الرؤية العهديّة الفيدرالِيَّة

التعريف

تُعَدُّ الرؤية الفيدرالِيَّة حركةً لاهوتيَّة وكنسيَّة حديثة داخل لاهوت العهد المُصلَح المُؤمِن بمعموديَّة الأطفال، ويتمثل هدف هذه الحركة في وضع رؤية عهديَّة (أو “فيدراليَّة”) مُتَّسِقَة للكنيسة، خاصَّةً من خلال التركيز على موضوعِيَّة العهد وتداعياتها على مناطق أخرى في عِلْمنا اللاهوتي وعِلْمنا الكنسي.

الموجَز

تشرح هذه المقالة ماهِيَّة الرؤية الفيدراليَّة باعتبارها مجموعة فرعيَّة من لاهوت العهد المُصلَح التقليدي، ويقوم بذلك من خلال شرح بعض جذورها التاريخيَّة وشرح شكلها الحالي، فضلًا عن أنَّه يشرح التزامها وتطويرها الأساسِيَّيْنِ للأمر الذي يُمَثِّل مركز لاهوتها، أي موضوعِيَّة عهد النعمة.


حركة الرؤية الفيدراليَّة: نُبْذَة تاريخيَّة مُختَصَرَة

تُعَدُّ الرؤية الفيدرالِيَّة حركةً لاهوتيَّة وكنسيَّة مُثيرة للجَدَل داخل لاهوت العهد المُصلَح المُؤمِن بمعموديَّة الأطفال. لقد نُوقِشَتْ هذه الحركة أساسًا داخل الكنائس المُصلَحة والمشيخيَّة في أمريكا الشماليَّة، إلَّا أنَّ تأثيرها يُعَدُّ دوليًّا كذلك. إنَّ كلمة “فيدراليَّة” مُشتَقَّة من الكلمة اللاتينيَّة (foedus/فُويدوس) التي تعني “عهدًا”. على الرغم من أنَّ مُؤيِّديها ملتزمون بأساسيَّات اللاهوت المُصلَح، وعلى هذا النحو يمكن اعتبارها مجموعة فرعيَّة داخل لاهوت العهد، فإنَّها حركة غير متجانسة، وتحوي داخلها عددًا من التأكيدات اللاهوتيَّة المختلفة. في الوقت الحاضر، تَصَدَّعت الرؤية الفيدراليَّة كحركةٍ لاهوتيَّة وذهبت في اتجاهات مختلفة على الرغم من أنَّ بعض نقاطها الرئيسيَّة هي نقاط ذات طبيعة مستمرة؛ ومن ثَمَّ لا تزال محل نقاش داخل اللاهوت المُصلَح.

بَرَزَت الرؤية الفيدراليَّة كحركةٍ عام 2002 مع مؤتمر أُبِرن أَڤِنيو للقسوس the Auburn Avenue Pastors Conference في كنيسة أُبِرن أَڤِنيو المشيخيَّة Auburn Avenue Presbyterian Church بمونرو، لويزيانا، وكان هذا المؤتمر الافتتاحي بعنوان: “الرؤية الفيدراليَّة: فَحْص العهديَّة المُصلَحة” مع دوجلاس ويلسِن وچون بَرِك وستيڤ ويلكِنز وستيڤ شليسِل كمُتَحَدِّثين يتناولون الموضوع. كان هدف المؤتمر هو تطبيق رؤية عهديَّة (“فيدراليَّة”) للكنيسة، خاصَّةً من خلال التركيز على فَهْمٍ مُتَّسِق لموضوعِيَّة العهد مع التبرير مع يقين الخلاص، ومن خلال التشديد على ممارسة صحيحة للأسرار المقدَّسة. في البداية، كان الأشخاص المُشارِكون في المؤتمر والحركة متنوعين، عاكِسين طَيْفًا من الفِكْر داخل لاهوت العهد المُصلَح، فعلى سبيل المثال كان هناك تقدير لعمل نورمان شيپِرد، الذي سَبَق له تدريس العهد الجديد في كلية لاهوت وستمنستر Westminster Theological Seminary (فيلادلفيا)، ولعمله المثير للجدل حول التبرير وعلاقته بالتقديس، وكان هناك تأثير فِكْر حُكْم ناموس الله theonomy وفِكْر إعادة البناء المسيحيَّة Christian Reconstruction للتفكير في رؤية سياسيَّة مسيحيَّة قويَّة والدعوة إلى سيادة المسيح على كل مناحي الحياة، وبالنسبة للكثيرين كان هناك أيضًا التزام برؤية ما بَعْد أَلْفِيَّة للمستقبل، غير أنَّه حتى في ذلك الوقت لم يَكُن هناك اتفاق كامل حول هذه القضايا، ولكن ما وَحَّد هؤلاء الأشخاص كان الرغبة في رؤية لاهوت “العهد” (اللاهوت الفيدرالي) عامِلًا بكل تداعياته اللاهوتيَّة والكنسيَّة والاجتماعيَّة.

بعد عام 2003 أصبحت الرؤية الفيدراليَّة أكثر إثارةً للجدل داخل اللاهوت المُصلَح حيث بدأ الناس يَتَفَحَّصون ما كانت تُعَلِّمه الرؤية الفيدراليَّة، وبَرَزَ عددٌ من المُمَثِّلين المُهِمِّين للحركة إلى جانب تأكيدات واتجاهات مختلفة، فعلى سبيل المثال كان هناك پيتر لايتهارت وچيمس چوردِن من جهة (وتم تسميتهما لاحِقا بـ “الرؤية الفيدراليَّة الداكِنَة/القويَّة”)، ومن الجهة الأخرى كان هناك دوجلاس ويلسِن والمرتبطون به (وتم تسميتهم لاحِقًا بالرؤية الفيدراليَّة الفاتِحَة/الرقيقة)[1]، وقد حَدَّد هذا طَيْفًا من الفِكْر والتركيز داخل الحركة يقع الكثيرون في مكانٍ ما بين طَرَفَيْه.

وفي غضون فترة قصيرة كُتِبَت كُتُب ومقالات مُعارِضَة للحركة إلى جانب مناقشة عدد من الطوائف المُصلَحة شرعيَّة الحركة داخل عقيدة اللاهوت المُصلَح الأرثوذكسيَّة (القويمة) المُلتَزِمَة بقوانين وإقرارات الإيمان التاريخيَّة. صَدَرَتْ إحدى أولى الوثائق المُنتَقِدَة للحركة من مَشْيَخَة وادي المسيسيبي Mississippi Valley Presbytery التابِعَة للكنيسة المشيخيَّة في أمريكا the Presbyterian Church in America (PCA) عام 2005، والتي رَدَّ عليها أولئك الذين داخل الرؤية الفيدراليَّة، ثم حدثت حالات رفض أخرى لتعاليم مختلفة للحركة عام 2006 من الكنيسة المشيخيَّة القويمة the Orthodox Presbyterian Church (OPC)، وعام 2007 من الكنيسة المشيخيَّة في أمريكا the Presbyterian Church in America (PCA)، وعام 2009 من الكنيسة المُصلَحة في الولايات المتحدة the Reformed Church in the United States، وعام 2010 من الكنائس المُصلَحة المتحدة في أمريكا الشمالية the United Reformed Churches in North America (URCNA).

صدر عام 2007 “إعلان إيمان مشترك للرؤية الفيدراليَّة” “A Joint Federal Vision Profession” بتوقيع مُمَثِّلي الحركة الرئيسيِّين: چون بَرِك، ريتش لاسك، راندي بوث، چيف مايرز، تيم جالنت، رالف سميث، مارك هورن، ستيڤ ويلكِنز، چيم چوردِن، دوجلاس ويلسِن، پيتر لايتهارت. ما وَحَّد التنوع داخل الحركة كان التشديد على “موضوعيَّة” العهد مع تَبِعَاتها المختلفة على علم الكنيسة، وعلى التمييز بين الكنيسة المنظورة وغير المنظورة، وعلى الأسرار المقدَّسة، إلَّا أنَّ إعلان الإيمان قد أَقَرَّ أيضًا بوجود اختلافات حول كيفيَّة فَهْم مُناصِري الحركة لعهد الخلق/الأعمال، ولحُسبان المسيح بِرَّه لنا في تبريرنا، ولطبيعة الميلاد الثاني، ولمعنى اتِّحادنا بالمسيح. بدأت خلال هذا الوقت أيضًا ممارسة تقديم عشاء الرب للأطفال أن تصبح سِمَة جوهريَّة للرؤية الفيدراليَّة، وهو الأمر المرتبط بنظرتهم لموضوعيَّة العهد وبالتمييز القوي بين اختيار الله التعييني decretal election مُقابِل اختيار الله العهدي covenantal election؛ مِمَّا نَتَجَ عنه انصراف أولئك الذين كانوا في البداية مرتبطين بالحركة أو مؤيِّدين لها عن الحركة.

بعد عام 2012، بدا اتجاه حركة الرؤية الفيدراليَّة أنَّه يَتَفَتَّت أكثر ويسير في اتجاهات مختلفة، فمن ناحية، عندما ارتحل پيتر لايتهارت عن موسكو، أيداهو لكي يُؤسِّس معهد ثيوپولِس the Theopolis Institute في برمنجهام، ألاباما (مع چيمس چوردِن)، أصبحت “الرؤية الفيدراليَّة الداكِنَة/القويَّة” “كاثوليكيَّة [بمعنى جامِعَة] إصلاحيَّة” في تركيزها على نحوٍ أكبر مِمَّا مضى، وفي عام 2016 نَشَرَ پيتر لايتهارت كتاب The End of Protestantism[2]، داعِيًا إلى مزيد من الوحدة داخل الكنيسة الأكبر التي تشمل الكاثوليكيَّة الرومانيَّة، والأرثوذكسيَّة الشرقيَّة، والمذاهب التقليديَّة الرئيسيَّة للبروتستانتيَّة في أمريكا. ومن الناحية الأخرى كَتَبَ دوجلاس ويلسِن بحلول نهاية عام 2013 كتاب Against the Church أو ضد الكنيسة، داعِيًا الناس إلى العودة مرة أخرى إلى لاهوت عهد تقليدي بشكل أكبر، وبحلول عام 2017 تَوَقَّف ويلسِن عن الارتباط بمُسَمَّى “الرؤية الفيدراليَّة”؛ حيث أصبح أكثر انتقادًا لأولئك الذين كان قد ارتبط بهم قَبْلًا داخل الحركة، ومُؤَخَّرًا أكَّد ويلسِن بِقُوَّة على حُسبان طاعة المسيح الإيجابيَّة في تبريرنا وعلى الفهم المُصلَح للتبرير والتقديس بينما لا يزال يُشَدِّد بِقُوَّة على ما يعتقد أنَّه أمرٌ مِحوَرِيٌّ بالنسبة للاهوت العهد، ألا وهو موضوعيَّة العهد[3].

بعض النقاط اللاهوتيَّة الرئيسيَّة

تَشتَهِر الرؤية الفيدراليَّة بعددٍ من التأكيدات اللاهوتيَّة، ولكنَّ ما يُعَدُّ على الأرجح جوهريًّا بالنسبة للحركة أكثر من غيره هو تركيزها على “موضوعيَّة” العهد. بالنظر إلى عهد النعمة الواحِد عَبْر تاريخ الفداء، وعلى غِرار إسرائيل تحت العهد القديم، يدخل الشخص موضوعيًّا جماعة العهد الجديد، أي الكنيسة، من خلال تَلَقِّيه علامة العهد، أي المعموديَّة؛ وهكذا فإنَّ كُلَّ المُعَمَّدين (سواءٌ كانوا أطفالًا أو مؤمنين، مختارين أو غير مختارين) هُمْ موضوعيًّا “في” عهد النعمة والكنيسة المنظورة، ومُتَّحِدون بالمسيح على الرغم من أنَّ هؤلاء الأشخاص أنفسهم قد يُظهِرون لاحِقًا أنَّهم لم يكونوا أبدًا “من” العهد، وهذا يقتضي أنَّ كُلَّ أولئك الذين دخلوا الكنيسة موضوعيًّا من خلال عمل المعموديَّة -حتى أولئك الذين يُظهِرون لاحِقًا أنَّهم أعضاء في العهد غير مختارين- هُمْ في اتِّحاد مع المسيح؛ وبذلك ينالون فوائد “خلاصيَّة” مُحَدَّدة يَتَمَتَّعون بها في الوقت الحاضر، إلَّا أنَّه إذا لم يستمر هؤلاء الأشخاص أنفسهم في الإيمان وفي الأمانة للعهد سيُظهِرون أنَّهم ليسوا من المختارين، ويخسرون في النهاية هذه الفوائد “الخلاصيَّة”، ففي النهاية، فقط “المختارون المُعَيَّنون” “decretal elect” هُمْ مَنْ يُثابِرون حتى النهاية وينالون الخلاص على الرغم من أنَّ غير المختارين داخل جماعة العهد، أي “المختارين العهديِّين” ” covenantal elect”، بالفعل يَتَمَتَّعون مؤقَّتًا ببركات العهد الموضوعيَّة، على الأقل حتى يُظهِروا أنَّهم ناقِضون للعهد.

لقد اتَّهَم البعض هذه النظرة بتأكيد نسخةٍ ما من عقيدة الميلاد الثاني بالمعموديَّة baptismal regeneration، ولا شكَّ أنَّ هذه التُّهمة تحمل بعض الثِّقَل إذا كان “الميلاد الثاني” regeneration يحمل المعنى الذي عادةً ما يحمله في علم اللاهوت، وهو عمل الله السيادي والمُنعِم بالروح القدس لجَعْل أُناس موتى روحيًّا أحياءً في المسيح (راجِعْ أفسس 2: 1-10)، إلَّا أنَّه بالنسبة لبعض مُناصِري الرؤية الفيدراليَّة، هُمْ يُعِيدون تعريف الميلاد الثاني/الخلق الثاني أو الجديد regeneration ليُشير إلى العمل الكامل الخاص بكيف نتجدَّد renewed والآن نشترك في الخليقة الجديدة في المسيح، بما في ذلك وَضْع المختارين وغير المختارين في جماعة العهد[4]، وفي هذا الصدد غالبًا ما يُشار إلى متَّى 19: 28 حيث يتحدَّث الرب يسوع عن “الخلق الثاني أو الجديد/التجديد” “regeneration/renewal” لكل الأشياء، والذي بالنسبة لنا قد بدأ بالفعل في الكنيسة؛ ولذا يُجادِل بعض مُناصِري الرؤية الفيدراليَّة بأنَّ كَوْننا موضوعيًّا في الكنيسة بسبب معموديَّتنا يستلزم كَوْننا مُشارِكين بالفعل في “التجديد/الخليقة الجديدة” “renewal/new creation” على الرغم من أنَّنا قد لا نكون من المختارين. ما يتم التشديد عليه في مقابل الفهم النمطي لعقيدة الميلاد الثاني بالمعموديَّة هو موضوعيَّة العهد وجماعة العهد، وهو الأمر الذي من المُهِمّ أن نلاحظ أنَّه لا يُمَثِّل نقاشًا جديدًا داخل لاهوت العهد.

إلَّا أنَّه مع ما قيل أعلاه يميل أولئك الذين يُشَدِّدون على “جامِعِيَّة إصلاحيَّة” بشكل أكبر وعلى نظرة عالية للأسرار المقدَّسة[5] (“الرؤية الفيدراليَّة الداكِنَة/القويَّة”) إلى التشديد على نوع من “الميلاد الثاني” “regeneration” الذي إذا لم يَكُنْ حريصًا يكون عُرضَة لتُهمَة الميلاد الثاني بالمعموديَّة أو على الأقل يبدو أنَّه يَتَجَوَّل في هذا الاتجاه، فإذا تم التركيز على الدخول الموضوعي إلى الجماعة العامة أكثر من الحاجة إلى الميلاد الثاني/الخلاص الفردي يُصبح العثور على أوجه التشابه مع الآراء الكاثوليكيَّة الرومانيَّة، واللوثريَّة على وجه التحديد، حول الميلاد الثاني بالمعموديَّة عمليةً أكثر سهولةً. أمَّا على الجانب الآخر فيُواصِل دوجلاس ويلسِن الدفاع عن “الميلاد الثاني” بمفهومه الأضيق والأكثر فرديَّةً على الرغم من أنَّه يُصِرّ على أنَّ كُلَّ المُعَمَّدين (الأطفال والكبار) هُمْ موضوعيًّا بفضل معموديَّتهم “في” الكنيسة المنظورة، جماعة الله للعهد للجديد، فإنَّ الكنيسة حتى مجيء المسيح مُتَشَكِّلَةٌ كشعبٍ “مُختَلَطٍ” يَتَأَلَّف من غير مؤمنين مُعَمَّدين ومؤمنين مُعَمَّدين، وبهذا المعنى فإنَّ جميع الذين اعتمدوا هُمْ “مختارون عهدِيًّا” في حين أنَّه فقط أولئك الذين هُمْ مُعَمَّدون، ويمارسون الإيمان الخلاصي، ويستمرون في المثابرة هُمْ “مختارون تعيينِيًّا”.

ومع وجود هذا التمييز تُفَسِّر الرؤية الفيدراليَّة، جنبًا إلى جنب مع مُعظَم لاهوت العهد، النصوص “التحذيريَّة” في الكتاب المقدس (على سبيل المثال: عبرانيين 2: 1-4؛ 6: 4-6 … إلخ) في ضوء فهمهما لجماعة العهد. فَبِاتِّباع التحذيرات يكون لدى الشخص الذي يُراعي هذه التحذيرات اليقين بأنَّه ليس فقط موضوعيًّا “في” العهد من خلال المعموديَّة، بل بأنَّه أيضًا أحد مختاري الله الحقيقيِّين وهو آمِن في المسيح، أمَّا إذا تم رفض التحذيرات فإنَّ الشخص الذي يتحوَّل عن المسيح فقط يُبرهِن للأسف أنَّه على الرغم من أنَّه كان “في” العهد فإنَّه لم يُكْن من مختاري الله بالمعنى الخلاصي الكامل. لقد كان “في” العهد، ومُتَّحِد بالمسيح، ونال بركات “خلاصيَّة”، ولكنَّه أضاع هذه البركات بسبب فشله في ممارسة الإيمان والتوبة والطاعة. بهذه الطريقة، وتمامًا مثل إسرائيل تحت العهد الموسوي، يوجد تمييز بين أعضاء العهد والمختارين، فالاختلاف بين العهد القديم والعهد الجديد ليس أنَّ شعب الله للعهد الجديد هو جماعة من المؤمنين الذين اختبروا الميلاد الثاني؛ حيث إنَّ هذا الأمر هو واقع سيحدث فقط في المستقبل، وإنَّما الشيء الجديد “الأعظم” في العهد الجديد هو أنَّ المسيح الآن قد جاء، ووعود العهد الجديد أفضل من وعود العهد القديم، غير أنَّ طبيعة وبِنْيَة جماعة العهد تَظلّ كما هي: كلاهما جزءٌ من عهد النعمة الواحِد[6].

إلَّا أنَّ وجهة النظر التي تُعَدُّ أكثر إثارةً للجدل، والتي جادل بها مؤيِّدو الرؤية الفيدراليَّة من خلال فهمهم لموضوعيَّة العهد هي وجهة النظر المُؤَيِّدة لممارسة تقديم عشاء الرب للأطفال، فالأطفال حقًّا “في” العهد من خلال تَلَقِّيهم العلامة-الخَتْم الموضوعيَّة الخاصة بجماعة العهد، ومن خلال كَوْنهم “في” العهد يكون الأطفال مُتَّحِدين بالمسيح؛ ونتيجة لذلك ينالون كل بركات جماعة العهد، وبالنسبة لمُعظَم مؤيِّدي الرؤية الفيدراليَّة، يستلزم هذا أنَّه من المفروض أن يتلقَّى الأطفال أيضًا وجبة الشَّرِكَة الخاصة بالعهد، أي عشاء الرب. في الواقع، ما الذي يمنعهم من تلقِّي هذه البركة العهديَّة بصفتهم أعضاء في شعب العهد الجديد؟

لقد انتقد لاهوت العهد التقليدي بِشِدَّة الرؤية الفيدراليَّة بشأن هذه النقطة، فعلى سبيل المثال، يَتَّهِم آر. سكوت كلارك الرؤية الفيدراليَّة بالفشل في التفريق بين “المعمودية كعلامة/خَتْم الدخول في جماعة العهد المنظورة، وعشاء الرب كعلامة/خَتْم تجديد العهد، أي قبول وعود العهد بالنعمة وحدها، من خلال الإيمان وحده”[7]؛ لذا يجب تقديم عشاء الرب فقط لأولئك الذين تابوا عن خطاياهم وآمنوا بالمسيح، وليس ببساطة لِمَنْ هُمْ “في” الكنيسة. غير أنَّه بالنظر إلى دفاع كُلٍّ من الرؤية الفيدراليَّة ولاهوت العهد التقليدي عن نفس وجهة النظر الخاصَّة بطبيعة شعب العهد الجديد، يَعتَبِر الكثيرون من خارج لاهوت العهد هذا النِّقاش نِقاشًا داخليًّا مُثيرًا للاهتمام داخل لاهوت العهد يُصَوِّر شيئًا من التَّوَتُّرات الداخليَّة في نظامهم اللاهوتي، وهو على وجه التحديد يُسَلِّط الضوء على بعض المشكلات الناجِمة عن التأكيد على عدم وجود فرق كبير بين إسرائيل والكنيسة تحت العهد الخاص بكُلٍّ منهما؛ لأنَّه إذا أَصَرَّ المرء على أنَّ كُلًّا من إسرائيل والكنيسة مُتَشَكِّلان كشعبٍ “مُختَلَطٍ” من المختارين وغير المختارين، يبدو أنَّ بعض التَّوَتُّرات بين الرؤية الفيدراليَّة ولاهوت العهد التقليدي ستنشأ لا مَحَالَة.

ولكن، بِخِلَاف “موضوعيَّة” العهد، ما هي النقاط اللاهوتيَّة الأخرى التي تؤكِّد عليها الرؤية الفيدراليَّة وغالبًا ما تتعارض مع لاهوت العهد التقليدي؟ أوَّلًا- هناك نِقاش مستمر بشأن طبيعة “عهد الأعمال”، أو يُسَمَّى أحيانًا “العهد مع الخليقة”، داخل لاهوت العهد، وهو ما يعكسه بعض مؤيِّدي الرؤية الفيدراليَّة، ففي اللاهوت المُصلَح التقليدي يُفَسَّر عهد الأعمال على أنَّه عهد “ناموس” في حين أنَّ “عهد النعمة” هو عهد “نعمة”، وبموجب عهد الأعمال طَالَب الله آدم بصفته الرأس الفيدرالي/العهدي للجنس البشري بأن يطيعه طاعةً كاملة، ولو كان آدم قد أطاع لَكَان قد استحق الحياة الأبديَّة وكان قد تَثَبَّت في البِرِّ، ولكن بالنظر إلى انتهاكه العهد، فإنَّ آدم، ومعه الجنس البشري بأكمله، قد عَصَوْا وأصبحوا تحت عقوبة الموت. رجاؤنا الوحيد هو أن يختار الله بنعمةٍ سياديَّة أن يفدينا في المسيح، آدم الأخير، الشخص الوحيد الذي يطيع طاعةً كاملة من أجلنا، وينال استحقاق تبريرنا من خلال حُسبان بِرِّه لنا ودَفْع عقوبة خطايانا. بالنسبة للبعض داخل الرؤية الفيدراليَّة، هُمْ يرفضون الطبيعة الاستحقاقيَّة [الاستحقاق مقابل العمل] لعهد الأعمال ويُفَضِّلون الذهاب إمَّا إلى وجهة نظر أُحادِيَّة العهد monocovenantalism [أي الإيمان بوجود عهد واحد فقط] عَبْر تاريخ الفداء أو إلى تعريف العهد في الخَلْق بأنَّه عهدٌ سِمَتُهُ النعمة. علاوةً على ذلك، يُشَكِّك أيضًا البعض داخل الرؤية الفيدراليَّة في حُسبان طاعة المسيح الإيجابيَّة لشعبه على الرغم من أنَّ آخرين مثل دوجلاس ويلسِن يؤكِّدون بِقُوَّة على حُسبان بِرِّ المسيح لنا في تبريرنا. وبِحَسَب ما هي تحديدًا نسخة الرؤية الفيدراليَّة، قد وُجِّهَت إليها التُّهمَة بأنَّها تُنكِر وجهة النظر المُصلَحة الخاصة بالناموس والإنجيل، وتُنكِر حُسبان بِرِّ المسيح، وبذلك تُنكِر وجهة النظر المُصلَحة والكتابيَّة للتبرير بالنعمة من خلال الإيمان بالمسيح وحده، ولكن بالنظر إلى التنوع داخل الرؤية الفيدراليَّة لا يمكن تعميم هذه التُّهمَة على الرغم من أنَّها تنطبق بالتأكيد على بعض مؤيِّدي الرؤية الفيدراليَّة.

ثانيًا- يؤكِّد الكثيرون داخل الرؤية الفيدراليَّة على عقيدة أُخرَوِيَّة ورؤية للمستقبل ما بَعْد أَلْفِيَّة مرتبطة بنجاح الإنجيل، إلَّا أنَّه على الرغم من أنَّ هذا على الأرجح هو المعيار، فقد كان هناك أولئك الذين ارتبطوا بالرؤية الفيدراليَّة ولم يعتنقوا عقيدة ما بَعْد الأَلْفِيَّة.

ثالثًا- لقد اتُّهِمَت الرؤية الفيدراليَّة باعتناق المنظور الجديد عن بولس، ويرجع سبب هذه التُّهمة إلى قيام البعض داخل الرؤية الفيدراليَّة بإعادة تعريف عهد الأعمال، والتشكيك في صحة حُسبان طاعة المسيح الإيجابيَّة لنا في تبريرنا، ووَضْع الأعمال في تبريرنا النهائي، إلَّا أنَّه، مرةً أخرى، نظرًا إلى التنوع داخل الرؤية الفيدراليَّة، هناك ما يكفي من الاختلافات بينها وبين المنظور الجديد عن بولس ليُحَتِّم على المرء أن يَتَوَخَّى الحَذَر في المساواة بين الاثنين. إنَّ هذه التُّهمة صحيحة بالنسبة للبعض داخل الرؤية الفيدراليَّة، ولكن ليس كُلُّ مؤيِّدي الرؤية الفيدراليَّة متماثِلين.

في الختام، توجد داخل لاهوت العهد المُصلَح المُؤمِن بمعموديَّة الأطفال نقاشات دائمة تتمركز بشكل خاص حول كيفيَّة فهم المرء لموضوعيَّة عهد النعمة، ولجِدَّة العهد الجديد، ولمكان غير المختارين كأعضاء في العهد داخل الكنيسة بسبب تَلَقِّيهم علامة/خَتْم العهد، أي المعموديَّة. لقد انْتَبَهَت الرؤية الفيدراليَّة إلى هذه النقاشات، وعلى أبسط المستويات هي تعكس هذه النقاشات الهامة المستمرة الحادِثة داخل لاهوت العهد. مع ذلك فقد دخلت عناصر من الرؤية الفيدراليَّة في عقيدة أسرار أكثر قُوَّةً وفي فهمٍ للكنيسة فَصَلَها عن اللاهوت المُصلَح التقليدي، وتركتها هذه العناصر عُرضَة للاتِّهام بأنَّها قد أضعفت أُسُس التبرير، وأعادت تعريف عناصر مُعَيَّنة في الإنجيل. على الرغم من أنَّ الحركة كوحدة واحدة تبدو الآن مُفَتَّتَة، فإنَّ القضايا اللاهوتيَّة التي أثارتها داخل النظام اللاهوتي للاهوت العهد قد مَرَّ عليها الآن وقتٌ طويل وهي معنا، وستستمر مناقشتها أيضًا في المستقبل.


[1] شَبَّه دوجلاس ويلسِن الاختلافات بين الجانِبَيْنِ بصفات المشروبات الكحوليَّة: داكِنَة (قويَّة)، وفاتِحَة (رقيقة).

[2] يقصد پيتر لايتهارت بكلمة “end” الموجودة في اسم كتابه The End of Protestantism المعنَيَيْن المحمولَيْن في هذه الكلمة، أي “end” بمعنى نهاية البروتستانتيَّة وتوقُّفها عن الوجود، و”end” بمعنى الغاية والقصد والهدف من البروتستانتيَّة.

[3] راجِعْ هذه الحلقة على موقع YouTube:

James White and Douglas Wilson, “The Federal Vision: A Conversation.”

[4] راجِعْ مقالة:

Rich Lusk, “Baptismal Efficacy and the Reformed Tradition: Past, Present, and Future.”

[5] المقصود بنظرة عالية للأسرار المقدسة أو لغيرها هي النظرة الأقرب للنظرة الكاثوليكيَّة للكنيسة والأسرار المقدسة.

[6] اُنظُرْ

Douglas Wilson, To A Thousand Generations: Infant Baptism—Covenant Mercy for the People of God (Moscow, ID: Canon Press, 2000), 34-35.

[7] R. Scott Clark, “For Those Just Tuning In: What is The Federal Vision?”

شارك مع أصدقائك

ستيڤن ويلوم

أستاذ اللاهوت المسيحيّ بالكليّة المعمدانية الجنوبيّة للاهوت، ومؤلف العديد من الكتب في مجال اللاهوت النظاميّ.