التعريف
دراسة عقيدة الثالوث وتطوُّر فهمها في القرون الأولى للكنيسة.
المُلخّص
سوف تستعرض هذه المقالة تطوُّر فهم العقيدة المسيحيَّة عن الثالوث في القرون الأولى للكنيسة المسيحيَّة. وستختتم ببعض التبصُّرات الموجَّهة لمسيحيِّي اليوم.
المقدِّمة
على نحوٍ ذائع الصيت، أعلن اللاهوتيُّ الألمانيُّ والمؤرِّخ الكنسيُّ أدولف فون هارناك (1851-1930) أنَّ التطوُّر العقائديَّ المسيحيَّ هو “ثمرة للروح اليونانيَّة على تربة الإنجيل” (تاريخ العقيدة، 1، 17). ووفقًا لهارناك، كانت عقيدة الثالوث في الكنيسة الأولى مفروضة جبرًا على الفهم الكتابيِّ لله. ولكن الحقيقة هي عكس ذبك، فقد كانت الكنيسة الأولى تؤمن بالثالوث لأنَّ الكتاب المقدَّس يُؤمن بالثالوث. فالشهادة الرسوليَّة عن شخص يسوع وعمله، وإعلان العهد القديم عن عمل الله السياديِّ، والتوقُّعات النبويَّة، إلى جانب اختبار عمل الروح القدس والشهادة عنه في حياة الكنيسة (وفي صفحات أسفار العهد القديم المقدَّسة) كلُّهم جميعًا كشفوا عن الطبيعة الثالوثيَّة لله. وبالتأمُّل في الكتاب المقدَّس وفي شخص المسيح وعمله، طوَّرت الكنيسة الأولى وعيًا ثالوثيًّا متناميًا. وقد عبَّرَ هذا الوعي عن ذاته في العبادة، والتأمُّل اللاهوتيِّ، والتشجيع الرعويِّ. وفي حين أنَّ كلمة “ثالوث” كانت بحدِّ ذاتها تطوُّرًا، فإنَّ الإيمان بالله المثلَّث الأقانيم كان حجر الأساس للإيمان المسيحيِّ منذ البداية.
القرن الثاني
تقريبًا عام 110 ميلاديًا، كتبَ قسٌّ من أنطاكية اسمه أغناطيوس (تقريبًا 35-110 ميلاديًّا) رسائل عديدةً إلى عدَّة كنائس وهو في طريقه إلى الاستشهاد في نهاية المطاف. وقد تشكَّل وعيه الثالوثيُّ بمزيج مميَّز من كتابات العهد القديم والعهد الجديد، وإن كانت اقتباساته الدقيقة قليلة. بل إنَّ تأكيده على علاقة الابن بالآب كان يشبه الترنيمات. وفي رسالته إلى أهل أفسس، نستطيع أن نرى أوضح الصور وأعمق التصريحات المعبِّرة عن الثالوث. وإذ يقارن أغناطيوس وحدةَ الكنيسة بجوقة المرنِّمين، يوصيهم قائلاً: “[خذوا] نغمتكم من الله [حتَّى] ترتِّلوا للآب في تناغمٍ وبصوتٍ واحدٍ في يسوع المسيح، لكي يسمعكم، وكذلك -على أساس ما تفعلونه حسنًا- يعترف بأنَّكم أعضاء في ابنه” (رسالة أغناطيوس إلى أهل أفسس 4: 2). وفي إشارةٍ إلى الأساس الثالوثيِّ للكنيسة، يصف أغناطيوس المؤمنين بأنَّهم مثل “حجارة هيكل، مُعدَّة مسبقًا للبناء الذي يشيِّده الله الآب، وتُرفَع إلى الأعالي برافعة يسوع المسيح، أي الصليب، مستخدمًا الروح القدس حبلاً” (رسالة أغناطيوس إلى أهل أفسس 9: 1). وبعد بضع سنوات من أغناطيوس، أظهر بوليكاربوس (69-156 ميلاديًّا)، أسقف سميرنا، أيضًا وعيه بالثالوث قبل استشهاده: “أُمجِّدك، من خلال رئيس كهنتنا الأزليِّ السماويِّ، يسوع المسيح، ابنك الحبيب، الذي فيه، معه ومع الروح القدس، تكون مُمجَّدًا الآن وإلى الأبد” (استشهاد بوليكاربوس، 14).
وعلى غرار بوليكاربوس، لم يخجل المدافعون الأوائل عن الإيمان المسيحيِّ من الاعتراف بالثالوث. فقد علَّق أثيناغوراس الأثينيُّ (تقريبًا ١٣٣-١٩٠ ميلاديًّا) قائلاً: “من ذا الذي لا يندهش لسماع أناس يتحدَّثون عن الله الآب، والله الابن، والروح القدس، الذين يعلنون قوَّتهم في الوحدانيَّة، وفي تمايزهم في الترتيب، أيقال بعد ذلك أنَّنا ملحدون؟” (التماس من أجل المسيحيِّين، 10). وكان يوستينوس الشهيد (تقريبًا 100–165 ميلاديًّا) يصف لقرَّائه الإجراءات المتَّبعة في المعموديَّة: “في اسم الله، الآب وربِّ الكون، وفي اسم مخلِّصنا يسوع المسيح، وفي اسم الروح القدس، … بعد ذلك يقبلون [المؤمنون الجدد] الغُسل بالماء” (الدفاع الأوَّل، 61). وفي دفاعهم عن الإيمان، أكَّدَ المدافعون أنَّ المسيحيَّة تعبد الإله الواحد الحقيقيَّ المعلن، الآب والابن والروح القدس. لم يكن هذا شيئًا جديدًا، كما زعمَ عديدٌ من المنتقدين، بل كان الحقَّ المعلن منذ البداية والواضح وضوح الشمس من خلال الكلمة المتجسِّد (راجع يوحنَّا 1: 14).
أمَّا إيريناوس من ليون (تقريبًا 130-202 ميلاديًّا) فقد قدَّمَ دفاعًا شاملاً عن الثالوث تدبيريًّا [أو من حيث أدوارهم]، أي كيفيَّة ارتباط الأقانيم الإلهيِّين أحدهم بالآخر وارتباطهم بتاريخ معاملات الخلاص. يُعبِّر إيريناوس عن تعاون الأقانيم الثلاثة على النحو التالي: “يخطِّط الآب جيِّدًا لكلِّ شيء ويصدر أوامره، وينقل الابن هذه الأوامر من أجل تنفيذها ويؤدِّي مهام الخلق، والروح يغذِّي وينمِّي [ما عُمِلَ]” (ضدّ الهرطقات 4/38/3). وكان حاضرًا في المشهد بالنسبة لإيريناوس التعاليم المختلفة للغنوصيَّة التي افترضت وجود إله خالق شرِّير وإله روحيٍّ صالح، مع عديدٍ من الكائنات الروحيَّة الأقلِّ مكانةً [الأيونات/ الآلهة الأدنى]. فأكَّدَ إيريناوس أنَّ الإيمان المسيحيَّ توحيديٌّ، وأنَّ الله الواحد الحقيقيَّ هو خالق وربُّ الكلِّ. فبدلاً من رؤية كائنات عديدة، وإسناد الخلق إلى إلهٍ شرِّيرٍ أقلِّ مكانةً، أكَّدت المسيحيَّة وجود إله واحد وهو خالق وحامل كلِّ الأشياء. هذا الإله الواحد موجود في ثلاثة أقانيم، ومشارك بشكل وثيق في فداء الإنسان وفي الكون.
القرن الثالث
استمرَّ الفكر الثالوثيُّ إلى القرن الثالث تواليًا، مع شخصيَّات مثل ترتليان من قرطاج، وهيبوليتوس الرومانيِّ، وأوريجانوس السكندريِّ وغيرهم. في أوائل القرن الثالث الميلاديِّ، كتب هيبوليتوس الرومانيُّ (عاش تقريبًا بين 170–235 ميلاديًّا) أطروحةً بعنوان “ضدّ نويتوس”، ردًّا على رجل مسيحيٍّ من سميرنا يُدعى نويتوس كان يروِّج لآراءٍ غير كتابيَّة عن الثالوث. ادَّعى نيوتوس مع آخرين أنَّ الآب وكذلك الابن قد تألَّما على الصليب (معتقد يُدعى “تألُّم الآب” patripassianism). وكتبَ هيبوليتوس أيضًا دفاعًا عن الثالوث تدبيريًّا [أو من حيث أدوارهم]: “إنَّ تدبير التناغم The economy of harmony يعود إلى إلهٍ واحد. لأنَّ الله واحد. فالآب هو الذي يأمر، والابن هو الذي يطيع، والروح القدس هو الذي يعطي فهمًا. الآب فوق الكلِّ، والابن من خلال الكلِّ، والروح القدس هو في الكلِّ” (Against the Heresy of the One Noetus, 8; ANF 5:226). ولاحقًا ستصبح لغة “فوق” و”خلال” و”في” نقطة خلاف في القرن الرابع، بين جماعة أعداء الروح (لقبهم حرفيًّا يعني “محاربي الروح” – Pnematomachian) الذين أنكروا ألوهيَّة الروح القدس.
في رسائله ضدّ براكسيس، أحد المعلِّمين الكذبة، يقول ترتليان (عاش ما بين 155-240 ميلاديًّا): “لقد أجبر الباراكليت على الهرب وصلَبَ الآب” (ضدّ براكسيس، 1). وكغيره من اللاهوتيِّين المسيحيِّين الأوائل، كان جوهر القضيَّة هو لَيَّ وتحويرَ كلمات الكتاب المقدَّس. فقد أكَّد: “كلُّ الأسفار المقدَّسة تُبيِّن كلاًّ من إظهار الثالوث وتمايز أقانيمه، ومن هذه الأسفار أيضًا نستمدُّ قانوننا الدائم، وهو أنَّه لا يمكن اعتبار المتحدِّث، والشخص الذي يجري الحديث عنه، والشخص الموجَّه إليه الحديث هُم واحد. (ضدّ براكسيس، 11). وتشير كلمة “قانون” هنا إلى قانون الإيمان، الذي كان تلخيصًا للتعليم الكتابيِّ المُمثَّل في قانون إيمان الرسل. والالتزام بهذا القانون كان يضمن تفسيرًا صحيحًا للكتاب المقدَّس. وردًّا على بدعة الموداليَّة، أصبحت صياغة ترتليان هي الأساس للتعريف الذي وضعته الكنيسة للثالوث. قال ترتيليان: “الكلُّ هم من واحد، بوحدانيَّة في الجوهر؛ بينما لا يزال سرُّ هذا التدبير محفوظًا، الذي يضع الوحدة في ثالوث، واضعًا الأقانيم الثلاثة في ترتيبهم -الآب والابن والروح القدس” (ضدّ براكسيس، 2).
ورغم أنَّ أوريجانوس السكندريَّ (تقريبًا 184-253 ميلاديًّا) قد حافظ على إيمانٍ بالثالوث في ما يتعلَّق بتدبير الفداء، فإنَّ كتاباته تحتوي على تلميحات بتبعيَّة الابن للآب، كما يتَّضح -على سبيل المثال- في شرحه ليوحنَّا 13: 25، “نقول إنَّ المخلِّص، والروح القدس أعظم من كلِّ المخلوقات، ليس بدرجةٍ ما بل بسموٍّ يفوق كلَّ قياس. لكن الآب أعظم من الابن [وأعظم من الروح القدس] بقدر، وربَّما أكثر، ممَّا هما أعظم من المخلوقات الأخرى، حتَّى أعظمها”. يبدو أنَّ هناك نبرة تلمِّح إلى التبعيَّة أو تدرُّج المكانة في أقوال أوريجانوس، إلاَّ أنَّه يتمسَّك بوحدانيَّة الله الوجوديَّة [المتعلِّقة بالجوهر]. “على غرار النور الذي لا يمكن أبدًا أن يوجد من دون بهائه، فهكذا لا يمكن فهم وجود الابن من دون الآب” (في المبادئ الأولى، 4: 28). قدَّم أوريجانوس أيضًا تفكيرًا مفيدًا في فهم النشأة الأزليَّة للابن. فأكَّد أنَّ “الله هو الآب لابنه الوحيد، المولود منه بالحقيقة، ويستمدُّ كينونته منه، ولكن لا بداية له” (في المبادئ الأولى 1-2-2). ويتابع القول فيؤكِّد: “وحدة الطبيعة والجوهر يشترك فيها الآب والابن” (في المبادئ الأولى 1-2-6). وسيكون لأفكار أوريجانوس المختلطة بشأن الثالوث، وإن كانت لا تتجاوز قط إلى حدود الهرطقة، تأثيرات بالغة على الفكر الثالوثيِّ في القرن الرابع لكلٍّ من المعلِّمين القويمين والمهرطقين على حدٍّ سواء.
القرن الرابع
في القرن الرابع، احتدمت المعركة بشأن الثالوث وسط عددٍ من البدع المتعلِّقة بشخصَي المسيح والروح القدس. في أوائل القرن الرابع، أكَّد كاهن من الإسكندريَّة اسمه آريوس (256-336 ميلاديًّا) أنَّه “كان يوجد وقت لم يكن فيه الابن”. وفي تشديده على وحدانيَّة الله، أعلن آريوس أنَّ الابن مخلوق. “بإرادة الله، خُلِق [الابن] قبل الأزمنة وقبل الدهور، واكتسب الحياة والوجود من الآب” (Arius, Letter to Alexander; NPNF2 4:458). ورغم أنَّ آريوس أقرَّ بأنَّ الابن فريد من نوعه، فهو أكَّد أنَّ الابن مخلوق. واستند آريوس إلى الآيات في أمثال 8: 22-31، وكولوسي 1: 15 باعتبارهما دعمًا كتابيًّا مزعومًا لحالة الابن كمخلوق. وكانت هذه هي المقاطع الكتابيَّة نفسها التي اختارها أوريجانوس، قبل ذلك بقرن من الزمان، لإبراز الطبيعة الفريدة للمسيح، ولكن ليس كمخلوق. وأشار آريوس أيضًا إلى مقاطع كتابيَّة أخرى مثل يوحنَّا 14: 28 ومرقس 13: 32 لإظهار أنَّ الابن كان في مرتبة أدنى من الآب. ومن ثمَّ، فإنَّ مجمع نيقية، الذي انعقد بدعوة من الإمبراطور قسطنطين عام 325 ميلاديًّا، سعى لمعالجة المسألة اللاهوتيَّة الشائكة الخاصَّة بالآريوسيَّة. وضع المجمع قانون إيمان يؤكِّد الألوهيَّة الكاملة للابن بينما يُدين أيضًا معتقدات آريوسيَّة محدَّدة باعتبارها هرطقات. لقد أكَّدوا أنَّ الابن له ذات الجوهر الواحد (“هوموأُوسياس” في اليونانيَّة) مع الآب، وأنَّه “إله من إله، نور من نور، إله حقّ من إله حقّ، مولود غير مخلوق”. غير أنَّ مجمع نيقية ما كان ليحلَّ المشكلة بين عشيَّة وضحاها، لذلك فإنَّ بعض المفكِّرين أمثال أثناسيوس السكندريِّ، وهيلاري أسقف بواتيه، والآباء الكبادوكيِّين سيواصلون تقديم دفاع لاهوتيٍّ مهمٍّ عن الثالوث بالمفهوم الكتابيِّ، من منتصف القرن الرابع الميلاديِّ وحتَّى أواخره.
كان أثناسيوس السكندريُّ (تقريبًا 296-373 ميلاديًّا) يخدم كشمَّاس عندما انعقد مجمع نيقية. وعندما أصبح أسقفًا في الإسكندريَّة، استمرَّ في الدفاع عن إيمان نيقية على الرغم من أنَّ الآريوسية كانت هي المذهب المفضَّل عند ابن قسطنطين، الإمبراطور قسطنطيوس الثاني (حكم من 337 إلى 361 ميلاديًّا). نُفِيَ أثناسيوس بعد ذلك خمس مرَّات لدفاعه المستمرِّ عن العقيدة القويمة لمجمع نيقية. كان همُّه الأساسيُّ هو رسالة الإنجيل. فطرح سؤالاً: “إذا كان “الكلمة” مخلوقًا، كيف يكون له المقدرة لرفع دينونة الله ومغفرة الخطيَّة، إذ أنَّ هذه من صلاحيَّات الله وحده؟” (Four Discourses Against Arians, 2.67; NPNF2 4:385). وأكَّد أثناسيوس، جنبًا إلى جنب مع ما استخلصه مجمع نيقية، أنَّ الابن له ذات الجوهر الواحد (هوموأُوسياس) ولكنَّه متمايز، وأكَّد أنَّ وحدة الطبيعة لم تجعل الآب والابن الشيء نفسه، وبالتالي تجنَّب الوقوع في بدعة الموداليَّة. وبعد أن تسلَّم هيلاري أسقف بواتيه (عاش تقريبًا 310-367 ميلاديًّا) الرايةَ من أثناسيوس، سيؤكِّد رسالة نيقية داخل المسيحيَّة الغربيَّة، وسيفعل الآباء الكبادوكيُّون الأمر نفسه في الشرق. كتب هيلاري أطروحته عن الثالوث تقريبًا سنة 360 ميلاديًّا، والتي أيَّدت لاهوت نيقية، ممَّا أكسبه لقب “أثناسيوس الغرب”.
كتب باسيليوس القيصريُّ (عاش 329-379 ميلاديًّا) وشقيقه غريغوريوس النيصيُّ (عاش تقريبًا ما بين 335–395 ميلاديًّا) جنبًا إلى جنب مع صديقهما المشترك غريغوريوس النزينزيِّ (عاش 329-390 ميلاديًّا) -المعروفين معًا باسم الآباء الكبادوكيِّين– كتبوا عديدًا من الأطروحات بخصوص كلٍّ من وحدانيَّة اللاهوت والدور الفريد لكلِّ أقنوم إلهيٍّ. لقد كانت هذه ممارسة روحيَّة نابعة من الاهتمام بالحفاظ على الإنجيل. لقد حاربوا من أجل حقيقة أنَّ الله واحد في الجوهر (“أوسيا” في اليونانيَّة) بينما هو مثلَّث الأقانيم (“هايبوستاسيس” في اليونانيَّة). كتب باسيليوس: “مصطلح «أوسيا» شائع [للجميع] … بينما «هايبوستاسيس» نستبصره في الخصائص المميَّزة للأبوَّة، أو البنوَّة، أو قوَّة التقديس” (الرسالة 214: 4). وبالمِثل، علَّم غريغوريوس النزينزيُّ، فيقول: “اللاهوت [الذات الإلهيَّة] واحد في ثلاثة، والثلاثة هم واحد، الذين فيهم اللاهوت، أو بتعبير أدقَّ، الذين هم اللاهوت” (خطبة 39: 11). سار غريغوريوس النيصيُّ على المنوال ذاته قائلاً: “كلُّ واحد من الأقانيم الثلاثة يتمتَّع بالوحدانيَّة بسبب وحدة الجوهر والقوَّة” (ضدّ أونوميوس، 1: 36). وبنهاية القرن الرابع، كان بعض المفكِّرين أمثال أثناسيوس، وهيلاري من بواتييه، والآباء الكبادوكيِّين قد عزَّزوا التعاليم الكتابيَّة لمجمع نيقية (الذي أكَّده مجمع القسطنطينيَّة اللاحق في 381 ميلاديًّا) باعتبارها عقيدة الثالوث الصحيحة للكنيسة.
القرن الخامس
قدَّم المفكِّرون في القرن الخامس قمَّة الفكر الثالوثيِّ الذي من شأنه أن يعزِّز اللاهوت الثالوثيَّ للألف سنة القادمة. قدَّم أوغسطينوس أسقف هيبو (354-430 ميلاديًّا) في الغرب، وكيرلس السكندريُّ (تقريبًا 376-444 ميلاديًّا) في الشرق دفاعًا شديدًا عن عقيدة الثالوث. استمرُّوا في نشر الإيمان بوحدانيَّة الجوهر وثلاثيَّة الأقانيم. ففي كتاباته عن الثالوث، أكَّد أوغسطينوس: “أيًّا كان ما يقال عن الله في ما يتعلَّق بذاته، يُقال فرديًّا عن كلِّ أقنوم، أي عن الآب والابن والروح القدس. وكذلك يقال مجتمعًا عن الثالوث نفسه، ليس بصيغة الجمع بل بصيغة المفرد” (في الثالوث، 5/ 8/ 9). كما عبَّر أوغسطينوس عن وجهة النظر الخاصَّة بالانبثاق المزدوج للروح من الآب والابن، لأنَّنا نرى الروح ينبثق من الابن أيضًا (في الثالوث، 15/17/29). وستصبح عبارة “والابن” (filioque) سمةً مميَّزة للتعليم المسيحيِّ الغربيِّ عن الثالوث، حيث أُضيفت إلى قانون إيمان نيقية، وتسبَّبت لاحقًا في إثارة الفزع بين الكنيسة الغربيَّة والكنيسة الشرقيَّة.
كان كيرلس السكندريُّ شخصيَّة محوريَّة في الجدل النسطوريِّ الذي قاد إلى انعقاد مجمع أفسس سنة 431 ميلاديًّا. فيقول في التجسُّد: “بعد الجمع بين الطبيعتين في اتِّحاد حقيقيٍّ، فإنَّه بهما يوجد مسيح واحد وابن واحد”. مع الاحتفاظ أيضًا بخصائص كلِّ طبيعة منهما (Fourth Letter of Cyril to Nestorius, NPNF2 14:198). بالنسبة لكيرلس، فإنَّ الابن الأزليَّ لله اتَّخذ طبيعةً بشريَّةً واتَّحد بها بشخصه، في الجسد والنفس معًا. وفي أعقاب ذلك، شجب مجمع أفسس الفكر النسطوريَّ باعتباره هرطقة. وفي كلِّ كتاباته، بما في ذلك الكتابات التفسيريَّة الواسعة، أظهر كيرلس عميق امتنانه للاهوت نيقية من القرن الرابع، وعزَّز مكانته باعتباره الفهم الكتابيَّ الصحيح لله المثلَّث الأقانيم. وسيعتمد مجمع خلقيدونية سنة 451 ميلاديًّا بشكل كبير على تعاليم كيرلس في ما يتعلَّق بطبيعتَي المسيح، مؤكِّدًا أنَّ المسيح كان إنسانًا وإلهًا “دون اختلاط، أو تغيير، أو انقسام، أو انفصال؛ فالتمييز بين الطبيعتَين لا يلغيه الاتِّحاد بينهما بأيِّ حالٍ”. وسيؤكِّد مجمع خلقيدونية التأكيدات اللاهوتيَّة السابقة بشأن الثالوث، وسيصبح جزءًا من لاهوت الكنيسة الثالوثيِّ حتَّى يومنا هذا.
اعتبارات أوجِّهها للمسيحيِّين الإنجيليِّين
لدى الإنجيليِّين الكثير ليفكِّروا فيه عندما يتعلَّق الأمر بالفكر الثالوثيِّ في الكنيسة الأولى. أوَّلاً، دافعت الكنيسة الأولى بقوَّة عن الثالوث من الكتاب المقدَّس. لم يكن فهم الثالوث عملاً قائمًا على اجتزاء النصوص أو السفسطة الفلسفيَّة، بل استند بالأحرى إلى قراءةٍ عميقة لكلِّ الكتاب المقدَّس بقيادة الروح القدس. كان وعيهم الثالوثيُّ متغلغلاً في كتاباتهم وعبادتهم وشهادتهم. ثانيًا، من المهمِّ للكنيسة أن تتحدَّث بشكل صحيح عن الثالوث. فنحن لا نستطيع أن ندرك بالتمام عمق سرِّ الله المثلَّث الأقانيم، ومع ذلك لا ينبغي أيضًا أن نهمل عقيدة الثالوث. فتوجد أهميَّة لكيفيَّة فهمنا لدور كلٍّ من الآب والابن والروح القدس في فدائنا. ومن المهمِّ أيضًا أن نتناول عقيدة الثالوث بجديَّة عند الاقتراب من أيِّ عملٍ من أعمال الخدمة بالكنيسة، سواء كان ذلك اجتماع العبادة صباح الأحد أو درس الكتاب المقدَّس للشبيبة. أخيرًا، فإنَّ عقيدة الثالوث تميِّز المسيحيَّةَ عن أيِّ التزام دينيٍّ آخر. فالمسلمون، وشهود يهوه، وطائفة المورمون، والموحِّدون وغيرهم ممَّن يزعمون أنَّهم يعبدون الله، هم لا يعبدون الله المعلَن في الكتاب المقدَّس، وفي شهادة الرسل، وفي شهادة الكنيسة الأولى. وإن لم يكن الله الذي تعبده هو الآب والابن والروح القدس، فإنَّك تعبد إلهًا مزيَّفًا. لقد حاربَت الكنيسة الأولى بقوَّة من أجل اللاهوت الثالوثيِّ في أعقاب موجات متعدِّدة من الهرطقات. ونحن ينبغي أن نواصل النضال في سبيل عقيدة الثالوث اليوم.