كان ريتشارد رور راهبًا فرنسيسكانيًا وكاهنًا كاثوليكيًا لمدة 50 عامًا، وأسس مركز “Action and Contemplation” في مدينة ألباكركي، بولاية نيو مكسيكو الأمريكيّة. ويتصدَّر كتابه “المسيح الكوني” The Universal Christ قائمة مبيعات أمازون للكُتب في مجال العقيدة المختصة بشخص المسيح وعمله، ومجال الأخلاق المسيحيَّة، وكذلك قد روَّج لهذا الكتاب مغنِّي فرقة U2 الموسيقيَّة “بونو”. وقد أجرت “أوبرا وينفري” مقابلة مع رور في عام 2015 ومرةً أخرى في عام 2019. أيضًا، تأثَّر القس السابق “روب بيل” بريتشارد رور وأجرى معه مقابلة لمدة 90 دقيقة.
وإذا أجرينا بحثًا في شبكة National Catholic Reporter الإخبارية، سنجد عشرات المقالات التي إما كُتبت بواسطة رور، أو كُتبت عنه، أو اقتبست منه. فمن الصعب أن تجد كاتبًا روحيًّا كاثوليكيًّا آخر قد حَظي بمثل هذا القدر من الصيت في السنوات الأخيرة. تُوثِّق مقالةٌ حديثة تأثيرَ رور المتزايد على جيل الألفيَّة المتعطش روحيًّا اليوم، وتُقدِّم وصفًا موجزًا لأحد الحاضرين في واحدٍ من مؤتمرات رور:
يصف أنتوني جرافاجنينو نفسَه روحيًّا بأنه محبط وفضولي. فيقول البالغ من العمر 28 عامًا، والذي كان خمسينيًّا وتحوَّل إلى وحدوي (يُنكر أن الله مثلث الأقانيم)، إنه سئِم من “تعبيرات الإيمان البالية والميتة التي رأيتُ حقًا أنها لا تُجدي نفعًا في تحسين الناس أو العالم من حولي”. غير أن “اكتشاف التقليد الصُوفي المسيحي، من خلال كتاب الراهب الفرنسيسكاني ريتشارد رور، قد ساهم في تغيير ذلك”، ويقول جرافاجنينو “إنَّ كتاب الأب ريتشارد أتاح [لي] مدخلًا إلى المسيحيَّة في الوقت الذي ظننتُ فيه أنه ليس مِن مدخل إليها”.
المسيح الكوني الذي يُنادي به رور
إنَّ عمل رور المحوري في كتابه هو التفرقة بين “يسوع” و “المسيح”. يسأل رور، في بدايات كتابه: “كيف تختلف وظيفة المسيح أو دوره عن وظيفة يسوع أو دوره؟ (11) وجوابه هو أن “يسوع” محدودٌ، وخاصٌّ، ومرتبطٌ بالأرض، بينما “المسيح” غير محدود، وكونيٌّ، ولا نهائي. يكتب رور: “فالمسيح… من الواضح أنه لم يكن مجرد يسوع الناصري، بل كان شيئًا أعظم بكثير” (3). إنَّ “يسوع” الذي يقصده رور ضئيلٌ مقارنةً “بالمسيح”. ففي روايته عن قيامة يسوع، لم يفرِّق رور بين “يسوع” و”المسيح” فحسب، بل قارن بينهما. فهو يؤمن بأن “يسوع” لا بد أن يتلاشى حتى يبرز “المسيح”.
في “المسيح الكوني”، يُطلق رور على يسوع “مزيج المادةِ والروحِ” (14). ورُغم أن هذا التصريح ليس خاطئًا بصورة واضحة، فإنه تأكيد ينطوي على شيء من التقليل –لأنه تصريح يمكن أن ينطبق على أي إنسان. لا يؤكد رور بصورة جلية أن “يسوع هو المسيح” أو أن “يسوع هو الله”. وبدلًا من ذلك يقول إنَّ “المسيح هو الله” وإنَّ “يسوع هو… ظهورٌ [لله] في الزمن” (19). ولأن كل شيء في الكون بالنسبة إلى رور هو ظهورٌ لله، فإنه حين يدعو يسوع ظهورًا لله، فكأنما يقول ببساطة إن يسوع جزءٌ من الكون.
في مقطع آخر، نجده يدعو يسوع “تعايُشًا رائعًا بين اللاهوت والبشرية” (130). ومع ذلك، فإن كلمة “تعايُش” توحي بأن يسوع ربما كان مجرد رجل تفاعَلَ مع الله. ومرة أخرى يكتب رور: “لقد أمضينا وقتًا طويلًا في عبادة المُرسَل ومحاولة حث الآخرين على فعل الشيء نفسه…. لقد طلب [يسوع] منا عدة مرات أن نتبعه، غير أنه لم يطلب قط أن نعبده”(32).
إعادة تعريف رور لبعض المصطلحات الأساسيَّة
بسبب الطرق غير المألوفة التي يستخدم بها رور مفردات مسيحيَّة مألوفة، قد يشعر القُرَّاء بالارتباك والتشويش. وفيما يلي بعض تعريفاته المستخدمة.
- الله: هو مصطلحٌ ذاتيٌّ يشير إلى الطريقة التي ينظر بها الناس إلى العالم. “أيُّ شيء يأخذك إلى خارج ذاتك، بطريقة إيجابية،… هو يعمل كالله بالنسبة إليك” (52). و”في كل مرة تختار أن تحب… فإنك تتلامس مع الشخصيَّة الإلهيَّة. ولا تحتاج حتى أن تدعوها ’الله” (175).
- الإعلان: هو ليس إعلانًا منفصلًا، يُعلن فيه اللهُ عن ذاته، ويحدث في التاريخ. بل هو يحدث في كل مكان وفي كل زمان: “هذا الكتاب… [يسعى] إلى إعادة تأسيس المسيحيَّة كدينٍ طبيعيٍّ وليس مجرد دين مبني على إعلانٍ خاص، متاح فقط لقلة من الناس”. إنَّ روحانيَّة رور طبيعيَّةُ المذهب naturalistic، و”التفرقة العقلية بين ’الطبيعي‘ وبين ’الفائق للطبيعة‘… تنهار” (7).
- الخليقة: كان الله -منذ الانفجار العظيم فصاعدًا- “متجسدًا” بالفعل في كل الأشياء. فيقول رور: “هذا الإعلان عن الذات، المنسوب إلى أيٍّ مَن تدعوه اللهَ، والموجود في الخليقة الماديَّة، كان هو ’التجسد الأول‘ (وهو المصطلح العام لأيِّ تجسدٍ للروحِ)، وقد حدث ذلك قبل فترة طويلة من التجسد الثاني، الشخصي، الذي يؤمن المسيحيون أنه حدث مع يسوع” (12). يكتب رور أن “الله يحب كل الأشياء بأن يصير هو إياها” (16، 20).
- المسيح: هو عملية مستمرة أكثر مما هو شخص: “إن سر المسيح ليس حدثًا يحدث لمرة واحدة، بل هو عملية متواصلة طوال الزمن – ثابتة مثل النور الذي يملأ الكون” (14)، وبالتالي لا “يحصر حضورَ الخالق في مجرد ظهورٍ بشريٍّ واحد، أي يسوع” (16). لا يقول رور بوضوح إن يسوع كان أو إنه هو تجسد الله أو هو ابن الله. ولكن بدلًا من ذلك، يكتب عن “تجسدٍ يؤمن المسيحيُّون أنه حدث مع يسوع”. يظهر “التجسد” هنا باعتباره طريقة معينة ينظر بها الناس إلى يسوع، وليس باعتباره حقيقةً موضوعيةً. لقد أهدى رور كتابَه إلى الكلب ’فينوس‘ الذي كان “مسيحًا” بالنسبة له!
- الصَلب: هو شيء حدث ليسوع وينبغي أن يحدث لنا أيضًا. فالقصة الكتابيَّة حول الموت والقيامة إنما تُعلِّمنا أنه ينبغي على الجميع أن يتخلى عن الروابط التي تربطه بالأنا (وهذا هو “الصَلب”) حتى يولَد من جديد (وهذه هي “القيامة”). كان موت يسوع “التضامن العظيم لله” مع البشرية (33)، و”ليس مجرد صفقة دموية ’استلزمتها‘ عدالةُ الله الساخطة، من أجل معالجة مشكلة الخطية البشرية” (140). وموتُ يسوع لم يُنجز الفداءَ. ولكن، أنا يسوع، وأنت يسوع، والجميع يسوع – وهذا هو الحال الذي وصل إليه رور.
- القيامة: هي “المبدأ العام لكل الحقيقة” و “القيامة [هي] كلمة مرادفة للتغيير” (170-1). في يوم أحد القيامة، “تحوَّل جسد يسوع المقيَّد إلى نورٍ يسطع في كل مكان” (176). ويضيف رور: “لو أنَّ هناك كاميرا فيديو قد وُضعت أمام قبر يسوع، فإنها ما كانت لتصوّر رجلًا وحيدًا خارجًا من القبر… [بل] شيئًا مثل أشعة الضوء يمتد في كل الاتجاهات” (177). ومع ذلك، يقول رور بكل اجتراءٍ: “فيما يخص هذه القضية المهمة [أي قيامة يسوع]، أنا محافظٌ تمامًا وأتبع العقيدة القويمة وفقًا لمعظم المعايير” (172).
- الأزمنة الأخيرة: يكاد لا يقول رور شيئًا عن ذلك، ربما لأنه يؤكد أن وحدة الله مع البشرية ومع الكون هي حقيقة حاضرة وليست رجاءً غير محقَّق. فيقول: “إنها مسألة وقت فحسب حتى تنهار كل القوة الزائفة”، وأن “هذا هو التحقق التدريجي ’للمجيء الثاني للمسيح‘” (198-9). يؤكد رور على مفهوم الخلاص الكوني، فكتب أن “الجحيم والمسيح لا يمكن أن يكونا موجودَين في الوقت ذاته”، وأن البشارة السارة لا بد أن تكون “بشارة سارة للجميع” (185).
التعليم التاريخي عن المسيح والتجسد
على الرغم من أن رور يلتفُّ بعباءة الروحانيَّة الكاثوليكيَّة والفرنسيسكانيَّة (21-22، 65، 129، 239)، فإن الكثير مما يقدمه رور يتناقض مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكيَّة والمسيحيَّة التاريخيَّة.
يدَّعي رور، بالتناقض مع التعاليم التقليديَّة، أن “التجسد الأول” حدث عندما خلق الله العالم. ولكن ثمة مشكلة واضحة هنا: إذا كان الله كائنًا شخصيًا، فكيف استطاع إذن أن يدخل في “التجسد” بواسطة الكون المادي دون أن يصبح -بالتالي- غير شخصيٍّ؟ فبصفتنا كائنات شخصية، لا يمكننا أن نتجسد أنا وأنت في صورة جماد غير حي. فكم بالحري لا يمكن لله أن يتجسد في صورة حجر أو محيط أو هواء؟ إن اقتراح المرء شيئًا بخلاف ذلك، إنما يهين [الله] المتجسد.
إن رغبة رور في التفرقة بين “المسيح” و”يسوع” تناولها القديس إيريناؤس في كتابه “ضد الهرطقات” في القرن الثاني الميلادي. وفيه أرسى إيريناؤس المبدأ القائل بأن “المسيح لا يمكن أن ينفصل عن يسوع”. وأضاف القديس في ذلك العصر القديم: “من الواضح إذن أن الرسول بولس لم يعرف مسيحًا آخر إلا هذا وحده -الذي تألم، ودُفن، وأُقيم من الموت، والذي وُلد، وتكلم كإنسانٍ”. ذكر إيريناؤس أنه من “التجديف” أن تفصل “المسيح” عن “يسوع” – مثلما كان يفعل بعض الكُتَّاب الغنوصيين.
مَن أيضًا -بخلاف رور- يفصل “المسيح” عن “يسوع”؟ تضمُّ القائمة: سيرينثوس (Cerinthus)، الغنوصي من القرن الثاني، وماري بيكر إيدي (Mary Baker Eddy)، مؤسسة بدعة “العِلم المسيحي”، ومفكري “العصر الجديد” في ثمانينيات القرن العشرين. كتبت ماري بيكر إيدي: “ليس أن يسوع البشري كان أو أنه أزلي، بل أن الفكرة الإلهيَّة أو المسيح كان ولا يزال أزليًا”. يحظى رور هنا بصحبة لاهوتيَّة مُخجِلة.
يبدأ العهد الجديد من فرضية مختلفة تمامًا، ألا وهي أن “يسوع هو المسيح”، وأن “فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا” (كولوسي 2: 9). تقول رسالة يوحنا الأولى 4: 1-3 “وَكُلُّ رُوحٍ لاَ يَعْتَرِفُ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي الْجَسَدِ” يُظهر أنه “رُوحُ ضِدِّ الْمَسِيحِ”. يقول رور في “المسيح الكوني” أن عبارة “الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا” (يوحنا 1: 14) لا “تشير إلى جسدٍ بشريٍّ واحدٍ” (5). لكن إذا لم يكن الابن الأزلي قد تجسَّد في “جسدٍ بشريٍّ واحدٍ”، فكيف إذن حدثت معجزة التجسد من الأساس؟ يقف كتاب “المسيح الكوني” في خندق واحد مع ما يدعوه الكتاب المقدَّس “رُوح ضِدِّ الْمَسِيحِ”.
حقيقة الشر
إنَّ واحدة من أخطر المشكلات التي يقع فيها رور هي قضية تتعلّق بالتمييز الأخلاقي. فهو يخبرنا أن الله في موت يسوع يقف متضامنًا مع متألمي التاريخ. حتى الآن لا تزال الأمور جيدة. ولكن هذا هو المكان الذي تتجه فيه محاولاته لاستخلاص بعض المعانى من موت يسوع إلى صِدامٍ مباشر مع تعاليمه حول “المسيح الكوني”. لم يتطرق رور قط في كتابه “المسيح الكوني” إلى المشكلة الأخلاقيَّة -المستوطنة في جميع وجهات النظر “الأحادية” [التي تنكر أيَّ ثنائية]- والمتمثلة في التمييز بين الخير والشر.
لأنه إذا كان “المسيح” هو تلك الفتاة اليهودية المختبئة في غرفة نومها والتي تحاول ألا يتم رصدها، إذًا، فإن “المسيح” هو أيضًا جندي كتيبة العاصفة النازية الذي يحاول أن يقتحم ذلك البيت من الباب الأمامي. وإذا واصل رور مسايرة توجُّهِهِ هذا، فإنه قد يتمنَّى لو أنه يقف في هذه الحالة إلى جانب هذه الضحية الشابة، ولكن ماذا لو أنني فضَّلتُ الوقوف إلى جانب وحشية الجندي النازي؟ لأنه وفقًا لمبادئ رور، فإن هذا الجندي العديم الرحمة هو “مسيحٌ” بالدرجة ذاتها مثل هذه الضحية التعيسة. فإن مقدماته المنطقية قد تؤدي إلى لاهوت الجندي النازي بالسهولة عينها التي قد تؤدي بها إلى لاهوت التضامن مع الضحايا. لستُ أرى أي مهرب من هذه المشكلة الأخلاقيَّة، إلا إذا تخلَّى رور عن فرضيته بشأن “المسيح الكوني”، أو أن يتبنى “مسيحًا كونيًا” يتسم -في آنٍ واحد- بأنه صالح وشرير، رحيم وعديم الرحمة. وإذا اعترف رور بأن ليس كل الأشياء هي مسيح، فإن حجته ستنهار. لكن البديل هو أن يشدد على أن المسيح شرير وصالح كذلك.
مشكلة الخلاص الذاتي
خلال القرن الثاني، كَتَبَ المدعوُّون غنوصيين عن “يسوع” و “الجهل” و “الخلاص” و “الخطية”، غير أنهم نسبوا إلى هذه المسميات معاني منحرفة عن الكتاب المقدُّس. بالنسبة إليهم كان يسوع نموذجًا لبقية البشر. كانت المشكلة الإنسانية الأساسية –بالنسبة إلى الغنوصيين- هي جهل الذات بهويتها الحقيقية. ومن شأن التغلب على مثل هذا الجهل أن يحدث من خلال المعرفة (“غنوص” باليونانية). كان يجب على جميع البشر أن يستفيقوا ليعرفوا طبيعتهم الحقيقية؛ وكان يسوع ببساطة هو أول مَن استفاق.
وبالتالي، فإن يسوع لا يُخلِّصنا، بل نحن نُخلِّص أنفسنا بعبورنا من الجهل إلى الفهم. بالنسبة إلى شخص مثل رور، قد يكون يسوع شخصية مفيدة، لكنه ليس بالشخص الذي لا يمكن الاستغناء عنه، لأنه من الممكن تمامًا الانتقال من عدم الفهم الذي يميز “الذات المزيفة” إلى الحكمة التي تميز “الذات الحقيقية” – دون سماع اسم يسوع أو الإيمان به. وبالتالي، فإن موقف رور يرقى إلى مستوى عقيدة الخلاص الذاتي – ويطمس تمامًا الحقيقة التاريخية ليسوع.
ما الذي يمكن أن نتعلمه؟
من المستحيل أن نجزم بنوع العلاقة السببية التي ربما توجد بين تعرُّض شخص ما لتعاليم رور وبين فقدانه للإيمان المسيحي. لكننا نتساءل عما إذا كان كتاب رور يقدم لقرائه جسرًا روحيًّا ولاهوتيًّا نحو شيءٍ ما ينتمي إلى مذهب “ما بعد المسيحيَّة”، أو “تداخل الأديان”، أو “المذهب الطبيعي”.
كما ذكرنا سابقًا، لا يقبل رور الإعلان الخاص. فالطبيعة هي كل ما نحتاج إليه (اقرأْ الفقرة المعنونة “الله”). “فالمسيح” ليس مجرد تسمية يمكن لصقها في كل مكان، كما هو الحال في كتاب رور، بل وهي أيضًا تسميةٌ يمكن ألا تنطبق على أي شيء، إذا شئنا ذلك. قد يرغب الأشخاص المتطورون ثقافيًا اليوم في تجنب الانحياز إلى “المسيح” أو الإشارة إليه. وإذا باتت ألفاظٌ مثل “الله” و”المسيح” و”يسوع” لغةً يمكن التخلي عنها، فما المانع إذًا؟ ما المانع من أن نقول “الكون يرشدني” أو “إنني أسيرُ وفقًا للتيار الكوني”؟
إنَّ مشكلة رور لا تكمن فقط في أنه تبنَّى مواقف معينة مثار جدل من الناحية اللاهوتيَّة. بل تكمن في أن أفكاره تخلو من السر المقدَّس للإنجيل، الذي لا غنى عنه، المغيِّر لكل شيء –أي “الكلمة صار جسدًا” (يوحنا 1: 14). وبدلًا منه يوجد فراغ. إذا تلاشى جسدُ يسوع البشري، حسبما يخبرنا رور، وتفرَّقت أشعته المنتشرة في كل مكان، فبالتالي لا يتبقى شيء لنعبده إلا الكون نفسه. أو ربما أن استنتاجه هو أن كلًا منا يعبد طبيعة المسيح التي فيه؟ من الصعب أن نرى كيف أن عبادة الكون أو عبادة الذات تختلف عن عبادة اللا شيء، في نوع غامض من العدمية الورعة.
هناك شيء نائم في قناعة رور بأن الجميع بخير وأن كل شيء على ما يرام. فالذين يُقاسون مشكلات حقيقية في الحياة –كوجود عصابة عنيفة تُرهب الحي الذي يقطنه المرء، أو الإدمان على الكحول أو المخدرات، أو إقدام فرد من العائلة على الانتحار- فأولئك ليس من بيهم أحدٌ سيجد الكثير من التشجيع في معرفة أن “المسيح هو اسم آخر لكل شيء”. أولئك الذين سحقتهم الحياة قد يتجاوبون بغضبٍ مع تفاؤل رور البالغ الإفراط. ورغم حديث رور في “المسيح الكوني” عن التغلب على الامتيازات الاجتماعية، فإن من المرجح ألا يقرأ هذا الكتاب إلَّا حفنة من المتنعمين وذوي الحظوة. إنه ليس كتابًا يقرأه أو يقدِّره شخصٌ يعيش في مأوى للمشردين. أو على حد تعبير دوروثي باركر: “هذا ليس كتابًا ينبغي أن يُطرَح جانبًا برفقٍ. بل كتابًا ينبغي التخلص منه بقوة شديدة”.
الروحانيَّة المسيحيَّة الحقيقيَّة
من أين تبدأ الروحانيَّة المسيحيَّة الجادة؟ بخلاف الكتاب المقدَّس نفسه، هناك وفرة من المؤلفات التي يجب أن يُنظر إليها، والعديد منها متاحٌ عبر الإنترنت. ومن بعض الكُتب التي أفضِّلها أنا شخصيًا: كتاب “أقوال آباء الصحراء” للكاتبة بنديكتا وارد؛ وكتاب “في محبة الله” لبرنارد من كليرفو؛ وكتاب “الاقتداء بالمسيح” للراهب توماس إكيمبيس، وكتاب “مدخل إلى حياة التقوى” لفرانسوا دي سال؛ وكتابَي “اللهث وراء الله” و”معرفة القدوس” للكاتب أ. و. توزر.
فالمؤمن المسيحي الذي يُبحر في هذا الأدب العظيم لن يرجع إلى كتاب رور “المسيح الكوني” ويجد فيه الكثير من القيمة. فمن المؤسف اليوم – بالنسبة إلى أشخاص مثل مايكل جونجور Michael Gungor – هو أن المرء يكاد لا يجد وعظًا أو تعليمًا في الكنائس حول حقيقة وسر وعظمة تجسد المسيح، ولا يجد إدراكًا لمخزون الحكمة الشاسع الموجود في التقليد الروحي المسيحي.
وإلى أن يكتشف القادة المسيحيُّون ثروات الكتاب المقدَّس ورؤى الرجال والنساء القديسين في الماضي، فإن الجياع روحيًّا في عصرنا قد يلتقطون كتاب “المسيح الكوني” في المكتبة أو في محل بيع الكتب، ويفترضون أنه كتابٌ عن الروحانيَّة المسيحيَّة. سيأخذون معهم إلى المنزل قطعة الحجر هذه بدلًا من الخبز. فيا أيها الرعاة والمعلمين: “انتبهوا”.