الأخلاق التطوّريّة: هل وُجِدت الأخلاق بفعل تطوّر البشرية؟

عادةً ما تستخدم ثقافتنا العلمانيَّة نظرية التطوُّر لتُفسِّر لماذا نحن كائنات أخلاقيَّة، فيما يُعرف بالأخلاق التطوّريّة. يُخبرنا مُفكِّرون مثل الطبيب النفسيِّ التطوُّريِّ جوناثان هايدت أو الكاتب ستيفن بينكر أنَّ التطوُّر أعطانا الأخلاق. لهذا السبب نشعر بالغضب الأخلاقيِّ من غزو بوتين لأوكرانيا أو من جرّاء الحرب الواقعة بين إسرائيل وحماس.

دون الحاجة لوجود إله.

لكن نادرًا ما نتعمَّق في هذه النظريَّة لنستكشف الخطأ الفادح الموجود بها.

1. كيف للتطوُّر أن يمنحنا الأخلاقَ

يُمكن تلخيص الرأي القائل بأنَّ “التطوُّر يُعطينا الأخلاق” في هذا القياس المنطقيِّ ذي الثلاث خطوات:

(أ) نجا أسلافُنا من عمليَّة التطوُّر؛
(ب) نحن نجونا (جُزئيًّا) بسبب صفة أخلاقيَّة ما [س]؛
(ج) إذًا تُعتبَر الصفة الأخلاقيَّة [س] أمرًا يجب أن نتمسَّك به.

يُمكن أن تكون الصفة الأخلاقيَّة [س] أيَّ شيء يتمسَّك به عالمنا العلمانيُّ باعتباره عزيزًا ومُقرَّبًا له، مثل الاهتمام بالغرباء، أو تفضيل الآخر على النفس. هذا يطرح سؤالاً بخصوص صفات البشر الأخرى، مثل القَبَليَّة، ولماذا لا تُعَدُّ مثل تلك الصفات صفات “أخلاقيَّة”.

لكن يوجد خطأ فادح في منطق نظرية أن “التطوُّرُ قد منحنا الأخلاقَ” هذا.

٢. إدخال الأخلاق خِفيةً

يوجد عديد من الأخطاء في فكرة أن “التطوُّرُ قد منحنا الأخلاقَ.” مثلاً، لماذا تَخلق صفة أخلاقيَّة ساعدت أسلافنا على البقاء (بحسب هذا التفكير) التزامًا أخلاقيًّا لنا اليوم؟ نعم، يُمكنها أن تخلق شعورًا أخلاقيًّا بداخلنا، لكن لماذا تخلق التزامًا أخلاقيًّا (خصوصًا لو كان يتعارض مع اهتماماتنا المُباشرة).

لكنَّ المشكلة الخطيرة هي أنَّها تغشُّ عن طريق إدخال الأخلاق خفيةً. دعني أشرح من خلال تفصيل القياس المنطقيِّ السابق:

(أ) نجا أسلافُنا من عمليَّة التطوُّر؛
(ب) نحن نجونا (جُزئيًّا) بسبب صفة أخلاقيَّة ما [س]؛
(ب-1) الصفة [س] جيِّدة أخلاقيًّا.
(ج) إذًا تُعتبَر الصفة الأخلاقيَّة [س] أمرًا يجب أن نتمسَّك به.

هل ترى المشكلة؟

يُدخل رأي أن “التطوُّرُ قد منحنا الأخلاقَ” تقييمًا أخلاقيًّا خارجيًّا إلى تفكيره –الصفة [س] جيِّدة أخلاقيًّا– دون أن يشرح مصدر هذا التقييم، أو المعيار الأخلاقيَّ الذي يستند عليه هذا التقييم. ما هو المعيار الأخلاقيُّ الذي يقيس ما إذا كانت الصفة جيِّدة أو سيِّئة أخلاقيًّا؟ من أين يأتي ذلك المعيار الأخلاقيُّ؟

لا يُخبرنا…

إن الإجابة الشائعة هي أنَّ “المُجتمع يُقرِّر”. لكن من هم الموجودون في المُجتمع؟ نادرًا ما تكون المُجتمعات مُنتظمة: شاهد الاستقطاب الجاري بخصوص قضايا أخلاقيَّة مثل الإجهاض أو القتل الرحيم. علاوةً على ذلك، ماذا لو قال مُجتمعٌ ما إنَّه من المقبول اضطهاد النساء: هل يعني هذا أن نؤيِّد ما تفعله مُجتمعات مثل هذه؟ علاوةً على ذلك، هذا يضع الأخلاق في عالم النسبيَّة.

فقط يُفترَض الأمر دون أسئلة. في أحسن الأحوال، يُقدِّم لنا رأي أن “التطوُّرُ قد منحنا الأخلاقَ” تفسيرًا عن لماذا قد تكون لدينا مشاعر أخلاقيَّة، لكن لا يُخبرنا –إذ لا يستطيع– ما إذا كانت هذه المشاعر أخلاقيَّة بالفعل أم لا. ولذلك يفشل هذا الرأي في أن يُقدِّم لنا معيارًا أخلاقيًّا مُتماسكًا، به نستطيع أن نحكم على خاطفي الأطفال أو التحرش والاغتصاب.

إنَّه رأي مَعيب بشكل عميق.

٣. هل تستطيع أن تكوِّن معيارًا أخلاقيًّا خارجيًّا في كَون إلحاديٍّ؟

يعترف بعض المُلحدين البارزين مثل ريتشارد دوكنز بأنَّه لا يوجد معيار أخلاقيٌّ موضوعيٌّ خارجيٌّ في كَون لا يوجد به الله. سيتعرَّض بعض الناس للأذى في عالم به إلكترونات وجينات أنانيَّة، وفيه قوى فيزيائيَّة وتكاثر جينيٌّ أعمى، وسيُحالف الحظُّ البعض الآخر، ولن تجد تناغمًا أو منطقًا أو أيَّ عدْل في ذلك. يمتلك الكون الذي نُلاحظه، بالتحديد، الخصائص التي يُمكن أن نتوقَّعها إذا كان في الأساس، لا يوجد أيُّ تصميم أو قصْد أو شرٍّ أو خير، يوجد فقط لامُبالاة قاسية… لا تعرف الجينات ولا تُبالي. الجينات موجودة فقط[1].

“لا يوجد شرٌّ. لا يوجد خير. لا يوجد أيُّ شيء سوى اللامبالاة القاسية والعمياء.”

إنَّها إجابة صادقة فكريًّا؛ وأنا أوافق على أنَّه في كَون إلحاديٍّ، تُعتبَر الأخلاق نسبيَّة بالتعريف: إنَّها ليست أمرًا قائمًا موضوعيًّا، لكنَّها أمر نصنعه. تُنكر النظرة الكونيَّة الإلحاديَّة وجودَ معيار أخلاقيٍّ خارجيٍّ نستطيع به أن نحكُم على أفعال الآخرين.

مع ذلك، يحكم حتَّى مُلحد مُلتزم مثل دوكنز على أفعال الآخرين بمعيار أخلاقيٍّ.

٤. لماذا نغضب دون أن نُعطي سببًا مُقنعًا للغضب الأخلاقيِّ.

يغضب أيُّ مُلحد أعرفه أخلاقيًّا بسبب أشياء مثل خطْف الأطفال أو الحروب غير المُبرَّرة.

مع ذلك، كما يُشير دوكنز، فإنَّه إذا كان في الكَون الإلحاديِّ “لا يوجد أيُّ تصميم أو قصْد أو شرٍّ أو خير، يوجد فقط لامُبالاة قاسية”، فما هو إذًا السبب المُقنع لذلك الغضب الأخلاقيِّ؟ تُصبح الأخلاق نسبيَّة من دون معيار أخلاقيٍّ موضوعيٍّ. تُصبح الأخلاق مجرَّد مسألة ذوق شخصيٍّ: مثلاً، يُمكن أن يكون ذوقنا هو احترام سيادة الدول الأخرى، أمَّا بوتين فهو يُفضِّل أن يغزوهم.

كيف يُمكننا إذًا أن نقول إنَّ ذوقنا الأخلاقيَّ هو أفضل من ذوق بوتين، من دون وجود معيار أخلاقيٍّ موضوعيٍّ؟

لا يُمكنك أن تستند إلى وجود معيار أخلاقيٍّ كَونيٍّ غير زمنيٍّ والذي ينطبق على كلِّ البشر في كلِّ العالم (مثل بوتين) وبعدها تُنكر وجود معيار مثل هذا. إنَّها طريقة غير منطقيَّة للعيْش[2].

مع ذلك، هذا هو ما تقود إليه الأخلاق التطوُّريَّة، هي تقودنا إلى تناقض منطقيٍّ.

إنَّه خطأ بسيط، خطأ رقيق، لكنَّه خطأ فادح.


[1] Richard Dawkins, A River Out of Eden: A Darwinian View of Life (Basic Books, 2008)

[2] باعتراف الجميع، لا يملُك المرضى النفسيُّون السريريُّون بوصلةً أخلاقيَّة من دون مشاعر أخلاقيَّة.

شارك مع أصدقائك

المدير التنفيذي لائتلاف الإنجيل- أستراليا.