أبناء الله وبنات الناس: 11 سببًا يثبت أن أبناء الله في تكوين 6 ليسوا ملائكة ساقطة

هناك عدة آراء حول ماهيّة أبناء الله في تكوين 6. فعلى الرغم من أن كلمات الرب يسوع واضحة في إنجيل متى 22: 30: “لأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللهِ فِي السَّمَاءِ”، إلا أن البعض يُجادل بأن هذا الإعلان الواضح يتحدث عن وضع الملائكة “فِي السَّمَاءِ”، دون أن ينفي احتمالية حدوث تزاوج بين الملائكة والبشر على الأرض! لذا، فهم يُفسرون أبناء الله في تكوين 6 على أن المقصود بذلك هم بعض الملائكة الذين أخطأوا ولَمْ يَحْفَظُوا رِيَاسَتَهُمْ، بَلْ تَرَكُوا مَسْكَنَهُمْ (2 بطرس 2: 4؛ يهوذا 6). معللين موقفهم بإدعاء خطير أن العهد القديم حين يتحدث عن “أبناء الله” يكون المقصود هم الكائنات الملائكية، كما في أيوب 1: 6، ومزمور 89: 6.

في هذا المقال، سأحاول تقديم عدة دلائل من سياق النص نفسه، واللاهوت الكتابي والمنطق العقليّ على أن أبناء الله في تكوين 6 ليسوا ملائكة ساقطة. ولكن لنقرأ النص كاملًا أولًا:

وحَدَثَ لَمّا ابتَدأ النّاسُ يَكثُرونَ علَى الأرضِ، ووُلِدَ لهُمْ بَناتٌ، أنَّ أبناءَ اللهِ رأوا بَناتِ النّاسِ أنَّهُنَّ حَسَناتٌ. فاتَّخَذوا لأنفُسِهِمْ نِساءً مِنْ كُلِّ ما اختاروا. فقالَ الرَّبُّ: «لا يَدينُ روحي في الإنسانِ إلَى الأبدِ، لزَيَغانِهِ، هو بَشَرٌ. وتَكونُ أيّامُهُ مِئَةً وعِشرينَ سنَةً». كانَ في الأرضِ طُغاةٌ في تِلكَ الأيّامِ. وبَعدَ ذلكَ أيضًا إذ دَخَلَ بَنو اللهِ علَى بَناتِ النّاسِ وولَدنَ لهُمْ أولادًا، هؤُلاءِ هُمُ الجَبابِرَةُ الّذينَ منذُ الدَّهرِ ذَوو اسمٍ (تكوين 6: 1-4).


أولًا: السياق المُباشر لنص تكوين 6

قبل أن نقفز إلى آيات مُتناثرة هنا أو هناك في أيوب أو المزامير، دعونا نلقي نظرة على نص تكوين 6 نفسه، لنتعرّف على ما قصده النبيّ موسى.

1. تُشير آية 2 إلى أن الشر الذي فعله أبناء الله هو أنهم “فَاتَّخَذُوا لأَنْفُسِهِمْ نِسَاءً مِنْ كُلِّ مَا اخْتَارُوا”. فبينما يرى البعض أن الشر في هذه القصة هو في زواج كائنات ملائكية بنساء من البشر، يمكن للكلمات العبرية لهذا النص أن تكشف لنا أن الشر المقصود يكمن في أن أبناء الله قد اغتصبوا لأنفسهم بنات الناس رغمًا عن إرادتهن، مما يوحي بمدى الشر والفساد والظلم الذي كان متفشيًا في الأرض في هذه الأيام. الأمر الذي يعود ويتحدث عنه موسى لاحقًا في ذات الأصحاح في الآيات 11-13، والتي تقول أن هذا الظُلم والفساد هو ما استلزم دينونة الله. فيقول:

وَفَسَدَتِ الأَرْضُ أَمَامَ اللهِ، وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ ظُلْمًا. وَرَأَى اللهُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ قَدْ فَسَدَتْ، إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الأَرْضِ. فَقَالَ اللهُ لِنُوحٍ: نِهَايَةُ كُلِّ بَشَرٍ قَدْ أَتَتْ أَمَامِي، لأَنَّ الأَرْضَ امْتَلأَتْ ظُلْمًا مِنْهُمْ. فَهَا أَنَا مُهْلِكُهُمْ مَعَ الأَرْضِ.   

2. برغم أن الآية 2 تقول أن الذي أخطأ هم “أبناء الله” باتخاذهم نساء من بنات الناس، إلا أن في كل الأصحاح يعود مرارًا وتكرارًا ويؤكّد أن الدينونة التي كان الله مزمع أن يقضي بها كانت ضد البشر، وليست ضد كائنات غريبة كانت نصف ملائكة ونصف بشر من نسل هذا التزاوج، كما يدّعي البعض. فمباشرة بعد قول موسى في آية 2 أن أبناء الله اتخذوا لأنفسهم نساء، يقول في آية 3:

فَقَالَ الرَّبُّ: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ، لِزَيَغَانِهِ، هُوَ بَشَرٌ. وَتَكُونُ أَيَّامُهُ مِئَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً».

أنظر إلى ما تؤكّده الآية السابقة. فالحديث هو حول وعن “الإنسان . . . هو بشر“. فكل الأصحاح يتحدّث عن تفشيّ شر البشر حتى وسط نسل شيث الذي في الأصحاح الرابع والخامس كان بعضهم كأنوش يَدعون باسم الرب، أو سار بعضهم مع الله كأخنوخ (تكوين 4: 26؛ 5: 21). ولكن يعود موسى ويؤكّد في أصحاح 6:

أنّ شَرَّ الإِنْسَانِ [وليس شر أولئك الكائنات الغريبة الناتجة عن هذا التزاوج] قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ . . . (آية 5).

3. تؤكّد الآية 4 عكس ما يدعيه القائلين بأن أبناء الله هم ملائكة ساقطة تزوجوا من بنات البشر وأنجبوا كائنات خارقة. فالآية تقول أن وجود الطُغاة أو النفيليم أسبق من مشهد تزاوج أبناء الله ببنات الناس. فتقول الآية:

كَانَ فِي الأَرْضِ طُغَاةٌ [نفيليم بالعبريّ] فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. وَبَعْدَ ذلِكَ أَيْضًا إِذْ دَخَلَ بَنُو اللهِ عَلَى بَنَاتِ النَّاسِ وَوَلَدْنَ لَهُمْ أَوْلاَدًا، هؤُلاَءِ هُمُ الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ.

4. حين جاء الطوفان، يؤكّد أصحاح 6 وما يليه أن دينونة الله وقعت على البشر، وليس على مسوخ نصفهم ملائكة والنص الآخر بشر. فتقول آية 7:

فَقَالَ الرَّبُّ: أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ.

ثانيًا: السياق الأكبر لسفر التكوين وباقي أسفار موسى

5. إذا قمنا بنظرة أوسع لسفر التكوين ككل، لوجدنا أنه لا ذكر لأيّة ملائكة هنا. السياق كله منذ سقوط الإنسان في تكوين 3، وتفوّه الله بما يدعوه اللاهوتيون بالإنجيل البدائيّ في تكوين 3: 15 “وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ”. والتركيز هو على نسلين: نسل قايين الشرير، ونسل شيث (تكوين 4-5). هذا التمايز البيّن بين النسلين في أصحاح 4 و5 يصل في أصحاح 6 إلى ذروة القصة باختلاط النسلين والتزاوج بينهما، وتفشي الشر في الأرض نتيجة هذا الاختلاط.

6. هذا يقودنا إلى محاولة فهم الهدف الأكبر الذي قصده موسى أن يُشدد عليه من كتابته لهذا السفر وهو يقود خروج شعب إسرائيل من أرض مصر في البريّة صوب أرض الموعد لمحاربة وطرد الشعوب الكنعانية. لقد سعى موسى لرسم توازيّ بين نسل قايين والأمم الشريرة في عصره، وهابيل ونسل شيث الذين كانوا رعاة غنم مثلهم. وبينما قهر وقتل قايين أخاه وخرج ليبني لنفسه مدينة داعيًا إياها باسم ابنه، على غرار ما اجتاز فيه شعب الله حين كانوا في أرض مصر، حيث كان المصريين يبنون المُدن ويدعونها باسماء ملوكهم وآلهتهم (خروج 1: 11). فلو كان موسى يحكي عن تزاوج ملائكة ببشر، لما كان لذلك أي صلة بشعب الله السائر في البرية يناصبه الكثير من الشعوب والجبابرة العداء، إذ أن النسل الناتج عن هذا التزاوج قد فنى بالطوفان.

7. ما يؤكّد أن موسى أراد أن يصنع روابط بين “الجبابرة” في تكوين 6: 4، وبين الشعوب الأخرى هو أن هذا المُصطلح لم يُستخدم حصريًا للإشارة إلى النسل الناتج عن تزاوج “أبناء الله” “ببنات الناس”. فقد أُطلقت ذات الكلمة على الكثير من البشر بعد الطوفان، كنمرود (تكوين 10: 9)، والشعوب الكنعانية في زمن مجيء شعب الله إلى أرض الموعد (عدد 13: 33)، والكثير من أعداء شعب الله (يشوع 6: 2؛ 10: 2؛ قضاة 5: 13؛ 1 صموئيل 2: 4). فالجبابرة ببساطة هم رجال الحرب الأقوياء، حتى أنها قيلت أيضًا عن الكثير من جبابرة البأس من شعب الله (يشوع 8: 3؛ 2 صموئيل 1: 25؛ 10: 7).

ثالثًا: سياق الكتاب المقدس ككل

هذا يقودنا لطرح السؤال: من هم أبناء الله ومن هم بنات الناس بحسب سياق الكتاب المقدس ككل؟

8. إن الادعاء بأن مُصطلح “أبناء الله” في العهد القديم يُشير إلى الملائكة فقط، لهو ادعاء خطير لا سند كتابيّ له. فهناك الكثير من المواضع في العهد القديم تتحدث عن شعب الله باعتبارهم أبناء أو أولاد الله. على سبيل المثال:

  • * يُشير المزمور 82: 6 إلى قادة وقضاة إسرائيل على أنهم أبناء الله بقوله: “أنا قُلتُ: إنَّكُمْ آلِهَةٌ وبَنو العَليِّ كُلُّكُمْ.”
  • *ويقول النبيّ هوشع في 1: 10 عن شعب الله “لكن يكونُ عَدَدُ بَني إسرائيلَ كرَملِ البحرِ . . . ويكونُ عِوَضًا عن أنْ يُقالَ لهُمْ: لَستُمْ شَعبي، يُقالُ لهُمْ: أبناءُ اللهِ الحَيّ.”
  • *وكذلك إشعياء 43: 6 القائل: “أقولُ للشَّمالِ: أعطِ، ولِلجَنوبِ: لا تمنَعْ. ايتِ ببَنيَّ مِنْ بَعيدٍ، وببَناتي مِنْ أقصَى الأرض.”

بل أن من الأسفار التي كتبها النبيّ موسى ذاته، نجد أنه استخدم تعبير “أبناء الله” للإشارة إلى شعب الله:

  • *”فتقولُ لفِرعَوْنَ: هكذا يقولُ الرَّبُّ: إسرائيلُ ابني البِكرُ. فقُلتُ لكَ: أطلِقِ ابني ليَعبُدَني” (الخروج 4: 22-23).
  • *”أنتُمْ أولادٌ للرَّبِّ إلهِكُمْ . . . لأنَّكَ شَعبٌ مُقَدَّسٌ للرَّبِّ إلهِكَ، وقَدِ اختارَكَ الرَّبُّ لكَيْ تكونَ لهُ شَعبًا خاصًّا فوقَ جميعِ الشُّعوبِ الّذينَ علَى وجهِ الأرضِ” (تثنية 14: 1-2).

فمن الخطأ القول أن كل موضع في العهد القديم ذكر “أبناء الله” يكون المقصود به الكائنات الملائكية.

9. بل والأكثر من ذلك، فإن الاستشهاد بأيوب 1: 6 لدعم الإدعاء أن أبناء الله في تكوين 6 يُقصَد بها الملائكة، لا يخدم في الواقع هذه الحُجة بل على العكس ينسفها نسفًا. فالآية كاملة تقول:

وَكَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَنَّهُ جَاءَ بَنُو اللهِ لِيَمْثُلُوا أَمَامَ الرَّبِّ، وَجَاءَ الشَّيْطَانُ أَيْضًا فِي وَسْطِهِمْ.       

لاحط هنا أن الوحيّ المُقدّس يُميّز بوضوح بين أبناء الله (أي جُند الرب من الملائكة)، وبين الشيطان. فلم يقول على الشيطان أو على أي ملاك لم يحفظ رياسته أنه من أبناء الله. فلو كان أبناء الله في تكوين 6 هم ملائكة تركوا عروشهم السماوية ليتزوجوا من بنات البشر، لكان الوحي أوضح أنهم شياطين ولما نعتهم بأبناء الله، كما فعل في أيوب 1: 6.

10.يتحدثّ الكتاب المقدس، من التكوين إلى الرؤيا عن صراعٍ بين نسلين من البشر: أبناء النور وأبناء الظُلمة (لوقا 16: 8؛ يوحنا 12: 36)؛ ونسل المرأة ونسل الحيّة (تكوين 3: 17؛ رؤيا 12)؛ وبين أولاد الله وأولاد إبليس (1 يوحنا 3: 10)، للفصل بين المؤمنين الحقيقيين، وأتباع أو أولاد إبليس، أو أولاد الأفاعيّ (يوحنا 8: 44؛ متى 3: 7؛ 12: 34؛ 23: 33). وهذه المجموعة الأخيرة، رغم خضوعها لسُلطان الظُلمة، إلا أنها لا يزال إنتسابها للشيطان إنتساب روحيّ وليس جسديّ أو جنسيّ بأي شكلٍ من الأشكال (انظر أيضًا: أعمال 13: 10).

رابعًا: البُعد المنطقيّ

11.تكمن خطورة هذا التعليم بأن “أبناء الله” في تكوين 6 يتحدّث عن ملائكة ساقطة في أنه تعليم يفتح الباب أمام الكثير من الأفكار الخرافية والشعوذة. فالمؤمن بكلمة الله يُقر بحقيقة العالم الروحي، سواء عالم الملائكة، أو عالم الأرواح الشريرة، إلا أن هذا التعليم الغريب الذي ترجع أصوله إلى الكتابات اليهودية المنحولة، والتي بالطبع أثرت بدورها على بعض آباء الكنيسة، لا سند كتابيّ له.

بل أنه أشبه بالاعتقادات الإسلامية بأنه يُمكن للجن أن يسبق ويُضاجع الزوجة، إذا لم ينطق الرجل بالبسملة قبل مُباشرة إمرأته![1] ذلك الاعتقاد الخرافي الذي ربما يسمعه بعض المسيحيين ويضحكون لسذاجته، لا يختلف كثيرًا عن تعليم البعض أن “أبناء الله” في تكوين 6 هم ملائكة ساقطة تزوجوا من البشر. فلو كان هذا صحيح، فما المانع أن يحدث مرة أخرى اليوم؟ هل أصبحت النساء اليوم دميمات؟ أليس من الممكن أن يصير الشيء نفسه ويترك بعض الملائكة بإرادتهم الحرة السماء مرة أخرى ويظهروا في أجساد بشرية ويتزوجوا نساء؟ ما الذي يمنع؟ وهل هذا تفكير يتسق مع كلمة الله والمنطق الكتابيّ والعقليّ السليم؟


[1] صحيح البخاري، الكتاب الرابع، حديث رقم 143؛ صحيح مُسلم، الكتاب 36، حديث رقم 133.

شارك مع أصدقائك

مينا م. يوسف

يدرس حاليًا درجة الدكتوراة (Ph.D) في الإرساليات والأديان المقارنة في الكليّة المعمدانيّة الجنوبيّة، بولاية كنتاكي الأمريكيّة. كما حصل على درجة الماجستير (M.A) في الدراسات الإسلاميّة من جامعة كولومبيا الدوليّة، بولاية ساوث كارولاينا الأمريكيّة. ويعمل كمدير مشروعات الشرق الأوسط في خدمات الألفيّة الثالثة، وكمساعد أستاذ للدراسات العربيّة والإسلامية بالكليّة المعمدانية الجنوبية. كما شارك في تأليف كتاب Medieval Encounters باللغة الإنجليزيّة.