هل نحن مشتَّتون عن النهضة الروحيَّة؟

كم أتوق وأصلِّي لأجل حدوث نهضة في كنيستنا اليوم! لكن كلَّما نظرت حولي، وتطلَّعت على حال الكنيسة في شتى البقاع، وكيف يظهر الفساد والدنيويَّة في سلوكيَّات المؤمنين على وسائل التواصل، مثلهم مثل أيِّ شخص آخر، أفقد الأمل في إمكانيَّة حدوث نهضة.

يوجد عديد من الأسباب وراء ميوعة شهاداتنا للإيمان ووهن حالتنا الروحيَّة. صحيح أنَّ رياح العالم والعلمانيَّة المضادَّة للإيمان حقيقة واقعة، والتأثيرات المُفسِدة للرفاهية ونمط الحياة الاستهلاكيَّة جليَّان بوضوح، لكن السبب الأكبر الذي يجعلني أشكُّ في حدوث نهضة روحيَّة في جيلنا هذا، هو البيئة التكنولوجيَّة المحيطة بنا، وكم نحن منجذبون بطريقة سلبيَّة لنعيش وفق شروطها ومبادئها. باختصار، نحن مشتَّتون للغاية لدرجة لا تمكِّننا من حدوث نهضة روحيَّة.

بالتأكيد تحدث النهضة عندما يبادر الله بذلك، ولا يمكن أن تضمن الكنيسة حدوث نهضة حتَّى ولو كانت في أفضل حالاتها الروحيَّة، ولا يمكن لها أن تمنع حدوث هذه النهضة حتَّى وهي في أسوأ حالاتها. إذ قد يختار الله حدوث نهضة حتَّى بين أكثر الأجيال بُعدًا وتيهًا عن الله.

بل إنَّ النهضة غالبًا ما تحدث في أكثر الأوقات تراجعًا وضعفًا في الكنيسة، عندما تنطفيء في الداخل أو تُضطهَد من الخارج، (أو ربَّما الاثنان معًا)، لتأتي إلى الله راكعةً. لكن ركوع الكنيسة لا يتحقَّق إلاَّ بالتوبة، وذلك لا يحدث إلاَّ عندما نُدرك بشاعة خطايانا ونطلب خلاص الله. هذا يتطلَّب منَّا أن نكون منفصلين عن العالم لفترة طويلة بما يكفي، لنتعامل مع ضعفنا الروحيِّ، ونسعى بحماس للحصول على علاجات الله الثمينة. لكنَّنا مشتَّتون للغاية لنفعل ذلك.

عوامل تشتيت مُنهِكة

فيما يلي ثلاثة عوامل قويَّة جدًّا للتشتيت، تجعل من حدوث نهضة في الكنيسة أمرًا صعب التحقيق:

1. نحن مشتَّتون باللهث وراء كلِّ ما هو جديد على وسائل التواصل بعيدًا عن تذوُّق جمال كلمة الله الخالدة.

كم من الوقت نُهدِر أنا وأنت يوميًّا على هواتفنا الخاصَّة، في متابعة أحاديث لا تنتهي على وسائل التواصل، سواء في قراءة تغريدات مثيرة للجدل، أو خُطَب تحزُّبيَّة لاذعة على تويتر، أو في الاِستماع إلى أحاديث هزليَّة على بودكاست، أو في مشاهدة محاضرات على يوتيوب، أو متابعة هاشتاج إنستجرام، أو مقاطع تيك توك السخيفة، أو حتَّى قراءة مقالة مثل التي تقرأها الآن، أو في أيٍّ من الأشياء الأخرى؟ والسؤال الآن، كم نقضي من الوقت نتعمَّق ونَنَهل من كلمة الله؟

إذا راجعت كلَّ هذا الكمِّ الهائل من الكلمات التي تدخل إلى عقلك، ستكتشف كم هي مدمِّرة، خاصَّةً لو وضعت في حسبانك مقارنة محتواها مع المحتوى الروحيِّ في كلمة الله. الكتاب المقدَّس يقدِّم لنا الكلمة الأزليَّ الذي به خُلق العالم، والذي يحمل العالم (عبرانيين 11: 3؛ 1: 3). أمَّا هواتفنا النقَّالة تقدِّم لنا كلمات سريعة النسيان، غالبًا تُنسى في غضون يوم (أو حتَّى ساعة).

لقد حدثت أعظم النهضات الروحيَّة في التاريخ، حين كان التركيز على الكرازة بالإنجيل ودراسته وتقدير كلمته. (الكلمة الأفضل)، أي المسيح، الذي يرتفع ويسمو فوق سيل الكلمات المتدنِّية المنتشرة حولنا.

هل لدينا أُذُن تُنصت إلى هذه الكلمة وسط كلِّ هذا الضجيج؟ هل نحن مدرَّبون على تخفيض أو تقليل الأصوات الكثيرة التي تسعى لتشتيتنا حتَّى ونحن نُصغي إلى صوت كلمة الله في الكتاب المقدَّس؟ إذا كنَّا ننتوي التخلُّص من هذه الحالة التي نحن عليها، ومن النزعة الاستهلاكيَّة التي تُصيبنا بالخَدَر، حينئذٍ يمكن أن تحدث نهضة حقيقيَّة. يجب أن تشغل كلمة الله الحيِّز الأكبر من اهتمامنا بالمعرفة.

2. نحن مشتَّتون بدوَّامة وسائل التواصل الاِجتماعيِّ عن الصلاة للإله الحيِّ.

تُعتبَر دوَّامة وسائل التواصل الاِجتماعيِّ تهديدًا للحياة المسيحيَّة السليمة. وهل لإبليس أن يفرح باختراع تكنولوجيٍّ أفضل من هذا! من دون شكٍّ هو الآن يقهقه في سرور غامر كلَّما رأى المؤمنين يتناولون بنهم هذا الطعام التكنولوجيَّ الفاسد، الذي يعدُّه لهم في وادي السليكون[1] ليقتنص كلَّ انتباههم واهتمامهم. فهل توجد خُطَّة أفضل من تقويض الخدمة المسيحيَّة والحياة الروحيَّة وقداستنا بملءِ كلِّ ثانية من حياة المؤمنين بسيل لا يتوقَّف من المحتوى على وسائل التواصل الاِجتماعيِّ، حتَّى لا يتبقَّى لدينا وقت لنصلِّي ونطلب الله ونتذوَّق جمال العشرة معه؟!

إذا كان حدوث النهضة يتزامن في أغلب الأحوال مع عودة الجميع بصلاة حارَّة وبلجاجة (صلاة مصارعة مع الله كما يدعوها اللاهوتيُّ مارك سايرس (Mark Sayers)، فكيف سيكون شكل هذه النهضة في كنيسة تزداد تشتُّتًا وبُعدًا عن الصلاة؟ في عالم تنتبه فيه كلُّ حواسِّنا عند سماع تنبيهات أو إعجابات جديدة، وتأسر عقولنا التعليقات على صورنا على إنستجرام، في حين نجاهد على الصبر وقت الصلاة (بخاصَّة الصلاة الفرديَّة) ونشعر كأنَّها مشقَّة كبيرة، فهل يوجد من يسمع؟ هل سيكون لديَّ الرغبة أو الدافع للكلام، ما لم يوجد تفاعل في الحال (إعجاب، تعليقات، إلخ) لتأييد أفكاري ودعمي في أزماتي؟

الصلاة تمثِّل صراعًا لكلِّ أجيال المؤمنين، لكنَّها أصبحت أصعب من ذي قبل، لأنَّنا في عصر لا يعرف السكون والهدوء. لقد أصبحنا نُشتَّت بمنتهى البساطة في ظلِّ وجود وسائل التواصل بعيدًا عن الوجود والاِشتياق إلى محضر الله. لكن إذا كنَّا نريد حدوث نهضة، نحن بحاجة لأن نريد أوَّلاً الوجود في محضر الله أكثر من أيِّ شيء آخر.

3. نحن مشتَّتون بالشكوى بدلًا من أن نتوب.

تشبه الكنيسة اليوم، كنيسة كورنثوس في العهد الجديد، مليئة بالمشاحنات والانقسامات الداخليَّة وكسر الشركة بسبب هذا الموضوع أو ذاك. أصبحنا أكثر توافقًا وتناغمًا في علاقتنا بالعالم الماديِّ من حولنا، ومن ثمَّ صرنا نساوم على أخلاقيَّاتنا. تشعل وسائل التواصل النزعة الجسدانيَّة فينا، فنقضي وقتًا أكبر في شجب واستنكار القذى في عين الآخرين ونتجاهل الخشبة التي في أعيننا (متى 7: 3-5).

إذا لاحظت المؤمنين على تويتر –على سبيل المثال- ستجد كلَّ طرف يصُبُّ جام غضبه على الطرف الآخر، يلومون بعضهم بعضًا على ضعف الكنيسة، يفكِّرون أيّ فريق ينبغي أن نبغضه وننبذه أكثر. لكن هل يوجد من يحتدم بشأن خطيَّته؟ هل يوجد شعور ملموس بأنَّ عدم قداستنا ونيات قلوبنا الفاسدة هي بالفعل ما يحرِّكنا اليوم؟ بالطبع لا.

لأنَّ وسائل التواصل تنهال علينا بسيل لا يتوقَّف من الأمور التي تسبِّب لنا الضيق والضجر، مثل: غياب العدالة في كلِّ أنحاء العالم، الهوس الجنسيّ الأعمى، العنصريَّة، التطرُّف، النفاق، التحرُّش، التحزُّبات والصراعات القبليَّة، إلخ. نشعر بالإعياء من كثرة هذه الأمور التي تجعلنا نشكو ونلوم فساد الآخرين بينما نتجاهل فسادنا وخطايانا. لكن النهضة لن تحدث ما لم يتوقَّف تشتُّتنا في الاهتمام بخطايا الآخرين ونهتمُّ بقداستنا نحن أمام الله. ليس مطلوبًا منَّا أن نتوقَّف عن شجب الظلم، أو استنكار الأمور الغبيَّة، بل المطلوب هو ألاَّ نعِظ أو نكتب آراءنا على تويتر لنلوم ونستنكر خطايا الآخرين دون أن نفحص قلوبنا. الكنيسة التي تبحث عن توبة الآخرين دون أن تنزعج لعدم توبتها، هي كنيسة لن ترى حدوث نهضة روحيَّة.

هل تطوق إلى حدوث نهضة روحيَّة؟ إذًا اِسعَ في إثرها.

ربَّما يقول بعض المسيحيِّين اليوم “نحن لا نتوق إلى حدوث نهضة”، لكن إذا كنَّا بالفعل نتوق إلى حدوث نهضة، بكلِّ تأكيد سيختلف نمط حياتنا. سنحدث تغييرًا ونُهيِّئ الفرصة لروح الله أن يعمل عملاً جديدًا في حياتنا المضطربة بسبب التشتيت. يمكنك أن تتوق بشدَّة إلى شيءٍ ما من الناحية النظريَّة، لكن ربَّما لن يتحقَّق هذا الشيء ما دامت ممارساتك اليوميَّة لا تتغيَّر.

إذا كان يوجد شابٌّ يبلغ 31 عامًا ويريد الزواج بشدَّة، لكنَّه ما زال يعيش في كنف والديه، يلعب ألعاب الفيديو طوال اليوم، وليس لديه عمل ثابت، ولا يهتمُّ بصحَّته الجسديَّة، فإنَّ مثل هذا الشخص، في الأغلب لن يتزوَّج أبدًا. نفس الأمر ينطبق على حالتنا الروحيَّة، إذا كنَّا نطلب بالفعل أن ننمو روحيًّا، أو حتَّى نطلب نهضة روحيَّة، إذًا يجب أن نخلع الإنسان العتيق (أفسس 4: 22)، نُميت خطايانا ونطلب حضور الربِّ بكامل انتباهنا وذهننا غير المشتَّت أو المنقسم.

كلَّما انتقص بداخلنا ذلك الإنسان الذي على شاكلة العالم (وقلَّت نقرات أصابعنا على هواتفنا النقَّالة)، وكلَّما اِزداد إنساننا الداخليُّ بتجديد أذهاننا (رومية 12: 2)، بواسطة قراءة الكتاب المقدَّس، والصلاة، وشركة المؤمنين، كلَّما صرنا أرضًا خصبة لحدوث نهضة روحيَّة. نعم النهضة الروحيَّة هي مبادرة إلهيَّة، وهي عمل النعمة الذي يعمله الله وحده، لكن يمكننا أن نصلِّي ونعيش لأجل النهضة.

ليتنا نصلِّي لأجل الخروج من انغماسنا في هذا التشتيت التكنولوجيِّ، كما صلَّى عزرا والمسبيِّين “لِيُنِيرَ إِلهُنَا أَعْيُنَنَا وَيُعْطِيَنَا حَيَاةً قَلِيلَةً فِي عُبُودِيَّتِنَا” (عزرا 9: 8).

[1] يقع وادي السليكون في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وهو موطن لأكبر شركات التكنولوجيا في العالم مثل: Google, Apple, Tesla… وغيرها، بجانب المتاحف التي تركِّز على التكنولوجيا مثل: متحف تاريخ الحاسوب ومتحف إنتل… وغيرها، وسُمِّيَ بهذا الاسم بسبب شرائح السليكون المستخدمة في الموصِّلات الحاسوبيَّة.

شارك مع أصدقائك