الغرض من هذه السلسلة هو عرض مختصر لوجهات النظر الكتابية المتباينة لتعاليم الكتاب المقدس عن الطلاق والزواج الثاني. وفي الحقيقة، أنا مُدرك للتعقيد المرتبط بدراسة موضوع كهذا. ولا أقصد من خلال محاولة عرض وجهات النظر الأربعة المُختلف عليها بين المسيحيين الكتابيين الإنجيليين حول قضيّة الطلاق والزواج الثاني أن جميعها على نفس المسافة من النص الكتابي أو أن كُلها صحيحة.
لكن، إن كان القارئ العربي جاد في تمجيد الله في دراسته للكلمة المقدسة والتي لها السلطان النهائي في تشكيل حياة المؤمنين والكنيسة، فمن الضروري أن يُنصت لاحتمالات التفسير المتباينة، لاسيما التي تحترم الأسس اللغوية والتاريخية للنص واجتهادات المؤمنين في أكثر من عصر وخلفية ثقافية قبل الوصول لنتيجة نهائية.
في هذا المقال الأول من هذه السلسلة، سأعرض ثلاثة عوامل هامة تلعب دورًا رئيسيًا في تباين وجهات النظر الكتابية حول هذه القضية. يلي ذلك عرض للأساس المشترك الذي تنطلق منه وجهات النظر الكتابية على اختلافها. وأخيرًا توصيات رعوية تُجاه الأزواج والزوجات الذين اختبروا فشلًا في زواجهم.
أولًا: عوامل الاختلاف
إن كان لسان حالك يتساءل قائلًا: لماذا أربع وجهات نظر؟ وما هي العوامل التي قادت للاختلاف؟ ففي الغالب، هناك ثلاثة عوامل ساهمت في إضافة قدر من الصعوبة وحالة من الارتباك على هذه القضية.
-
العامل الأول:
ليست كل حالة من حالات الزنا هي حالة واضحة يكون المسؤول عنها بالكامل أحد الطرفين، دون أن يُسهم كلا الطرفين في انهيار العلاقة الزوجية. في بعض الأحيان يكون الأمر أكثر وضوحًا، لكنه في الغالب ليس كذلك. إذ أن ديناميكيات العلاقات، خاصة العلاقات الأكثر حميمية أكثر تعقيدًا من ذلك. لذا فإن التوصل إلى “معيار واحد ينطبق على جميع الحالات” يبدو أمرًا غير عادل ولا يتماشى مع منطق النعمة التي يُعلّمها لنا الإنجيل.
-
العامل الثاني:
هو أن مقاربتنا لمسألة الطلاق والزواج تتضمن عددًا كبيرًا من الافتراضات التي تأتي من فهمنا لتعليم الكتاب المقدس عن الزواج ووظيفته والخطية والتسامح والمُصالحة ومعاملات الله مع شعبه. قد لا ندرك حتى تأثير هذه الافتراضات المسبقة، لكن بكل تأكيد تلعب تلك الافتراضات دورًا هامًا في تفسيرنا وفهمنا للنصوص الكتابية. أضف إلى ذلك شخصياتنا وخلفيتنا وخبراتنا (آلامنا وآلام من نعرفهم ونحبهم). هذا لا يعني أن هناك أي مشكلة مع الكتاب المقدس ووضوحه. كلمة الله ليست مشوشة أو مُربِكة. المشكلة تكمن بالأحرى فينا نحن، وفي الدور الذي يلعبه الألم النفسي في صعوبة القراءة المُحايدة للنص.
-
العامل الثالث:
هو أن الطلاق والزواج من جديد، بالمعنى الحصري، ليسا في الحقيقة الموضوع الأساسي الذي تُعالجه النصوص الكتابية التي يتم الاحتكام إليها. أغلب النصوص تتحدث بالأساس عن المنظور الإلهي للزواج باعتباره علاقة عهدية تتسم بالمحبة والإخلاص للطرف الآخر، حتى أن الكتاب المُقدس يشبه اتحاد الرب بشعبه في العهد القديم، واتحاد المسيح بكنيسته في العهد الجديد بالعلاقة الزوجية. لم يؤسس الله العلاقة الزوجية إلا لتكون بين رجل واحد وامرأة واحدة بهدف أن تستمر مدى الحياة. يتضح ذلك في الجزء الأول من إجابة الرب يسوع على سؤال الفريسيين والذي يوضح الغرض الأساسي من الزواج، نقرأ في الاصحاح التاسع عشر من إنجيل البشير متى: “جَاءَ إِلَيْهِ ٱلْفَرِّيسِيُّونَ لِيُجَرِّبُوهُ قَائِلِينَ لَهُ: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ ٱمْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟» فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُم: «أَمَا قَرَأْتـُمْ أَنَّ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَراً وَأُنـْثَى؟» وَقَالَ: «مِنْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ ٱلرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِـٱمْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ ٱلْاِثْنَانِ جَسَداً وَٱحِداً. إِذاً لَيْسَا بَعْدُ ٱثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَٱحِدٌ. فَـٱلَّذِي جَمَعَهُ ٱللّٰهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنـْسَانٌ».” (متى٣:١٩-٦). وبالتالي فإن نظرتنا لموضوع العهد ومفهومنا عن قابلية انحلال أو كسر الرابطة العهدية بين الطرفين يؤثر على مفهومنا للطلاق، وعما إذا كان الطلاق يسمح بالضرورة لكلا الطرفين أو أحدهما بالزواج ثانيةً في كل الحالات أم لا.
ثانيًا: الأساس الكتابي المشترك
رغم اختلاف الآراء حول أسباب الطلاق الشرعي في المسيحية الكتابية، وإمكانية الزواج الثاني من عدمها، إلا أن هناك أساس كتابي مشترك يمكن تلخيصه في النقاط التالية:
- قصد الله أن يكون الزواج علاقة عهدية مدى الحياة وحصرية بين رجل واحد وامرأة واحدة. لا ينظر الكتاب المقدس للزواج باعتباره مجرد تعاقد لفترة زمنية محددة وظروف طارئة، ينتهي بانتهاء تلك المدة أو تغير تلك الظروف.
- إن الدخول في عهد الزواج ليس هدفه مجرد اشباع للمشاعر الرومانسية، بل اتحاد يخلق من الزوجين جسد واحد، مشبه باتحاد الرب مع شعبه في العهد القديم، واتحاد المسيح مع الكنيسة في جسد واحد. وبالتالي، فإن إساءة للأمانة الزوجية هي في جوهره قضية إنجيلية، يعكس إساءة لرسالة الإنجيل.
- “خارج الجنة” كل الزيجات متأثرة بإثم الإنسان وضعفه، وإن كان بدرجات مختلفة. الزيجات المكسورة هي جزء من الإنسانية المحطمة الناجمة عن سقوط والدينا الأولين. هذه الفوضى حرضت الرجل على المرأة وأدت إلى فوضى في العلاقات قائمة حتى الآن.
- ومع ذلك، فإن الأزواج والزوجات ملزمون أمام الله ببذل كل ما في وسعهم لاحترام قصد الله من الزواج. إن عدم القيام بذلك أمر شائع ومقيت وضار.
- غالبًا ما يتم إساءة استخدام هذا الحكم. أي، يتم إنهاء الزواج الذي يجب أن يستمر. هذا إخفاق بغيض في احترام قصد الله للزواج. إنه رفض أكيد، ليس فقط للزوج، بل رفض الله نفسه بصفته القاضي الأعلى والشاهد على عهد الزواج وصانعه.
ثالثًا: هل الطلاق خطية لا تُغتفر؟
بالرغم من المنظور السامي للزواج في الكتاب المقدس، فلا الطلاق ولا الزواج الثاني خطية لا تغتفر. يتفق كل مفسري الكتاب المقدس وعلماءه على اختلاف نظرتهم لشرعية الطلاق والزواج الثاني حول هذا الأمر. لا يوجد مبرر كتابي لاعتبار الطلاق أو الزواج الثاني خطية تلقي بظلالها على مدار حياة أحد الطرفين أو كليهما بصرف النظر عن مسؤولية أحد الطرفين أو كليهما في فشل استمرار العلاقة الزوجية.
يعد ذلك الأمر بالغ الأهمية من الناحية الرعوية لحياة الكنيسة ومسؤوليتها تجاه الزيجات التي تواجه مصير الطلاق، وكذلك الزيجات الثانية.
ومع ذلك، كثيرًا ما تعاملت الكنيسة مع المطلقين والمتزوجين ثانية بطريقة تتنافى مع منطق النعمة الإنجيلية. كثيرًا ما يتحدث الأشخاص المطلقون والمتزوجون مرة أخرى عن شعورهم بأنهم غير مرحب بهم في مجتمع الكنيسة.
مرة أخرى، لا يوجد مبرر كتابي لذلك الفشل الخطير في فهمنا للنعمة. لا أحد بعيدًا عن الغفران ولا أحد منا بلا خطية – حتى الخطايا الجسيمة. لقد اتخذنا جميعًا قرارات نتأسف عليها لاحقًا. فهناك في حياة كل منا، قرارات نتمنى لو لم نتخذها. في هذا المجال، كثيرًا ما يتصرف المسيحيون تجاه رفقائهم الخطاة بطرق مغيرة لقناعتهم الكتابية. لذلك، عندما نستكشف تعاليم الكتاب المقدس حول هذا الموضوع، يجب أن نتذكر أن كل واحد منا يحتاج إلى الغفران وأن كل واحد منا قد قوبل بمغفرة مجانية وكاملة، لا على أساس استحقاقنا، بل على أساس النعمة المقدمة لنا في صليب يسوع المسيح وقيامته.
ترى، متى نستفيق ككنيسة لهذه الازدواجية غير المبررة والمناقضة لرسالة الإنجيل؟