم ويختبروه، وأن يتلذَّذوا في ثقةٍ بغفران خطاياهم لمجد الله.

والوعد الكتابيُّ بيقين الخلاص هو امتياز تتفرَّد به المسيحيَّة بين ديانات العالم، لكنَّه للأسف غير مُعترَف به من جميع الطوائف المسيحيَّة، إلى حدِّ أنَّه صار في بعض الأحيان أمرًا محظورًا.[1] أصاب جيمس ديني (James Denny) في قوله: “إنَّ الاختبار الحاسم لأيِّ شكل من أشكال المسيحيَّة هو موقفه من يقين الخلاص.”[2]

يجب ألاَّ نخلط بين يقين الخلاص والخلاص نفسه. فيمكن لأحدهم أن يكون قد نال الخلاص في المسيح لكن دون أن يتحلَّى بيقين من جهة خلاصه. وبالمثل، يمكن لأحدهم أن يتحلَّى بيقين من جهة خلاصه لكن دون أن يكون قد نال الخلاص بالفعل.

أسس يقين الخلاص

تقدِّم إقرارات سنودس دورت (1618-1619) وكذلك إقرار إيمان وستمنستر (1646) الإجابات الثلاث نفسها عن السؤال المتعلِّق بمصادر يقين الذين هم في المسيح من جهة خلاصهم.

  1. يأتي اليقين من الإيمان بوعود الله.
  2. ويأتي اليقين من شهادة الروح القدس لأرواحنا بأنَّنا أولاد الله.
  3. وينبع اليقين أيضًا من “وجود رغبة جادَّة ومقدَّسة في الحفاظ على ضمير صالح وعمل أعمال صالحة” (إقرارات دورت القسم 5، البند 10).

البراهين الكتابيَّة

يأتي اليقين من الإيمان بوعود الله.

فاليقين لا ينبع من قوَّة التفكير الإيجابيِّ بل من قوَّة الإنجيل.

فإنَّ طبيعة الإيمان بوعود الإنجيل تنطوي في حدِّ ذاتها على ثقة ويقين. فاليقين هو جزء من اختبار الثقة بوعود إلهٍ جدير بالثقة. فالإيمان يصدِّق كلام الله كما هو في قناعة تامَّة بأنَّ “… مَا وَعَدَ بِهِ [الله] هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا” (رومية 4: 21؛ عبرانيين 11: 1-2).

وبما أنَّ الإنجيل هو إنجيل الله (رومية 1: 1)، يمكن إذًا الوثوق به لأنَّ الله قادر أن يخلِّص، ولأنَّه أمين تجاه كلمة عهده (رومية 3: 3)، ولا يمكن أن يكذب (تيطس 1: 2؛ عبرانيين 6: 18)، أو أن يتغيَّر (ملاخي 3: 6). وبما أنَّ وعود الإنجيل هي بحسب الكتب (1 كورنثوس 15: 3-4)، يصير اليقين ممكنًا لأنَّ هذه الكتب نفسها كاتبها هو الله، ومن ثمَّ، فهي معصومة من الخطأ وجديرة بالثقة (2 تيموثاوس 3: 16-17؛ لوقا 1: 4؛ 2 بطرس 1: 20).

ويمكن فهم الأسس الموضوعيَّة والعامَّة لليقين عن طريق فهم ثلاثة أنواع من الأفكار متَّصلة إحداها بالأخرى، وهي: 1) التبنِّي في عائلة الله، 2) الاتِّحاد بالمسيح، 3) العمل الكافي للمسيح على الصليب.

  1. وُصِف التبنِّي بأنَّه أسمى بركة يمكن للمؤمن الحصول عليها. فالله أب محبٌّ وكامل، تبنَّى شعبًا لنفسه، مكوِّنًا بهذا عائلة أبديَّة، ابتدأها المسيح الذي هو ربٌّ وأخ بكر على حدٍّ سواء (رومية 8: 29). والله، بصفته أبًا مُحبًّا، يريد أن يعرف أولاده أنَّهم أحبَّاؤه (1 يوحنا 3: 1-3)، بدلاً من أن يظلُّوا في حالة ترقُّب، غير عالمين ما إذا كان معهم أم عليهم. ويقين الخلاص يمتدُّ بالطبيعة إلى الضمان الأبديِّ، الذي بموجبه يحفظ الله أولاده إلى أن يصحبهم إلى موطنهم الأبديِّ (يوحنا 10: 25-30). فإنَّ مصير مختاري الله مضمون في الأساس بين يدي الله الآب، والابن، والروح القدس (يوحنا 6: 37، 39). أبدى جي. آي. باكر (J.I. Packer) الملاحظة الجيِّدة التالية: “يحتاج الأولاد بالتبنِّي إلى يقينٍ في كونهم منتمين إلى تلك العائلة، وأيُّ أب كامل لا يمكن أن يحرم أولاده بالتبنِّي من هذا اليقين”.[3]
  2. كذلك، يؤكِّد الاتِّحاد بالمسيح أنَّ مصير كلِّ مؤمن مرتبط في ثبات وعلى نحو وثيق بمصير المسيَّا نفسه. فكلُّ بركة، بما في ذلك يقين الخلاص أيضًا، تأتي بواسطة المسيح وحده. وقد بدأ هذا الاتِّحاد من قَبْلِ خَلْقِ العالم، عندما عيَّن الله مسبقًا، في المحبَّة، شعبه ليكونوا أولادًا له بالتبنِّي. وهذا الاتِّحاد يتيح للمؤمن أن يدرك أنَّ خطاياه مغفورة، وأنَّه مفديٌّ (أفسس 1: 7)، ومُبرَّر (رومية 5: 9)، ومُصالَح (رومية 5: 11) في “الحاضر” بدم المسيح. ويتطلَّع الاتِّحاد بالمسيح أيضًا إلى المستقبل في ثقة، لأنَّ المؤمن الذي يؤمن بالإنجيل يُختَم بالروح القدس، الأمر الذي يكفل له ميراثه المستقبليَّ (أفسس 1: 3-4). فكلُّ مؤمن ليس فقط قد مات وقام ثانيةً مع المسيح، لكنَّه يوصف بأنَّه صعد وأنَّه يملك مع المسيح بالفعل في السماويَّات (أفسس 2: 6).
  3. وأخيرًا، لم يكن ليقين الإيمان أن يوجد لولا العمل البدليُّ العقابيُّ الذي عمله المسيح في الصليب، حاملاً الخطيَّة على عاتقه مرَّة واحدة وإلى الأبد، ومبيدًا إيَّاها (1 بطرس 2: 24؛ 3: 18؛ يوحنا 1: 29؛ عبرانيين 10: 10)، مسترضيًا بهذا غضب الله (رومية 3: 25؛ 1 يوحنا 2: 2)، ومجرِّدًا الشيطان من أسلحته (كولوسي 2: 15). وبهذا، فإنَّ الصليب هو إظهارٌ لكلٍّ من عدل الله ومحبَّته، وهو الأمر الذي يشكِّل أساسًا إضافيًّا ليقين الخلاص لدى المؤمن (1 يوحنا 1: 9؛ رومية 5: 8؛ 8: 31-37). فالقيامة تبرهن على نجاح عمل المسيح (رومية 4: 25)، وهزيمة الموت (رومية 8: 11)، كما أنَّها بمثابة برهان وافٍ يُقدَّم كي يتوب الجميع ويخلصوا (أعمال الرسل 17: 31)!

كانت الوعود المتعلِّقة بيقين الخلاص فكرة متكرِّرة بين كُتَّاب العهد الجديد، كما يتجلَّى في النصوص الكتابيَّة التالية: 1 يوحنا 5: 13؛ عبرانيين 4: 16؛ 1 كورنثوس 1: 8؛ 1 بطرس 1: 4-5؛ يهوذا 1: 24-25، ولا سيَّما رومية 8.

يأتي يقين الخلاص أيضًا من شهادة الروح القدس، الذي يشهد لروح المؤمن بشكل مباشر بأنَّه من أولاد الله.

يُعَدُّ هذا أساسًا واحدًا من أساسين شخصيَّين وثانويَّين ليقين الخلاص. فإنَّ روح التبنِّي الذي يمكِّن المؤمن من أن يصرخ قائلاً “يَا أَبَا ٱلْآبُ” (رومية 8: 15) يشهد بشكل مباشر أيضًا لكلِّ مؤمن بأنَّ الله هو أبوه، وبأنَّه واحد من أولاده (رومية 8: 16). قال جي. آي. باكر عن ذلك: “يمثِّل هذا وعيًا مباشرًا بمحبَّة الله الأبويَّة، يعطَى في نوعٍ من التواصل المباشر، كما لو كان الله يقول للنفس بشكل مباشر ‘أنا أحبُّك’ بواسطة كلمته”.[4] يوجد أهميَّة أن نقول إنَّ شهادة الروح القدس لروح الإنسان لا تتعلَّق بالآخرين. ومن ثَمَّ، لا يمكن للمؤمن أن يتحلَّى بيقين في خلاص الآخرين بقدر اليقين الذي يمكن أن يتحلَّى به عن نفسه.

يشهد الروح القدس لحقيقة تبنِّي المؤمن أيضًا من خلال البراهين على الخلاص، ومن خلال حياته المتغيِّرة.

ويمكن للحياة المتغيِّرة أن تكون بمثابة علامة، أي نوع غير مباشر من اليقين. وفيما يلي بعض الأمثلة:

*يقول 1 يوحنا 2: 3 إنَّ إطاعة الوصايا هي شهادة عن انتماء الشخص إلى الله.

*يعرِّف 1 يوحنا 3: 14 المحبَّة من نحو القدِّيسين بأنَّها برهانٌ على انتقال المحبِّ من الموت إلى الحياة.

*يحثُّ 2 بطرس 1: 4-11 المؤمنين على أن يجعلوا دعوتهم واختيارهم ثابتين، وذلك عن طريق بذلهم كلِّ اجتهاد في سبيل النموِّ في النضج والكمال، وصُنع ثمار التقوى.

حذَّرَ المصلحون والبيوريتانيُّون بصفة متكرِّرة من الخلط بين أسس وأسباب الخلاص وبين علامات هذا الخلاص، وهو الخلط الذي قد يصيب النفس بضررٍ. وفي حين أقرَّ روبرت موراي ماكين (Robert Murray M’Cheyne) بالحاجة إلى فحص النفس، حثَّ في حكمة أعضاء كنيسته على أن “يلقوا عشر نظرات على المسيح في مقابل كلِّ نظرة واحدة يلقونها على أنفسهم من الداخل”.[5]

التحذيرات الكتابيَّة ويقين الخلاص

كيف يجب أن نفهم ذلك التعارض الظاهريَّ الموجود بين التحذيرات الكتابيَّة ويقين الخلاص؟

وردت في الكتاب المقدَّس تحذيرات من الارتداد (عبرانيين 6: 4-6؛ متى 24: 3-14)، أو من اعتبار نعمة الله أمرًا مسلَّمًا به (1 كورنثوس 10: 12)، أو من الخجل من المسيح (مرقس 8: 38)، أو الاعتراف بالمسيح بالفم دون عمل مشيئة الآب (متى 7: 21-23)، أو الإيمان الزائف الذي لا تتبعه أعمال (يعقوب 2: 26)، أو الميل إلى الخضوع تحت الناموس مرَّة أخرى (غلاطية 5: 3-4)، أو ممارسة أعمال الجسد (1 كورنثوس 6: 9-10، 13-15). وكان البعض من هذه التحذيرات مصحوبًا بتهديدات بالرفض الأبديِّ في يوم الدينونة.

يحوي العهد الجديد أيضًا بعض الأمثلة لأناسٍ بدأوا مؤمنين، لكنَّهم لم يثبتوا حتَّى النهاية، مثل يهوذا، وديماس، وهِيمِينَايُسُ، وَٱلْإِسْكَنْدَرُ (1 تيموثاوس 1: 20). بالإضافة إلى ذلك، كلُّ مؤمن يعرف بصفة شخصيَّة أناسًا “دعوا باسم الربِّ” ذات مرَّة، لكنَّهم بعد ذلك أنكروا المسيح وارتدُّوا.

هل هذه التحذيرات الواضحة إذًا هي تحذيرات حقيقيَّة أم افتراضيَّة؟ بتعبير آخر، هل يمكن للمؤمنين أن يرتدُّوا ويهلكوا؟

هذه القضيَّة متفرِّعة من التعارض الظاهريِّ الأكبر بين سلطان الله ومسؤوليَّة الإنسان. ومبدأ التوافق أو الانسجام الإلهيِّ [divine compatibilism] يسعى بشكل جيِّد إلى الحفاظ على مكانة وأهميَّة كلتا الحقيقتين، دون إنكار وجود بعض الغموض. ونتيجةً لذلك، يجب ألاَّ نتحدَّث عن اليقين بطريقة تنكر أهميَّة وقيمة التحذيرات، ومسؤوليَّة كلِّ تلميذ عن بذل كلِّ ما لديه من جهد للمثابرة حتَّى النهاية، وذلك لأنَّ الإيمان الحقيقيَّ، بحكم تعريفه، لا بُدَّ أن يثابر حتَّى النهاية. لكن، يجب ألاَّ نتحدَّث أيضًا عن التحذيرات بطريقة تحطُّ من قدر الوعود الواضحة بأنَّ الذين سبق الله فعرفهم وسبق فعيَّنهم هو مجَّدهم أيضًا (رومية 8: 29).

يساعدنا مبدأ التوافق الإلهيِّ على تجنُّب كلٍّ من خطأ “مذهب الإيمان السهل” من ناحية، وعذاب النفس الناتج عن الفحص الداخليِّ المفرط من ناحية أخرى. ذكر د. أ. كارسون (D. A. Carson) أنَّ التحذيرات من الارتداد لا تبطل وعود الله، لكنَّها بالأحرى تحفِّز على المثابرة.[6] فينبغي ألاَّ تولِد وعود الله تبلُّدًا أو عدم مبالاة، بل أن تشجِّع على الغيرة، والامتنان، والتقدير لأمانة الله.

بحسب الظاهر، وبالنظر إلى الأمر من الخارج، يرتدُّ المؤمنون بالفعل ويهلكون. لكن بحسب منظور كلٍّ من الله والمختارين أنفسهم، لن يهلك المؤمنون البتَّة.

كلُّ وعود الله، بما في ذلك تلك الوعود التي تحذِّر القدِّيسين، هي جزء من وسائط النعمة التي يستخدمها الله لحفظ شعبه. أمَّا كيفيَّة تطبيق وعود الله، بما في ذلك التأديب الكنسيّ (1 كورنثوس 5: 5)، فهي مسألة تخضع للحكمة الرعويَّة، لأنَّ كلاًّ من التحذيرات ومتلقِّينها، سواء في الكتاب المقَّدس أو في الحياة الواقعيَّة، ينتمون إلى مجموعة واسعة من الخلفيَّات المختلفة. وبالمقارنة البسيطة بين 1 كورنثوس 1-4؛ غلاطية 1-3؛ عبرانيين 6، تتأكَّد هذه الفكرة.

في بعض الأحيان، تكون الدعوة إلى المثابرة والوعد بالحفظ الإلهيِّ متوافقين معًا كتوافق اليد مع قفَّازها. فالسبب الذي لأجله نحن مدعوُّون إلى تتميم خلاصنا بخوف ورعدة هو أنَّ “ٱللهَ هُوَ ٱلْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسَرَّةِ” (فيلبي 2: 12-13).

اعتراضات على يقين الخلاص

في تاريخ الكنيسة

عادةً ما يكون الاعتراض اللاهوتيُّ على يقين الخلاص مرتبطًا بنظرة خاطئة عن التبرير وعن نعمة الله السياديَّة.

تجاوبت الكاثوليكيَّة الرومانيَّة مع وضوح المصلحين بشأن يقين الخلاص عن طريق التصريح على نحو قاطع بأنَّ “لا أحد يقدر أن يَعلَم في يقين إيمان لا يشوبه خطأ بأنَّه قد نال نعمة الله.”[7] ويعود إنكار الكاثوليكيَّة ليقين الخلاص إلى تحويلها للتبرير إلى عمليَّة (process) تُجرى على مدار فترة زمنيَّة، مع إمكانيَّة فقدانه عن طريق ارتكاب الخطايا التي للموت. باختصار، التقديس (بحسب هذا الفهم) يسبق التبرير النهائيَّ، ويشكِّل أساسًا له، ويعود ذلك إلى الادِّعاء بأنَّ الله لا يمكن أن يبرِّر خاطئًا وهو لا يزال خاطئًا. بالإضافة إلى ذلك، أُدينَ أولئك الذين ادَّعوا تحلِّيهم باليقين في كونهم ضمن المختارين، دون إعلان خاصٍّ. وقد كرَّرت الكاثوليكيَّة الخطأ الذي ساد في القرون الوسطى، والذي سمح للإيمان أن يرجو في السماء، رافضًا في الوقت ذاته أيَّ يقين في الوصول إلى هناك.

كانت الأسس الموضوعيَّة ليقين الخلاص أمرًا محوريًّا لدى المصلحين، في حين كانت الأسس الشخصيَّة والذاتيَّة ليقين الخلاص أمرًا محوريًّا لدى البيوريتانيِّين، وذلك دون أن ينكر أيٌّ منهم وجود كلا النوعين من الأسس. ومع ذلك، مال البيوريتانيُّون إلى النظر إلى يقين الخلاص (سواء الحاضر أو المستقبليّ) على أنَّه ليس ضروريًّا للإيمان، وأضفوا قيمة زائدة عن الحدِّ على الأسس الذاتيَّة والثانويَّة ليقين الخلاص، الأمر الذي نتج عنه افتقار العديد من المؤمنين إلى هذا اليقين بسبب فحصهم المفرط لأنفسهم. وبهذا، تحوَّل يقين الخلاص من أن يكون واحدًا من “… جوانب الإيمان إلى أن يصير إنجازًا يتحقَّق بعد الإيمان، أي تحوَّل من كونه امتيازًا إلى كونه واجبًا…”[8]

في القرن الثامن عشر، أيَّد ويسلي تصريح لوثر بأنَّ يقين الخلاص هو ضمن جوهر الإيمان، وكذلك بدور الروح القدس المتمثِّل في تقديم شهادة مباشرة. ومع ذلك، حصر ويسلي يقين الخلاص في “القبول من الله في الحاضر فحسب، ولا يمكن أن يوجد أيُّ يقين حاليٍّ للثبات حتَّى النهاية.”[9]

في فترة زمنيَّة أحدث، لعبت حركة “المنظور الجديد عن بولس” دورًا في الإضعاف من أسس يقين الخلاص، بسبب نظرتها غير واضحة المعالم عن التبرير. فقد تحوَّل التبرير بشكلٍ ما من كونه مقامًا قضائيًّا وقانونيًّا للبشر أمام الله القاضي والديَّان إلى كونه اتِّحادًا مع شعب الله في العهد، وانضمامًا إليهم، على أساس أمانة الشخص نفسه. وقيل في صياغة واضحة وصريحة إنَّنا ندخل إلى الإيمان بالنعمة لكنَّنا نبقى فيه بالأعمال. ومع هذا الحيدان عن الإيمان الشخصيِّ الذي يتَّكل على المسيح، ويؤدِّي إلى خلاص الإنسان، جاء قدر من الفقدان لليقين التامِّ في الخلاص.[10]

الشكوك ويقين الخلاص

ليس يقين الخلاص من نصيب طبقة مختارة من المؤمنين ممَّن لا يتشكَّكون البتَّة في إيمانهم أو خلاصهم. فليس نقيض الإيمان هو الشكُّ بل عدم الإيمان، ولا بُدَّ أن يوجد قدر من الشكِّ داخل أيِّ مؤمن. فإنَّ صرخة “أؤمن فأعنِ عدم إيماني” هي إلى حدٍّ ما السمة التي تميِّز الحياة المسيحيَّة العاديَّة. أقرَّ كالفن بأنَّنا “لا يمكن أن نتصوَّر وجود أيِّ يقين غير ملوَّثٍ ببعض الشكِّ.”[11] ولهذا قيل في رسالة يهوذا 22: “ٱرْحَمُوا ٱلْبَعْضَ مُمَيِّزِينَ” (“أظْهِرُوا رَحْمَةً لِلمُتَشَكِّكِينَ”، الترجمة العربية المبسطة).

تنشأ الشكوك لعدَّة أسباب مختلفة، منها العصيان الصريح، والخطايا السرِّيَّة، ونقص المعرفة بوعود الله، وسوء فهم للألم (عبرانيين 12: 7)، والأرق، واضطراب في الصحَّة العقليَّة أو النفسيَّة، على سبيل المثال لا الحصر. وتشخيص السبب الصحيح (أو الأسباب الصحيحة) للشكِّ والافتقار إلى اليقين هو مسألة رعويَّة مهمَّة.

إنَّ الشيطان هو المشتكي الأعظم الذي يغلِّف الأكاذيب بأنصاف الحقائق، بهدف تضليل وخداع المختارين، وسلبهم يقينهم. فهو عدوُّ شعب الله، وإحدى استراتيجيَّاته هي أن يصوِّب سهام الشكِّ نحو المؤمنين، عن طريق الشكاية الكاذبة على الإخوة، مع أنَّه هو نفسه قد جُرِّد وأُشهِر جهارًا في الصليب (كولوسي 2: 15). قال جويل بيكي هذه الكلمات: “… إذا لم يستطع الشيطان أن يصيبنا بضررٍ في طاعتنا، سيصيبنا بضرر في راحتنا وعزائنا.”[12] ويُعَدُّ سعي المؤمن وراء يقين الخلاص مسألة حرب روحيَّة (أفسس 6: 12). ويتألَّف السلاح الدفاعيُّ للمؤمن في الأساس من عناصر مختلفة من الإنجيل (الحقُّ، والخلاص، والبرُّ، والسلام، وغير ذلك)، وهي العناصر التي يكرز بها المؤمن لنفسه بالصلاة. وتُطفأ سهام الشكِّ الملتهبة هذه بواسطة ترس الإيمان بوعود الإنجيل (أفسس 6: 16).

لِمَ يمثِّل يقين الخلاص أهميَّة؟

يمثِّل يقين الخلاص أهميَّة ليس فقط لأنَّه يمدُّ المؤمنين بالتعزية الشديدة، بل لأنَّه يحفِّز أيضًا على عيش حياة القداسة المليئة بالفرح، وبالتسبيح والحمد الذي لا ينتهي لله.

سلَّط مارتن لويد جونز (Martyn-Lloyd Jones) الضوء على ما يكون على المحكِّ عندما لا يتحلَّى المرء بيقين الخلاص: “علينا أن نهتمَّ جميعًا بيقيننا في الخلاص، لأنَّنا إذا افتقرنا إلى اليقين افتقرنا إلى الفرح، وإذا افتقرنا إلى الفرح ستكون حياتنا على الأرجح بائسة وسيِّئة.”[13]


[1] Cardinal Robert Bellarmine (1542–1621) wrote: “The greatest of all Protestant heresies is assurance.”

[2] J. I. Packer, a conference address, ‘Sanctification and Assurance’ sermonaudio.com.

[3] J. I. Packer, Knowing God, (London: Hodder and Stoughton, 1975) 252.

[4] J.I. Packer, a conference address, “Assurance.”

[5] Andrew Bonar, ed., Memoir and Remains of the Rev. Robert Murray M`Cheyne (Edinburgh, 1894), 293.

[6] D. A. Carson, “Reflections on Christian Assurance,” WTJ 54 (1992): 1-29, p25.

[7] Council of Trent 1547.8.

[8] A. N. S. Lane, “Calvin’s Doctrine of Assurance,” Vox Evangelica 11 (1979): 32-54, 53

[9] J.I. Packer, Knowing God, 251.

[10] Bryan Chappell “An explanation of the New Perspective on Paul.”

[11] John Calvin, Institutes, 3.2.16, 17.

[12] Joel R. Beeke, Knowing and Growing in Assurance of Faith, 116.

[13] Martyn-Lloyd Jones, The Sons of God, Rom. 8:5-8, 16.

شارك مع أصدقائك