التعريف
اللاهوت التحليلي هو فرع من فروع علم اللاهوت يهتم بالمسائل العقائدِيَّة في الوقت الذي يكون فيه دقيقًا جدًّا مع اللغة، طامِحًا إلى إنتاج أعمال ذات جودةٍ عالية من الفكر والحُجَّة وفقًا للمعايير الفلسفيَّة.
الموجَز
يُعتَبَر اللاهوت التحليلي مثالًا حديثًا على التفاعُل بين الفلسفة واللاهوت، فقد سَعَت الفلسفة التحليليَّة من جانبها إلى استخدام اللغة على نحوٍ أكثر دِقَّةً داخل الخطاب الفلسفي؛ حيث يسعى الكثير من ممارسيها إلى بناء أنساق فكريَّة باستخدام مصطلحات مُحَدَّدَة بدقَّة. عندما تفاعل اللاهوتيُّون المسيحيُّون مع الفلسفة التحليليَّة بادِئين جِدِّيًّا بكتابٍ أنتجه عَصْفٌ ذِهنِيٌّ بين أوليڤر كريسپ ومايكل رِيَا، بعنوان Analytic Theology: New Essays in the Philosophy of Theology، سعوا إلى استعمال الكثير من المناهج التحليليَّة للتعامُل مع مجموعة واسعة من القضايا اللاهوتيَّة والتاريخيَّة. بينما أصبح اللاهوت التحليلي يُهَيمِن على النقاشات اللاهوتيَّة الحالية حول القضايا الفلسفيَّة، لا يزال مُمَارِسوه بحاجة إلى التصدي للقضايا المُتَعَلِّقَة بالسُّلطَة المعياريَّة التي يمتلكها الكتاب المقدس والإعلان الإلهي.
لقد أثَّرت الفلسفة (بتعريفها بأنَّها التعبير عن نظرة إلى العالم والدفاع عنها) واللاهوت (بتعريفه بأنَّه تطبيق إعلان الله على جميع مجالات الحياة البشريَّة) في بعضهما البعض بشكل كبير على مَرِّ القرون، ويُعتَبَر اللاهوت التحليلي مثالًا حديثًا إلى حدٍّ ما على هذا التفاعُل.
دعونا ننظر أوَّلًا إلى جانبه الفلسفي. عادةً ما سَعَت الفلسفة الغربيَّة إلى بناء هيكل من المعرفة البشرية من خلال استخدامها العقل البشري والتجربة الحِسِّيَّة، غير أنَّ نتائج هذا المَسْعَى قد خَيَّبَت آمال الكثيرين؛ فعلى الرغم من إمكانية تَحَدُّثنا عن “تَقَدُّمٍ” في العلوم الطبيعيَّة، كعلوم الفَلَك والفيزياء والكيمياء، يبدو أنَّ الفلاسفة يُواصِلون اليوم مناقشة نفس المشكلات التي ناقشوها منذ آلاف السنين، فلماذا كان هناك القليل جدًّا من التَّقَدُّم في عِلْم الفلسفة؟ أَعْرَبَ فلاسفة مثل برتراند راسِل، جي. إي. مُور، لودڤيج ڤيتجنشتاين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عن وجهة نظر مفادها أنَّ المشكلة كانت في اللغة، فقد جادلت هذه المجموعة بأنَّ الفلاسفة في إطار حديثهم عن موضوع معين كان يتحدث كُلٌّ منهم في واقع الأمر عن موضوع مختلف؛ وذلك لأنَّهم لم يُعَبِّروا عن آرائهم بوضوح.
خلال القرن العشرين سعى العديد من الفلاسفة إلى التركيز بقوة كبيرة على توضيح اللغة في الخطاب الفلسفي، وأصبحت هذه الحركة تُعرَف باسم “التحليل الفلسفي”، أو “تحليل اللغة”، أو “الفلسفة التحليليَّة”. تَخَلَّى بعض الفلاسفة التحليليِّين عن البرنامج الفلسفي التقليدي الخاص ببناء النَّسَق[1] بِحُجَّة أنَّ الفلاسفة لا يمكنهم الوصول إلى حقائق غير مُتَوَفِّرة في العلوم، إلَّا أنَّ آخرين مثل ڤيتجنشتاين جادلوا بأنَّه بمجرد توضيح اللغة يمكننا الحصول على صورةٍ حقيقيَّةٍ لِمَا عليه العالم.
مَرَّت الفلسفة التحليليَّة بعددٍ من المراحل في القرن العشرين، فقد دافعت كتابات راسِل وڤيتجنشتاين المُبَكِّرة عن نظامٍ دعاه راسِل بـ “الذَّرِّيَّة المنطقيَّة”، والذي حاول اختزال اللغة إلى عناصرها الجوهريَّة الأكثر صِغَرًا، والتي كان يُعتَقَد أنَّها تُناظِر بِنيَة العالم الجوهريَّة. كان هذا تأكيدًا ميتافيزيقيًّا عن طبيعة الواقع بأنَّ العالم يتكون من “وَقَائِع [حقائق] ذَرِّيَّة” أوليَّة، ويمكن تمثيل كُلٍّ من هذه الوقائع بـ “جُمْلَةٍ ذَرِّيَّة” في لغةٍ يُفتَرَض أنَّها كاملة بحيث يمكن للجُمَل في هذه اللغة أن تُشَكِّل صورة كاملة للعالم.
غير أنَّ الفلاسفة التحليليِّين اللاحقين سعوا إلى هَجْر الميتافيزيقا تمامًا، فقد جادلت “الوضعيَّة المنطقيَّة” بأنَّ اللغة لا يمكنها إعطاء تأكيدٍ ذا معنى ما لم يَكُنْ ممكنًا التَّحَقُّق من هذا التأكيد أو إبطاله بِطُرُقٍ شِبه علميَّة. بالنسبة للوضعيِّين، تَضَمَّن هذا أنَّ اللغة الدينيَّة أو الميتافيزيقيَّة “بلا معنى من الناحية المعرفِيَّة“؛[2] لأنَّها غير قادرة على إعطاء تأكيد صحيح أو خاطئ. وَحْدَهُ العِلْم إذًا يُتيح لنا الوصول إلى وقائِع [حقائق] العالم، والوظيفة الوحيدة المُتَبَقِّيَة للفلسفة هي توضيح لغة العِلْم. ومع ذلك فَقَدْ فَقَدَت الوضعيَّة المنطقيَّة حُظوَتها عندما قيل إنَّ الأطروحات الوضعيَّة ذاتها لا يمكنها اجتياز اختبار التَّحَقُّق.
ما حَلَّ مَحَلَّ الوضعيَّة المنطقيَّة باعتباره المنهج المُسَيطِر عند الفلاسفة التحليليِّين كان “فلسفة اللغة العاديَّة” لڤيتجنشتاين المُتَأَخِّر،[3] فقد جادل ڤيتجنشتاين في كتابه “بحوث فلسفيَّة” أو Philosophical Investigations بأنَّ هدف الفلسفة ليس هو (كما في الحركات التحليليَّة السابقة) إعادة بناء اللغة لجعلها أكثر وضوحًا، وإنَّما قبول اللغة العاديَّة كما هي، ودراسة الوظائف التي تقوم بها في الحياة البشريَّة، وقد دعا ڤيتجنشتاين هذه الوظائف “ألعاب اللغة”. لقد رأى ڤيتجنشتاين أنَّ عمل الفلسفة يكون قد تَمَّ عندما نكون قد تَعَلَّمنا قَصْر لغتنا على الوظائف التي تلعبها في الحياة البشريَّة العاديَّة، ولكن تساءل الفلاسفة التحليليِّون الآخرون عَمَّا إذا لم يَكُن ممكنًا أيضًا استخدام التحليل بطريقةٍ أكثر إيجابيَّة لتطوير لغات تقنيَّة في مجالاتٍ بعيدة نوعًا ما عن الحياة العاديَّة.
تفاعل اللاهوتيُّون والفلاسفة المسيحيُّون مع كل هذه التطوُّرات الفلسفيَّة. لقد رأوا، بطبيعة الحال، الوضعيَّة المنطقيَّة تَحَدِّيًا خطيرًا؛ لأنَّه لو كانت الوضعيَّة المنطقيَّة صحيحة لَكَان فرع علم اللاهوت بالكامل هُرَاءً إلى حدٍّ كبير، ولكن سعى الكثير من اللاهوتيِّين إلى الاستخدام المُؤَيِّد لفلسفة اللغة العاديَّة والحركات التحليليَّة الأخرى التي عَامَلَت الدين بشيء من الاحترام. سُمِّيَت هذه النقاشات بأسماءٍ مثل “فلسفة الدين” و”اللاهوت الفلسفي”، غير أنَّ هذه العبارات قد اسْتُخدِمَت لقرونٍ عديدة حتى الآن ولم تلتقط ما يُمَيِّز الحوار بين اللاهوت والفلسفة التحليليَّة.
إلَّا أنَّه في أواخِر القرن العشرين كان هناك تفاعُل جوهري بين الفلسفة التحليليَّة وبين الفلاسفة الدينيِّين وعُلَمَاء اللاهوت، وكان من ضِمْن المُفَكِّرين المسيحيِّين الذين ارتبطوا بهذا التَّطَوُّر ويليام أُلستِن، آر. بي. بريثويت، ويليام كريستيان، توماس فلينت، پول هِلم، پول هولمر، چورچ ماڤروديس، توماس ڤي. موريس، ألڤِن پلانتينجا، إيان رامزي، إليانور ستامپ، نيكولاس والترستورف. كانت The Society of Christian Philosophers أو جمعية الفلاسفة المسيحيِّين (التي تأسَّست عام 1978)، ومَجَلَّة Faith and Philosophy (أو الإيمان والفلسفة) التابِعَة لها من العوامل الرئيسيَّة المُؤَثِّرة في تشجيع مُقارَبَة العقائد المسيحيَّة باستخدام نَهْجٍ فلسفيٍّ تحليليٍّ.
لقد استمر الكثير من هؤلاء الفلاسفة بالفعل في الكتابة والتعليم في القرن الحادي والعشرين، غير أنَّ اسم “اللاهوت التحليلي” يُطلَق على حركةٍ خاصَّة بالعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لَخَّص مايكل رِيَا، أحد مُؤَسِّسي هذه الحركة، النقاشات التي دارت في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي أَدَّتْ إلى ظهور الكتاب الذي حَرَّره هو وأوليڤر كريسپ، والذي أعطى إشارة البدء لهذه الحركة، على النحو التالي:
ونحن نناقش المسألة اعتقدنا أنَّه رُبَّما قد يتطلَّب الأمر كتابًا، وهو كتابٌ اُخْتِيرَ عنوانه على نحوٍ مُتَحَيِّزٍ: Analytic Theology أو “اللاهوت التحليلي”، وسيشتمل هذا الكتاب على عددٍ قليلٍ من المقالات القصيرة التي تُقَدِّم الحُجَج المُؤَيِّدة إلى اللاهوتيِّين بالنيابة عن المناهج التحليليَّة في تناول الموضوعات اللاهوتيَّة، وعلى عددٍ قليلٍ من المقالات القصيرة التي قَدَّمَتْ نَقْدًا لمثل هذه المناهج، وعلى عددٍ قليلٍ آخر من المقالات القصيرة التي تناولت بالبحث بعض القضايا التاريخيَّة والمنهجيَّة والإِبِسْتِيمُولوچِيَّة[4] التي بَدَتْ أنَّها تَكمُن وراء الانقسام الحادث بين التَّخصُّصات [يقصد بين التَّخصُّصات اللاهوتيَّة والفلسفيَّة، المُتَرجِم]. بشكل عام، كانت مُهِمَّتنا الرئيسيَّة في الكتاب هي أن نقول شيئًا يسيرًا عمَّا نعتقد أنَّ “اللاهوت التحليلي” يقوم عليه، ثم نبني حُجَّةً تَراكُمِيَّةً نوعًا ما تُؤيِّد كَوْنَه مشروعًا جديرًا بالاهتمام (Michael Rea, “Analytic Theology: Precis,” 573).
أحيانًا يُعتَبَر الكتاب الذي نتأمَّله هنا Analytic Theology: New Essays in the Philosophy of Theology بداية اللاهوت التحليلي بوصفه حركةً ما. سُرْعان ما نُشِرَت المقالات النَّقْدِيَّة بين مُؤَيِّدة ومُعارِضَة، ودار نقاش بارِز حول الكتاب في the American Academy of Religion (أو أكاديميَّة الدين الأمريكيَّة) عام 2012، وبدأت Journal of Analytic Theology أو “مَجَلَّة اللاهوت التحليلي” عام 2013، ومنذ ذلك الحين تم نَشْر عدد كبير جدًّا من الكُتُب والمقالات التي تربط نفسها صراحةً بالمنهج التحليليّ.
مَا مِنْ فرقٍ صريحٍ بين هذه الحركة والتفاعُلات التي سَبَقَتها بين اللاهوت والفلسفة التحليليَّة، إلَّا أنَّ التفاعلات السابقة كانت تميل أكثر إلى التركيز على القضايا التي شَاعَتْ مناقشتها في تاريخ الفلسفة، مثل: وجود الله، وطبيعة الشر، وطبيعة الحقيقة والخير؛ أمَّا اللاهوت التحليلي فيتميز بِكَوْنِهِ ذا طبيعةٍ لاهوتِيَّةٍ أكثر من المدارس السابقة، فهو يقتحم المسائل العقائِدِيَّة (في الكثير من الديانات، ولكن بالأَخَصِّ في المسيحيَّة) التي كانت مُقتَصِرَةً في السابق على علوم اللاهوت التفسيري (التفسير النَّصِّي)، واللاهوت التاريخي، واللاهوت النظامي، وتتضمَّن هذه المسائل الثالوث، السيادة الإلهيَّة، الإرادة الحُرَّة، تَجَسُّد المسيح، طبيعتيه، قيامته، علاقة الإيمان بالتبرير، طبيعة الليتورچِيا والأسرار المقدسة، السماء، الجحيم (اُنظُرْ المقال القوي جدًّا لألڤِن پلانتينجا: “Advice to Christian Philosophers” أو نصائح إلى الفلاسفة المسيحيِّين). وقد ناقش اللاهوتِيُّون التحليليُّون أيضًا التطوُّرات في تاريخ اللاهوت: قوانين الإيمان، إقرارات الإيمان، المُفَكِّرين المُهِمِّين كأوغسطينوس وأنسلم والأكويني. نَجِد في كتابات اللاهوت التحليلي تركيزًا على تعريف المصطلحات بِدِقَّةٍ كبيرة، وعلى تمييز الاستخدامات المتنوعة للمصطلحات، وعلى التحليل المُتَعَمِّق لمنطق الحُجَج اللاهوتيَّة، وعلى بحث التطوُّرات الحاصِلَة بين الفلاسفة التحليليِّين العَلْمَانِيِّين ذات الصِّلَة باللاهوت.
أصبح اللاهوت التحليلي يُهَيمِن على النقاشات حول القضايا الفلسفيَّة بين المسيحيِّين في السنوات الأخيرة، وقد تم الاعتراف بطموحه إلى إنتاج أعمال ذات جودةٍ عالية من الفِكْر والحُجَّة وتقدير هذا الطموح، كما هو الحال أيضًا مع استخدامه أدوات منطقيَّة وتحليليَّة أكثر حَدَاثَةً من غيرها. لكن في تقديري، كان اللاهوت التحليلي، كالأشكال السابقة من التفاعُل بين الفلسفة واللاهوت، ضعيفًا في فشله في تطبيق المعايير اللاهوتيَّة على عمل الفلسفة نفسها، فالكثير من الكتابات داخِل حركة اللاهوت التحليلي، وحتَّى كتابات كَتَبَها أشخاص مُلتزمون بالمسيح على نحوٍ لا يقبل الشك، تبدو وكأنَّها محاولات للبقاء على الحِيَاد دينيًّا كما لو أنَّ الكتاب المقدس وإقرارات الإيمان ليس لديهما أي شيءٍ حاكِمٍ يقولانه بشأن القضايا المطروحة. يحتاج اللاهوتيُّون التحليليُّون إلى التَّطَرُّق جِدِّيًّا إلى مسألة كيفية توجيه الإعلان الإلهي الفِكْرَ الفلسفي، كيف يُوَجِّه الكتاب المقدس تفكير الفيلسوف؟ وكيف تُؤثِّر السُّلطَة الكتابيَّة من ثَمَّ على استنتاجات الجَدَل الفلسفي؟
[1] يحاول أسلوب “بناء النَّسَق” الميتافيزيقي الإجابة على جميع الأسئلة المُهِمَّة بطريقة متماسكة ومترابطة منطقيًّا، مُقَدِّمًا صورة كاملة للعالم (المُتَرجِم).
[2] قد تكون هذه العبارات ذات معنى من ناحية التأثير على المشاعر أو السلوك، لكنَّها بلا معنى من ناحية كونها صوابًا أو خطأً؛ ومن ثَمَّ فهي لا تنقل معرفةً ما (المُتَرجِم).
[3] هو لودڤيج ڤيتجنشتاين نفسه المذكور قبلًا؛ حيث كان لڤيتجنشتاين مرحلتان من الفكر: مرحلة مبكرة ومرحلة متأخرة (المُتَرجِم).
[4] أي المُتَعَلِّقة بفرع الإِبِسْتِيمُولوچِيا في الفلسفة، وهو الفرع المَعْنِي بدراسة المعرفة (المُتَرجِم).