تميز تعليم الرب يسوع باستخدامه العديد من الأمثال والقصص التي تعد وسيلة تعليمية فعالة. فقصص الأمثال قريبة جدًا من حياة المستمعين اليومية. كما أن اللغة التصويرية للأمثال قادرة على تجسيد المعاني الروحية بشكل يَعلَق بالذهن أكثر من الحقائق المجرّدة.
ولهذه الفوائد التي لا يمكن إنكارها للتعليم بالأمثال يعتقد البعض أن ما نقرأه عن الرب يسوع: “وَبِدُونِ مَثَلٍ لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ” (مرقس٣٤:٤أ) كان هو السمة الغالبة لتعليمه للجميع وفي أغلب أو كل أوقات خدمته.
على أن المثير للانتباه حقًا، هو الجزء الثاني من نفس الآية والذي يضفي خصوصية لاستخدام الأمثال: “وَأَمَّا عَلَى ٱنـْفِرَادٍ فَكَانَ يُفَسِّرُ لِتَلاَمِيذِهِ كُلَّ شيء.” (مرقس٣٤:٤ب).
الانتباه للجزء الثاني من الآية يوضح كيف أنفرد التلاميذ فقط بامتياز تفسير الرب يسوع لمضامين الأمثال لهم على انفراد، بينما ظلت الأمثال ألغازًا مغلقة بالنسية للآخرين. للإيضاح، نقدم النقاط التالية بخصوص استخدام الرب يسوع للأمثال في تعليمه.
متى بدأ الرب يسوع في استخدام الأمثال؟
لم يكن تعليم الرب يسوع لشعب إسرائيل دائمًا من خلال أمثال. تحديدًا، لم يستخدم الرب يسوع الأمثال في الجزء الأول من خدمته. بل أن الموعظة على الجبل في متى ٥-٧ التي شكلت دستور حياة التلمذة لم تحتو على أمثال بالمعنى المتعارف عليه في متى ١٣. لكن توقيت استخدام الأمثال، ولاسيما في إنجيلي مرقس ومتى، يشكل نقطة تحول محورية يجب الانتباه إليها.
أشرت في مقال سابق عن كيف شكل رفض القيادة الدينية الفريسية لشخص وعمل الرب يسوع، وتفسير قوة الروح القدس العامل فيه على أنه روح شرير “بعلزبول” نقطة تحول في علاقة الرب يسوع بالقيادة الدينية لإسرائيل ممثلة في الفريسيين. هذا الرفض القاطع والمتعمد فسره الرب يسوع على أنه تجديف على الروح القدس. كانت النتيجة المباشرة لتجديف الفريسيين على الروح القدس وشيطنة شخص الرب يسوع ورفضهم له في الأصحاح الثاني عشر من إنجيل متى (وما يقابله في بشارة مرقس الأصحاح الثالث)
ولأول مرة نقرأ عن تعليم يسوع “كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَثِيراً بِأَمْثَالٍ” (مرقس 4: 2؛ أيضاً متى 13: 3). وتحيَّر التلاميذ من تغير أسلوب المسيح في التعليم، فشرح لهم المسيح سبب إستخدامه للأمثال في التعليم: “لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأَمَّا لِأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ…مِنْ أَجْلِ هَذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ لأَنَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ” (متى 13: 11، 13).
باختصار بدأ المسيح يحجب الحقائق الروحية لمن احتقرها ورفضها من خلال أمثال يستحيل فهمها إلا لمن يهتم ويأتي إليه طالبًا الإيضاح. وهم في سياق الإنجيل تلاميذه المؤمنين.
ما هو مدلول استخدام الرب يسوع للأمثال؟
انطلاقًا من النقطة السابقة، وحين سأله تلاميذه قائلين: “لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ؟” (متى 13: 10)، أوضح يسوع أن استخدامه للأمثال كان لتوضيح الحقائق الروحية لأولئك الذين أرادوا أن يعرفوها، وحجبها عن أولئك الرافضين غير المبالين. وهم في هذا السياق الفريسيون المجدفون على الروح القدس. أدرك يسوع المسيح أن في جيله تمت نبوة إشعياء النبي (إشعياء 6: 9-10). وكانت الأمثال لهم علامة دينونة إلهية على الجيل اليهودي الذي رفض المسيا. أما للتلاميذ فكانت مزيدًا من الاستنارة والفهم بشكل تصويري. وهي كذلك للقارئ في يومنا هذا لأنها ببساطة مصحوبة بالتفسير، وهو أمر لم يتمتع به الفريسيون لعدم إيمانهم. لذلك، فإن رد الرب يسوع أوضح بما لا يدع مجال للشك في رده هذه الحقيقة:
فَأَجَابَ وقَالَ لَهُم: «لأَنـَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ، وَأَمَّا لأُولَئِكَ فَلَمْ يُعْطَ. فَإِنَّ مَنْ لَهُ سَيُعْطَى وَيُزَادُ، وَأَمَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ فَـٱلَّذِي عِنْدَهُ سَيُؤْخَذُ مِنْهُ. مِنْ أَجْلِ هَذَا أُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ، لأَنـَّهُمْ مُبْصِرِينَ لاَ يُبْصِرُونَ، وَسَامِعِينَ لاَ يَسْمَعُونَ وَلاَ يَفْهَمُونَ. فَقَدْ تَمَّتْ فِيهِمْ نـُبُوَّةُ إِشَعْيَاءَ ٱلقَائِلَة: تَسْمَعُونَ سَمْعاً وَلاَ تَفْهَمُونَ، وَمُبْصِرِينَ تـُبْصِرُونَ وَلاَ تَنْظُرُونَ. لأَنَّ قَلْبَ هَذَا ٱلشَّعْبِ قَدْ غَلُظَ، وَآذَانَهُمْ قَدْ ثَقُلَ سَمَاعُهَا. وَغَمَّضُوا عُيُونَهُمْ، لِئَلاَّ يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَسْمَعُوا بِآذَانِهِمْ، وَيَفْهَمُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ. وَلَكِنْ طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنـَّهَا تـُبْصِرُ، وَلآذَانِكُمْ لأَنـَّهَا تَسْمَعُ. (متى ١١:١٣-١٦)
نعم، من له الإيمان بالرب يسوع كالمسيا (التلاميذ) سيعطى ويزاد فهمًا وإدراكًا لحقائق الملكوت. وأما من ليس له هذا الإيمان (الفريسيون) فالذي عنده من استيعاب لرسالة المسيح وتعليمه سيؤخذ منه لأنه سيسمع أمثال تكون له بمثابة ألغاز
هذا هو تأثير الأمثال المزدوج في سياق البشائر، ولهذا علمهم بأمثال!